تعتبر الديمقراطية من المفاعيل الأساسية والجوهرية للتنمية الاقتصادية والسلم الاجتماعي، فبدونها لا يمكن تصور نجاح أي نموذج تنموي، يكون قوامه تحسين مناخ الأعمال والنهوض بالمقاولة الوطنية وجلب الاستثمارات الخارجية، بما يمكن من خلق فرص الشغل وتحسين ظروف العيش ومحاربة الفوارق الاجتماعية. وإذا كانت الديمقراطية تشكل مطلبا ضروريا لفعالية ونجاعة النموذج التنموي، فإنها ترتبط وجودا وعدما بمبدأ سيادة القانون، باعتباره الضامن الأساسي لتكريس الصورة الصادقة لدولة تخضع فيها مؤسساتها ومرافقها لحرمة القانون وسموه، وذلك على النحو الذي يجعلها مسؤولة عن جميع الأضرار الناتجة عن قيامها بوظائفها التنفيذية والقضائية، بل وحتى التشريعية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحريات والحقوق المكفولة دستوريا. واعتبارا لأهمية مبدأ سيادة القانون على المستوى العالمي وتأثيره في العلاقات الاقتصادية القائم بين دول العالم، وافق رؤساء الدول والحكومات في الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمي لعام 2005 على ضرورة إعمال مبدأ سيادة القانون على الصعيدين الوطني والدولي؛ بل وأكثر من ذلك، ظهرت مبادرات عالمية لوضع مؤشرات لقياس مدى امتثال الدول لهذا المبدأ، كما هو الشأن بالنسبة لمؤشر قياس سيادة القانون الصادر عن مشروع العدالة العالمي؛ إذ يتم على ضوئه ترتيب هذه الدول. وهو الأمر الذي جعل تقارير هذه المبادرات تقوم بدور أساسي في التأثير إيجابا أو سلبا، حسب حالة الترتيب، على قرارات الشركات الدولية بشأن نقل استثماراتها ومشاريعها الصناعية والتجارية، بما ينعكس على المصير الذي يؤول إليه النموذج التنموي المعتمد. إن الذي يؤكد تأثير مبدأ سيادة القانون على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتبعا لذلك على المصير الذي يؤول إليه كل نموذج تنموي يتم اعتماده، هو المعايير المعتمدة في مثل هذه التقارير الدولية؛ إذ يلاحظ من خلال تقرير مشروع العدالة العالمي حو مؤشر قياس سيادة القانون أنه تم الاعتماد على عدة معايير، ترتبط كلها ارتباطا وثيقا بالديمقراطية، هي: غياب الفساد والحكومة المفتوحة والحقوق الأساسية والنظام والأمن العام، وقوة إنفاذ القانون والعدالة المدنية والعدالة الجنائية. وتكريسا للوصف الديمقراطي للمملكة المغربية، ووعيا من هذه الأخيرة للمكانة التي يحتلها مبدأ سيادة القانون في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، نص دستور سنة 2011، في فصله السادس على ما يلي: "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاص ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له. تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة. ليس للقانون أثر رجعي". وبصرف النظر عن مسألة غياب تعريف تشريعي أو فقهي موحد لمبدأ سيادة القانون، يتضح، استنادا إلى المقتضيات الدستورية السالفة الذكر، أن مبدأ سيادة القانون يقوم على أساس أربعة أركان أساسية، هي: خضوع الدولة للقانون؛ المساواة أمام القانون؛ تراتبية القوانين؛ عدم رجعية القوانين. ورغم التكريس الدستوري لمبدأ سيادة القانون بجميع أركانه الأربعة، فإن جميع التقارير الدولية والوطنية تؤكد في مضمونها ومعطياتها وخلاصاتها على وجود أزمة انتكاس سيادة القانون. فعلى مستوى تقارير مؤشر سيادة القانون الصادرة عن مشروع العدالة الدولي، شهد المغرب تراجعا كبيرا في مجال تكريس سيادة القانون؛ إذ بعدما كان يحتل، خلال سنة 2016 المرتبة الستين (60) أضحى سنة 2018 يحتل المرتبة السابعة والستين (67)، وكذا المرتبة الرابعة والسبعين (74) خلال سنة 2019. وعلى مستوى تقارير المؤسسات الدستورية والإدارية الوطنية، ينبغي الوقوف على خلاصات مؤسسة وسيط المملكة المضمنة في تقاريره السنوية، وتقرير المجلس الأعلى للحسابات حول تقييم تدبير المنازعات القضائية للدولة، وكذا تقارير الوكالة القضائية للمملكة، والتي من خلال تحليلها ودراستها يتضح أن هناك مبدأ سيادة القانون يشهد أزمة صارخة كانت سببا رئيسيا في عرقلة مجهودات الدولة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه من شأن عدم إيجاد الحلول الكفيلة بمعالجتها أن يعرقل النموذج التنموي المنشود. وفي هذا الإطار، أورد السيد وسيط المملكة في تقريره برسم سنة 2012، ما يلي: "الإدارة التي تستملك عقارات من يد أصحابها ولا تؤدي مقابلها، رغم الحكم القضائي لا يمكن وصفها سوى بالغاصب والمعتدي، ولا يوجد مغربي يرضى للإدارة هذا الموقف". كما سجل وسيط المملكة تقريره برسم سنة 2013، ما يلي : "إن الموضوع ليس وليد اليوم، لكن، الإشكالية هي أن حجم المديونية ارتفع، والمخيف أن تلتصق بالإدارة صفة المعسر أو الممانع عن التنفيذ. لقد تم طرح الموضوع ما يقرب ربع قرن، بمناسبة إحداث المحاكم الإدارية، وكان الموضوع أن توضع قواعد خاصة بتنفيذ الأحكام في مواجهة الإدارة، وقيل عن حق أن الإدارة لا يمكن أن تكون مميزة وعليها أن تخضع للقانون، في إطار المساواة، لأنها أول من يجب أن تبادر إلى التنفيذ على اعتبار أنه لا يتصور فيها العجز أو التعنت، ويجب أن تبقى في منظور الجميع مليئة الذمة ترضخ لقوة الأحكام القضائية مع مراعاة الإجراءات المحاسبتية التي على الإدارة احترامها، دون أن يكون ذلك مبرر لتعطيل التنفيذ". وكذلك أكد في نفس التقرير على ما يلي:" الإدارة هي المصداقية هي الهيبة هي الأمن، ولذلك لا يمكن التسليم بأن الأفراد يجدون في الإدارة العرقلة والرفض والتأخير الذي يولد الإحساس بأنها فوق القانون". ومن جانب آخر، يتضح بالرجوع إلى تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2015 حول تقييم تدبير المنازعات القضائية للدولة، أنه فضلا انعدام المعطيات الدقيقة التي تعطي الصورة الصادقة عن عدد المنازعات المرفوعة ضد جميع إدارات الدولة، فإن المجلس الأعلى للحسابات سجل أن إدارات الدولة ومرافقها لا تحترم القانون وتتعمد في انتهاكه وخرقه، خاصة فيما يتعلق بقضايا العقار إذ تعمد إلى الاعتداء المادي على عقارات الخواص دون اللجوء إلى مسطرة الاقتناء بالمراضاة أو مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة؛ كما سجل أيضا أنه خلال الفترة الممتدة من سنة 2006 إلى غاية سنة 2013 أصدرت محاكم المملكة ضد الدولة عشرة آلاف وسبعة وستون ( 1067) حكما وقرارا ضد الدولة يقضي في مواجهتها بأداء تعويض من ميزانية الدولة بسبب اعتدائها على أملاك الخواص يساوي مبلغا قدره 4.420.969.826,38 درهم، أي بمعدل قدره 550 مليون درهم سنويا. فإذا كانت قضايا الاعتداء المادي تشكل نوعا واحدا من بين أنواع القضايا المرفوعة ضد الدولة يستغرق هذا الحجم من الأموال العمومية، فإن السؤول المطروح الذي لا يوجد له جواب دقيق يتمثل ما هي الكلفة الإجمالية لجميع القضايا المرفوعة ضد الدولة؟ علما أن هذه المبالغ المالية المستنزفة من المالية العمومية كان من المفروض تخصيصها وصرفها إنشاء المشاريع الاقتصادية والاجتماعية وتنفيذ مرتكزات النموذج الاقتصادي، وذلك عوض صرفها في تغطية أخطاء التدبير الناتجة عن انتهاك المرافق العمومية لمبدأ سيادة القانون. وزيادة على ذلك، فإنه بالرجوع سواء إلى تقرير المجلس الأعلى للحسابات أو تقارير الوكالة القضائية للمملكة، يتضح أنها تؤكد أن المحاكم تصد ضد أحكام تصل إلى تتراوح كمعدل 40 في المائة سنويا؛ الأمر الذي يؤكد أن القضاء يقف على أن أربعين في المائة من قرارات وتصرفات مرافق الدولة يشوبها خرق القانون؛ مما يبرهن عن وجود أزمة سيادة القانون، تشكل سببا رئيسيا في تعطيل البرامج والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت هذه التقارير تؤكد كلها عن وجود أزمة سيادة القانون في ركنه المتعلق بخضوع مرافق الدولة للقانون، فإن لهذه الأزمة مظهرا آخر اضحى يمس ركن ثان لمبدأ سيادة القانون يتمثل في مبدأ دستورية القوانين وتراتبيتها، إذ عوض أن يتم معالجة الأزمة من خلال ما خلصت إليه تقارير مؤسسة وسيط المملكة والمجلس الأعلى للحسابات، أصبحت الأزمة تتعمق من خلال تكريس انحراف تشريعي وتجريد القاعدة القانونية من طابعها المجرد؛ ولعل خير مثال على ذلك النقاش الدائر حول المادة التاسعة من قانون المالية لسنة 2020 بشأن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهة الدولة وانتهاكها لمبدأ سيادة القانون في ركنه المتعلق بالمساواة أمامه والمنصوص عليه في الفصل السادس؛ وهناك أمثلة كثيرة على الانحراف التشريعي كمظهر من مظاهر أزمة سيادة القانون. إن مصير النموذج التنموي المرتقب اعتماده رهين بمدى إيجاد حلول كفيلة بتسوية أزمة سيادة القانون، ووقاية التصرف العمومي من مخاطر الاعتداء واغتصاب حقوق الخواص، كما جاء في تقرير مؤسسة الوسيط. ويمكن في هذا الصدد التفكير في خلق التأشيرة القانونية، إلى جانب التأشيرة المالية، لنفاذ على الأقل بعض القرارات الإدارية وتصرفاتها المادية.