مذكرة تقديم يهدف هذا المقترح إلى إحداث هيئة قضايا الدولة، في إطار الفصل 159 من دستور المملكة المغربية الجديد لسنة 2011 ، يناط بها ترسيخ الحكامة القانونية الجيدة داخل المرافق العمومية لوقايتها من المخاطر القانونية عبر تقديم استشاراتها واقتراحاتها لهذه المرافق ومواكبة قراراتها الإدارية واتفاقياتها وعقودها، وكذا الدفاع عنها أمام المحاكم الوطنية والأجنبية وأمام هيئات التحكيم الوطني والدولي في جميع الدعاوى والمنازعات سواء كانت فيها مدعية أو مدعى عليها. ويتألف مقترح القانون المذكور من ثلاثة أقسام، يتعلق الأول منها بأحكام عامة تنص على الغرض والمبادئ التي تحكم إحداث هيئة قضايا الدولة؛ في حين يرتبط القسم الثاني بالاختصاصات والتنظيم وهو بذلك يتكون من بابين، الأول يتناول في خمسة فروع الاختصاصات الموكولة لهيئة قضايا الدولة التي تتمثل أساسا في التمثيل والدفاع، وتنفيذ الأحكام القضائية ومحاضر الصلح، والوقاية من المخاطر القانونية، وإبرام المصالحات، والتحكيم بين الهياكل القانونية؛ كما يتناول الباب الثاني تنظيم هيئة قضايا الدولة في خمسة فروع مخصصة لأحكام التأليف، وصلاحيات الرئيس الأول وكيفية تعيينه، ودور الكتابة العامة في تسيير الشؤون الإدارية للهيئة، ولطريقة سير العمل، ولوضعية الأعوان الإداريين والتقنيين العاملين بها. أما القسم الثالث، فهو مخصص للنظام الأساسي لمستشاري هيئة قضايا الدولة، إذ يتكون من خمسة أبواب، ينظم الأول المقتضيات العامة المنظمة لسلك المستشارين المقررين؛ والباب الثاني يتطرق في ثلاثة فروع لوضعية المستشارين الملحقين توظيفا وتدريبا وتأديبا؛ وينظم الباب الثالث الأحكام القانونية المطبقة على المستشارين المقررين في ثلاث فروع ترتبط بالحقوق والواجبات، والترقية والأجور والوضعيات، والتأديب؛ أما الباب الرابع يضع أحكاما تتعلق بمجلس هيئة قضايا الدولة من حيث تركيبته واختصاصاته المتمثلة أساسا في النظر في الشؤون الوظيفية لأعضاء هيئة قضايا الدولة وفي إعداد النظام الداخلي الضابط لقواعد تسيير الهيئة وفروعها وتقدير سنويا النفقات اللازمة لها؛ وأخيرا الباب الخامس ويرتبط بمقتضيات انتقالية وختامية. ويقترح إحداث هذه الهيئة لتحل محل الوكالة القضائية للمملكة التي تعتبر، في ظل وضعيتها الراهنة، جهازا إداريا تابعا للوزير المكلف بالمالية تنحصر مهمتها الأساسية في الدفاع عن الدولة المغربية في دعاوى التصريح بمديونيتها التي لا علاقة لها بالضرائب أو ريع أملاك الدولة. وقد اقتبسها المغرب سنة 1928، تحت تسمية مؤسسة العون القضائي للدولة الشريفة، من النموذج الفرنسي الذي كان يعتمد على مؤسسة العون القضائي للخزينة؛ إذ شهدت هذه المؤسسة عدة تعديلات كان آخرها التعديل الذي وقع بمقتضى ظهير 2 مارس 1953 المتعلق بإعادة تنظيم وظيفة العون القضائي للمملكة (التي أصبحت تعرف فيما بعد بالوكالة القضائية للمملكة). هذا، وقد سجلت الوكالة القضائية للمملكة في تقرير نشاطها برسم سنة 2011، أنها توصلت سنة 2010 ب 13.756 قضية ضد الدولة معروضة على مختلف محاكم المملكة، مستنتجة من خلال ذلك أن هذا العدد عرف انخفاضا خلال سنة 2011 حيث وصل عدد الملفات الجديدة إلى 11.364، أي بنقص يساوي 2392 قضية. وارتكازا على هذه المقارنة الحصرية بين سنتي 2010 و 2011، اعتبرت الوكالة القضائية للمملكة أن هذا الانخفاض يشكل : «مؤشرا إيجابيا يستشف منه بأن تصرفات وقرارات الإدارة تتسم بالحيطة والحذر وتتجه أكثر نحو المشروعية...»، إذ خلصت إلى أن « هذا التوجه له انعكاسات إيجابية على خزينة الدولة، على اعتبار أن المنازعات تتولد عنها مصاريف تثقل كاهل ميزانية الدولة، سواء فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارات العمومية في شقها المالي، أو بتسيير مرفق العدل، وهذا يؤثر على مصداقيتها وعلى تنافسية اقتصادها». وبناء على هذه الخلاصة، يتضح أن الهدف المبتغى من وراء المقارنة العددية للقضايا المرفوعة ضد الدولة أمام محاكم المملكة، يتمثل في قياس مدى اتصاف تصرفات وقرارات الإدارة بالحيطة والحذر وكذا مدى توجهها نحو المشروعية، وذلك اعتبارا لكون هذا القياس يشكل وسيلة لتحديد الانعكاسات المالية التي ترتبها تلك المنازعات القضائية على الأموال العمومية وعلى مصداقية الدولة وتنافسية اقتصادها. إلا أن هذه المقارنة العددية تظل منعدمة الجدوى مادامت العبرة في قياس مدى مشروعية تصرفات الإدارة ليس بعدد القضايا المرفوعة ضد الدولة، وإنما بالمآل الذي آلت إليه هذه الأخيرة بعد فصل وبت المحاكم في موضوعها بصفة نهائية؛ وبتعبير أكثر دقة، فإن قياس نسبة المشروعية في تلك التصرفات يتطلب، بالموازاة مع ذلك، تحديد نسبة الأحكام القضائية الصادرة لفائدة الدولة وتلك التي صدرت ضدها، كما يتطلب أيضا تحديد مدى تأثير تلك الأحكام بنوعيها على الأموال العمومية. وزيادة على ذلك، يلاحظ أن المقارنة العددية التي اعتمدتها الوكالة القضائية للمملكة تظل في حد ذاتها ناقصة وغير مرتكزة على أساس سليم، وذلك عند اعتماد مقارنة شمولية، وليست حصرية، للإحصائيات المسجلة خلال السنوات الأربع الممتدة من سنة 2007 إلى غاية سنة 2011، والمعتمدة من طرف هذه المؤسسة في تقرير نشاطها برسم سنة 2011. وفي هذا الإطار، فحسب الرسم البياني المتعلق بتطور عدد المنازعات القضائية المفتوحة خلال هذه السنوات الأربع، والوارد بالصفحة 6 من التقرير في صيغته باللغة العربية، وبالصفحة 7 من ذات التقرير في صيغته باللغة الفرنسية، يتضح أن عدد المنازعات القضائية المرفوعة ضد الدولة بلغ ما يلي: السنوات عدد المنازعات القضائية المرفوعة ضد الدولة أمام محاكم المملكة 2007 10.921 2008 10.993 2009 12.880 2010 13.756 2011 11.364 واعتمادا على مقارنة هذه المعطيات، يتضح أنه خلال سنة 2007، باعتبارها سنة الانطلاقة في التقييم، تم توجيه دعاوى ضد الدولة المغربية بلغ عددها 10.921 دعوى قضائية؛ في حين يلاحظ كذلك أنه خلال سنة 2011، باعتبارها سنة تشخيص الوضع الراهن وتحديد النتائج، وصل عدد هذه الدعاوى إلى 11.364 دعوى قضائية، وهو ما يعني أن الارتفاع ما زال مستمرا في عدد الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الدولة، وخصوصا إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار أن الطابع الغالب هو الارتفاع المضطرد لعدد القضايا من سنة إلى أخرى مع انخفاض استثنائي ناذر يقع بعد مرور عدة سنوات ليعاود الارتفاع من جديد؛ وهو الأمر الذي يتأكد إذا ما تم الرجوع إلى تقرير النشاط للوكالة القضائية للمملكة برسم سنة 2010 حيث يلاحظ أن عدد القضايا المرفوعة ضد الدولة بلغ سنة 2006 ما يناهز 12.798 قضية لينخفض هذا العدد سنة 2007 إلى 10.921 قضية ثم ليرتفع سنة 2008 إلى 10.993 قضية، وليرتفع كذلك سنة 2009 إلى 12.880 قضية، وليرتفع كذلك سنة 2010 إلى 13.756 قضية. وبناء على ذلك، فمادام الطابع العام هو الارتفاع المضطرد لعدد القضايا، فإنه باعتماد معيار التطور العددي لهذه الأخيرة، كما فعلت الوكالة القضائية للمملكة في تقرير نشاطها لسنة 2011، يمكن أن يستشف عكس ما خلصت إليه هذه الأخيرة، أن مرافق الدولة ما زالت متجهة بشكل أكثر حول خرق مبدأ المشروعية والاعتداء على الحقوق والحريات التي تكفلها القوانين لباقي الأشخاص الطبيعيين والمعنويين؟؟؟؟؟. وأمام عدم مصداقية وسلامة معيار التطور العددي للمنازعات القضائية المرفوعة ضد الدولة في قياس وتقييم مدى توجه نشاط مرافق هذه الأخيرة نحو المشروعية، فإنه يكون من اللازم البحث عن معيار آخر يحدد بدقة مآل هذه المنازعات فيما إذا كانت آيلة في الغالب والرجحان نحو صدور أحكام لفائدة الدولة أو نحو صدور أحكام صادرة ضد هذه الأخيرة، وكذا مدى انعكاس هذه الأحكام القضائية على الأموال العمومية. فبالرجوع إلى تقرير نشاط الوكالة القضائية للمملكة برسم سنة 2011 ( الصفحة 17 و 18 من التقرير بصيغته باللغة الفرنسية)، يتضح أن مآل القضايا خلال السنة المذكورة كان هو صدور أحكام لفائدة الدولة بلغت نسبتها 54 في المائة من مجموع هذه القضايا، في حين أن الباقي الذي يشكل 46 في المائة كانت أحكاما صادرة ضد الدولة. غير أنه، وبمقارنة هذه النسب مع نظيراتها المسجلة في تقرير النشاط برسم سنة 2010، يلاحظ أنها لم تعرف تغييرا بالمطلق إذ بقيت مستقرة في نفس المستوى؛ في حين عرفت هذه النسب تراجعا كبيرا، ذي مفهوم مخالف للنتيجة الإيجابية، عند مقارنتها بالتقارير السنوية السابقة، ومثل ذلك حصيلة الوكالة القضائية للمملكة برسم سنة 2006 بحيث يلاحظ أن نسبة الأحكام الصادرة لفائدة الدولة بلغت 66 في المائة، وهو يفيد تسجيل انخفاض في هذه النسبة بمقارنتها مع مثيلتها برسم سنتي 2010 و 2011 التي لم تتجاوز خلالهما نسبة 54 في المائة؛ في حين أن نسبة الأحكام الصادرة ضد الدولة برسم سنة 2006 كانت لا تتعدى 34 في المائة، وهو ما يفيد تسجيل ارتفاع في هذه النسبة برسم سنتي 2010 و 2011 التي بلغت خلالهما 46 في المائة. وانطلاقا من هذه المعطيات المتعلقة بمآل القضايا المرفوعة ضد الدولة، يلاحظ بخصوص سنتي 2010 و 2011 أن 46 في المائة من المنازعات القضائية للدولة تصدر بشأنها أحكام قضائية ضد هذه الأخيرة؛ ومن تم يطرح التساؤل التالي : هل ما يقارب نصف أعمال الإدارة ومرافق الدولة وأنشطتها التي تقع تحت مراقبة القضاء تتصف بخرق مبدأ المشروعية؟، وإذا ما تم استحضار ارتفاع هذه النسبة خلال هاتين السنتين عند مقارنتها مع نظيرتها المسجلة إبان سنة 2006 بحيث كانت لا تتعدى 34 في المائة، فهل مرافق الدولة تتجه بشكل تصاعدي نحو خرق مبدأ المشروعية؟. ثم ومن زاوية الأحكام الصادرة لفائدة الدولة والتي بلغت خلال سنتي 2010 و 2011 نسبة 54 في المائة من المنازعات القضائية المرفوعة ضدها، فهل انخفاضها، بمقارنتها مع تلك المسجلة برسم سنة 2006 بحيث بلغت 66 في المائة، يفيد كذلك أن مرافق الدولة متجهة نحو نفس المنحى المتمثل في خرق القانون؟؟؟. وفضلا عن هذه الأسئلة، فمادام التزام مرافق الدولة بمبدأ المشروعية له انعكاس مباشر ومؤثر على الأموال العمومية، فما هي الانعكاسات المالية لتلك الأحكام بنوعيها؟. وخصوصا إذا ما علمنا أنه قد يكون في صدور حكم واحد ضد الدولة في قضية واحدة مرفوعة ضد الدولة من مجموع تلك القضايا، وقع سلبي على الأموال العمومية يتجاوز الوقع الإيجابي الذي قد يحققه صدور عدد كبير من الأحكام الصادرة لفائدة الدولة؛ وهذا التساؤل لا يوجد له بالمطلق جواب في تقارير النشاط التي تصدرها الوكالة القضائية للمملكة خلال كل سنة؟؟؟؟ فكيف يمكن تحديد الجواب عن ذلك؟. إن هذه التساؤلات التي تثيرها المنازعات القضائية للدولة، تفرض البحث في إشكالية أكبر تتمحور حول مكانة الوكالة القضائية للمملكة في ظل هذه المنازعات؛ فهل هناك معوقات تحول دون تمكنها من ممارسة مهمتها الأساسية المتمثلة في الدفاع القضائي بشكل أفضل من شأنه الحد من الانعكاسات السلبية لهذه المنازعات على المال العمومي؟؟؟. وهل لديها من السلطات والإمكانيات التي تؤهلها للقيام بدور أكبر يتمثل في وقاية مرافق الدولة من المخاطر القانونية التي قد تجرها للمنازعات القضائية ؟؟، وهل يترتب عن تحويل الوكالة القضائية للمملكة إلى هيئة قضايا الدولة كهيئة مستقلة عن باقي السلطات على غرار ما هو معمول به في العديد من الدول، تعزيز مكانتها لكي تقوم بأدوار جديدة متمثلة في ترسيخ أسس الحكامة القانونية الجيدة ومرتكزات المحاربة الفعالة للفساد؟؟؟، وخصوصا أن تلك الأسس والمرتكزات تشكل الأساس الذي يقوم عليه مقترح القانون رقم 07 المتعلق بإحداث هيئة قضايا الدولة الذي تقدم به الفريق الاشتراكي بمجلس النواب بتاريخ 19 شتنبر 2012، وهو ما سيأتي بيانه كالآتي: أسباب تقديم المقترح لقد كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على الدوام واعيا تمام الوعي بخطورة الفساد السياسي والإداري والاقتصادي والمالي المرتبط بتدبير الشأن العام وممارسة المسؤولية العمومية، هذه الخطورة التي تهدد المجتمع في العمق وتهز ثقة أبنائه في المسؤولين العموميين والفاعلين السياسيين بل وفي المؤسسات والاختيار الديمقراطي نفسه. ولأجل ذلك، اختار الحزب لما كان في المعارضة المساهمة في تخليق الحياة العامة عبر تقديم مقترحات قوانين خاض من أجلها عدة نضالات وقدم مناضلوه تضحيات كبيرة كان هدفها إنقاذ البلاد من مختلف مظاهر الفساد التي كانت تنخر ثرواته الاقتصادية وتهدد تماسكه الاجتماعي والسياسي. وعند تقلده لمسؤولية تدبير الشأن العمومي في إطار حكومة التناوب بقيادة الوزير الأول السيد عبد الرحمن اليوسفي الذي كان آنذاك كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سار هذا الحزب على نفس النهج القائم على أساس محاربة الفساد وترسيخ أسس الحكامة الجيدة لرد الاعتبار لمبدأ المشروعية والتزام السلطات العمومية بالقوانين الجاري العمل بها، وذلك من خلال وضع ميثاق لحسن التدبير وإقرار قوانين تهدف إلى دعم مؤسسات الرقابة على صرف الأموال العمومية وإلى تبسيط المساطر الإدارية تشجيعا للتنافسية الاقتصادية وجلب الاستثمارات الخارجية. وها هو اليوم، يتقدم من موقعه كمعارضة بمقترح قانون لإحداث هيئة قضايا الدولة تساهم إلى جانب المؤسسات والهيئات الأخرى، كل واحد حسب تخصصه، في ترسيخ الحكامة القانونية الجيدة والمحاربة الفعالة للفساد، إيمانا منه بكون المعارضة تشكل قوة اقتراحية في ظل دستور المملكة المغربية الجديد لسنة 2011. وفي سياق بيان الأسس الدستورية والقانونية للمقترح المذكور، تجدر الإشارة إلى أنه اعتبارا لقيام النظام الدستوري للمملكة المغربية على عدة مبادئ تجعل منه نظاما ديمقراطيا وتشاركيا قوامه الفصل بين السلط وترسيخ أسس الحكامة الجيدة ومرتكزات ربط المسؤولية بالمحاسبة، تطبيقا لمقتضيات الفصل الأول من الدستور الجديد، كان من اللازم إخضاع جميع السلطات في الدولة لمبدأ المشروعية الذي يقتضي من المرافق العمومية الامتثال لسيادة القانون. ويستفاد من هذا المبدأ الدستوري، أن سيادة القانون تسري على الأفراد والسلطات العمومية على حد سواء، بحيث إذا كان من واجب الأفراد احترام حقوق ومصالح السلطات العمومية، فإنه في مقابل ذلك تكون هذه الأخيرة ملزمة باحترام الحقوق والحريات الممنوحة للأفراد بمقتضى القوانين الجاري بها العمل. وإذا كان تقيد المرافق العمومية بمبدأ المشروعية في تصريف أعمالها يضفي على الدولة الوصف الديمقراطي المبني على الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، فإنه في مقابل ذلك يترتب عن عدم امتثالها لهذا المبدأ الدستوري عدة انعكاسات سلبية تجعلها عرضة للمساءلة القضائية من خلال نشوء نزاعات وإقامة دعاوى ضدها تؤدي إلى صدور أحكام قضائية نهائية تقضي في مواجهتها بأداء تعويضات من الأموال العمومية، وذلك فضلا عن زعزعة الثقة العامة في الدولة وما ينتج عن ذلك من مساس بأمنها الاقتصادي والاجتماعي وكذا باستقرارها السياسي. وإذا كان هاجس مراقبة مدى احترام مرافق الدولة لمبدأ المشروعية قد استدعى من الدولة المغربية إحداث هيئات ومؤسسات تختص بالنظر في تصرفات مرافقها المخالفة للقانون أو المنافية لمبادئ العدل والإنصاف (مؤسستي الوسيط والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمحاكم الإدارية)، فإن ذلك لم يحل دون تحمل الدولة تبعات وتكاليف المخاطر القانونية الناتجة عن تلك التصرفات، باعتبار أن مراقبة هذه الهيئات تأتي بعد الإخلال بمبدأ المشروعية وليس قبله، فضلا عن كون هذه المراقبة لا تحول دون ممارسة الحق الدستوري المتمثل في مقاضاة المرافق العمومية أمام مختلف المحاكم، وهي المقاضاة التي تترجم نتائجها على أرض الواقع بالازدياد المضطرد في عدد الأحكام والقرارات القضائية النهائية التي تقضي بالحكم على المرافق العمومية بأداء مبالغ مالية ضخمة تثقل ذمة الأموال العمومية، وهي الأحكام التي أصبحت تطرح إشكاليات كبرى تدور نقاشاتها أمام المؤسسة التشريعية وتثير تساؤلات مقلقة حول مدى التزام هذه المرافق بمبدأ المشروعية. ومما لا شك فيه، فإن غياب الآليات القانونية والمؤسسية للحكامة الجيدة والترشيد السليم للسلوك القانوني للمرافق العمومية، المتمثل أساسا في مختلف القرارات التي تتخذها والاتفاقيات التي تبرمها هذه الأخيرة، قد ساهم بشكل كبير في عرقلة تفعيل قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة التي تقتضي بدورها إسناد المسؤولية للأطر التي يفترض فيهم عدم ارتكاب أخطاء قانونية تتحمل الأموال العمومية نتائجها التي لا تكون سوى سلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. واعتبارا لانعكاسات المخاطر القانونية الناجمة عن تصرفات أشخاص القانون العام وآثارها السلبية على الأموال العمومية، بادرت الدول الديمقراطية إلى إحداث هيئات ومؤسسات تعمل على وقاية مرافقها من المخاطر القانونية من خلال ملاءمة أعمالها وتصرفاتها مع القانون بغية تجنيبها تبعات وتكاليف دخولها في المنازعات، وعند وقوع هذه المخاطر العمل على الحد من آثارها السلبية على المال العمومي عبر تمثيلها والدفاع عن مصالحها أمام القضاء الوطني والأجنبي؛ بل وأكثر من ذلك عبر إقامة الدعاوى نيابة عنها ضد كل شخص اعتدى على ثوابتها وممتلكاتها العمومية (هيئات وإدارات قضايا الدولة). ونظرا للدور الريادي الذي تضطلع به هذه الهيئات في محاربة الفساد وتكريس أسس الحكامة الجيدة عبر توطيد مبدأ المشروعية وترشيد السلوك القانوني لمرافق الدولة ووقايتها من المخاطر القانونية، عملت العديد من الدول على تكريس الاستقلالية العضوية والوظيفية لهذه الهيئات. وتتم الإشارة في هذا الصدد، إلى النموذج الأمريكي الذي أحدث مؤسسة المحامي العام «The General Attorney » الذي يمثل الدولة في الولاياتالمتحدةالأمريكية ويتم تعيينه من قبل الرئيس ويتمتع بالعضوية داخل ديوانه، والنموذج الإيطالي الذي أحدث مؤسسة محامي الدولة «Avvocatura dello Stato» التابع مباشرة لمجلس الوزراء والمكلف بالدفاع عن مصالح الدولة أمام المحاكم الوطنية بالتعاون مع مجلس الدولة، والنموذج القبرصي الذي تمثل فيه الدولة من طرف المحامي العام الذي يتم تعيينه من طرف رئيس الجمهورية بحيث يضطلع، بالإضافة إلى مهام التمثيل والدفاع القضائي، بمهمة الحفاظ على القانون والنظام العام، والنموذج المصري الذي أحدث هيئة قضايا الدولة وجعل منها هيئة قضائية مستقلة ، والنموذج الأردني الذي أحدث بموجب القانون رقم 14 لسنة 2010 إدارة قضايا الدولة، والنموذج الإسباني الذي أحدث هيئة قضايا الدولة كهيئة مستقلة عن الجهاز الإداري مكلفة ليس فقط بالدفاع والاستشارة وإنما كذلك بتوجيه الإدارة بغية تجنيبها سلبيات إقامة النزاع أمام القضاء، والنموذج التونسي الذي هو حاليا بصدد تحويل الإدارة العامة لنزاعات الدولة إلى هيئة لقضايا الدولة، كهيئة مستقلة تتكلف بضبط تصرفات أشخاص القانون العام وجعلها ملائمة لمبدأ المشروعية، وكذا الدفاع عن مصالحها وأموالها العمومية أمام الأجهزة القضائية الوطنية والدولية. وبالنسبة للمغرب، اقتبس المشرع سنة 1928 مؤسسة العون القضائي للمملكة من النموذج الفرنسي، بحيث شهدت هذه المؤسسة عدة تعديلات كان آخرها التعديل الذي وقع بمقتضى ظهير 2 مارس 1953 المتعلق بإعادة تنظيم وظيفة العون القضائي للمملكة (التي أصبحت تعرف فيما بعد بالوكالة القضائية للمملكة). وتعتبر الوكالة القضائية للمملكة، في ظل وضعيتها الراهنة، جهازا إداريا تابعا للوزير المكلف بالمالية تنحصر مهمتها الأساسية، وعلى خلاف الجاري به العمل في باقي الدول الديمقراطية الأخرى، في الدفاع عن الدولة المغربية في دعاوى التصريح بمديونيتها التي لا علاقة لها بالضرائب أو ريع أملاك الدولة. وقد أبانت التطورات السريعة التي شهدها المغرب في ميدان صيانة الحقوق والحريات واتساع مجالات تدخل المرافق العمومية، عن ضعف مؤسسة الوكيل القضائي للمملكة كأداة مؤسسية لتكريس مبدأ المشروعية من خلال ترشيد السلوك القانوني لهذه المرافق ووقايتها من المخاطر القانونية، وكذا للدفاع عن أموالها ومصالحها العمومية أمام القضاء الوطني والأجنبي. وتتمثل أهم الأسباب المؤدية للضعف الذي تعاني منه هذه المؤسسة في عدم مسايرة إطارها القانوني المحدث لها لمختلف التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي مرت منها المملكة المغربية، إذ يعود هذا الإطار إلى سنوات الحماية التي كانت تتميز بغياب دستور للمملكة المغربية يجعل من مبدأ المشروعية أساسا لنظام حكمها. وفضلا عن هذا السبب التشريعي، فإن لضعف مؤسسة الوكيل القضائي للمملكة أسباب أخرى ترتبط أساسا بتبعيته للسلطة التنفيذية التي من المفروض أن يدقق في سلوكها القانوني ويساهم تبعا لذلك في ترشيده، وكذا بالصلاحيات والاختصاصات المخولة له بموجب إطاره القانوني، إذ يغيب فيه كل اختصاص يسمح له بالقيام بدور فعال في وقاية المرافق العمومية من المخاطر القانونية، وكذا في رصد وتشخيص الأسباب الكامنة وراء إخلال هذه الأخيرة بمبدأ المشروعية وبالتالي تغييب دوره ومساهمته مع باقي المؤسسات الأخرى، بحسب اختصاصها، في تفعيل مبدأي ربط المسؤولية بالمحاسبة والمحاربة الفعالة للفساد. ولأجل ذلك، كان من اللازم إعادة النظر بشكل جدري في الإطار القانوني والمؤسسي للوكالة القضائية للمملكة، بما يتيح توسيع مهام واختصاصات هذه المؤسسة، من خلال تحويلها إلى هيئة قضايا الدولة، وذلك على غرار ما هو معمول به في باقي الدول الديمقراطية. وفي السياق الرامي إلى إعادة النظر في الإطار القانوني لهذه المؤسسة، ينبغي التذكير بأن المملكة المغربية سبق لها المصادقة على العديد من الاتفاقيات والقرارات اتجاه العديد من المنظمات الدولية، منها اتفاقية الأممالمتحدة المتعلقة بمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب والتي تفرض على الدول الأعضاء إحداث هيئات متخصصة في مكافحة الفساد، وعلى الأخص تلك التي لها اختصاص ذي طبيعة قضائية ينيط بها إقامة الدعاوى أمام المحاكم الأجنبية الرامية إلى استرجاع الأموال المنهوبة أو إلى المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي تلحق بمصالح وحقوق الدولة المغربية من جراء جرائم الفساد؛ ومنها أيضا القرارات المتخذة في إطار مجلس وزراء العدل العرب التي صادق عليها المغرب والقاضية بالمصادقة على توصيات مؤتمرات رؤساء هيئات أو إدارات قضايا الدولة، وخصوصا التوصيات الصادرة عن المؤتمر السادس المنعقد بالرباط خلال الفترة الممتدة من 18 إلى 22 يونيو من سنة 2007، والتي من أهمها تلك التوصيات التي تحث الدول الأعضاء التي لا توجد بها هيئة قضايا الدولة على إحداثها كهيئة مستقلة. من هذه المنطلقات القائمة على أسس الحكامة الجيدة والترشيد السليم للسلوك القانوني للمرافق العمومية، وكذا على مرتكزات المحاربة الفعالة لظاهرة الفساد المستلزمة لضرورة ووجوب ربط المسؤولية بالمحاسبة، تبرز الحاجة الملحة لإحداث هيئة مستقلة في نطاق تطبيق الفصل 159 من دستور المملكة الجديد، تسمى «هيئة قضايا الدولة» يناط بها ترسيخ حكامة قانونية جيدة في السلوك العمومي من خلال إسنادها وظائف تتمحور حول وقاية المرافق العمومية من المخاطر القانونية في القرارات التي تتخذها والعقود والاتفاقات التي تبرمها، وكذا من خلال تمكينها بوظائف تقريرية في تدبير منازعات الدولة هدفها المساهمة الفعالة في محاربة الفساد وتفعيل قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة. تلكم هي الأسباب الداعية إلى تقديم مقترح قانون يقضي بإحداث هيئة قضايا الدولة.