لا تزال الحدود الفاصلة بين ثنائية "حرية التعبير" و"ارتكاب الجنايات" ترخي بظلالها، في الآونة الأخيرة، على المشهد الحقوقي والسياسي والتشريعي المغربي، خاصة بعدما قال حسن عبيابة، الناطق الرسمي باسم الحكومة، إن المتابعين على خلفية آرائهم وأفكارهم "لا يفرّقون بين التعبير الحرّ وارتكاب الجنايات". وتفاعلا مع الموضوع، قال محمد الهيني، محام وقاض سابق، إن النقاش العمومي المحتدم اليوم حول حرية التعبير يتأرجح بين تيارين مختلفين، أحدهما يعتبرها حرية مطلقة لا تقبل التقييد ولا التجزيء، ويرى المتابعات القضائية، التي تحركها النيابة العامة في حق ناشري المحتوى الرقمي المسيء، بأنها بدون أساس قانوني ولا واقعي، وهو التيار الذي يمثله نشطاء حقوق الإنسان مثل أحمد رضى بنشمسي وخديجة الرياضي والمعطي منجب وغيرهم من أتباع جماعة العدل والإحسان. أما أنصار التيار الثاني، يضيف الهيني، فيتشبثون بالطرح القائل إن حرية التعبير حق دستوري وقيمة كونية، لكن ممارستها والتمتع بها يخضعان معا لتقييدات واستثناءات تحددها القوانين الوضعية الوطنية، مستندين في ذلك على مقتضيات المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ومعززين طرحهم بالنصوص الجنائية الوطنية التي تعاقب على جرائم القول والتعبير، من تشهير وإهانة وقذف وإفشاء للسر المهني والتبليغ عن جرائم وهمية والإشادة بأفعال إرهابية... وأضاف المحامي ذاته أنه "قبل الترجيح بين التيارين، والقول أيهما يجسد فلسفة المشرعين المغربي والدولي، ينبغي الإشارة أولا إلى أن خلفية هذا السجال العمومي سياسية، رغم أن مخرجاته قانونية، فالأمر يعبر، في نظري، عن أزمة كبرى تتمثل في انتكاسة العمل السياسي ومحدودية المبادرة التشريعية للفاعل البرلماني في ظل الحكومتين المتعاقبتين، اللتين ترأسهما حزب العدالة والتنمية، في فترة حاسمة ومفصلية كان فيها المغرب يشهد وصول وسائل التواصل الحديثة وتقنيات المعلومات إلى عموم المواطنين دون أن يوازي ذلك أو يمهد له تقعيد قانوني سليم، يحدد المعايير المؤطرة والضابطة لحرية التعبير مثلما وقع في التشريع الفرنسي على سبيل المثال لا الحصر". وعن انتشار وسائط التواصل الجماهيري، وتنامي التدوين الافتراضي على منصات التواصل الاجتماعي، قال الهيني إنهما "استبقا في المغرب صدور المدونة الجديدة للصحافة والنشر، وسبقا أيضا التعديلات والتحيينات المرتقبة على قانون الاتصال السمعي البصري، بسبب نكوص العمل التشريعي الحزبي، وهو ما جعل المدونين والمغردين و"اليوتوبرز" المغاربة يعتقدون أو يتوهمون للوهلة الأولى بأن حرية التدوين الرقمي ببلادنا حرية مطلقة ولا تخضع لأي ضوابط قانونية"، مضيفا أن "هذا الأمر هو الذي زاغ بالعديد منهم وانساق بهم نحو اختراق حميمية الأشخاص الذاتيين والمعنويين، والإساءة إلى اعتبارهم الشخصي، علاوة على مختلف مظاهر المساس بسمعة وصورة المؤسسات الدستورية الوطنية". وقال القاضي السابق إن "هذا التباين الزمني الحاصل بين التدوين الرقمي والتشريع المقنن له بالمغرب يذكرني بحالة "السمنة" التي ضربت شرائح واسعة من مواطني دول الخليج العربي، وتحديدا دولة الكويت في وقت سابق من بداية الألفية الثالثة، إذ تحسنت الظروف المعيشية بفضل الطفرة النفطية السريعة والمفاجئة حتى قبل أن تنضج الثقافة الغذائية عند رعايا تلك البلدان، والنتيجة كانت تزايد معدلات السمنة بشكل مخيف في صفوف النساء والشباب، لأن الكل أقبل على تناول مختلف المأكولات بنهم كبير بدون ثقافة غذائية رشيدة ومتوازنة". وفي حديثه عن "حال التدوين الرقمي بالمغرب"، قال الهيني: "في الوقت الذي يجد الصحافي نفسه مثقلا بعدة إملاءات مهنية ومقتضيات قانونية تؤطر عمله، نجد، على النقيض من ذلك، المدون أو المغرد أو "اليوتوبر" لا يعترف بأي حدود أو كوابح قانونية، إذ يكفيه أن يقف أمام كاميرا هاتفه المحمول أو حاسوبه الشخصي ليشرع في السب والقذف والتشهير...، وهي المسألة المجرمة قانونا في كافة الشرائع والمواثيق الدولية، وبموجب كل النصوص الجنائية الوطنية". وختم الهيني تفاعله مع النقاش الدائر حول "حرية التعبير بين السياسة والقانون" بالتأكيد على ضرورة "تطوير النقاش العمومي اليوم بالمغرب، والارتقاء به من نقاش سطحي يزايد فقط على حرية التعبير، ويتراشق بالتهم المجانية مع أجهزة العدالة الجنائية، إلى نقاش تشريعي مندمج يقنن حرية التعبير، ويقطع الطريق على انزلاقات المحتوى الرقمي المسيء إلى حقوق الأفراد والجماعات، ويعزز، في المقابل، ضمانات حماية وصون حرية التعبير، بشكل متوافق ومتوازن لا يكون فيه مجال للشطط أو التجاوز، ويحول قدر الإمكان من كل مظاهر الإفراط والتفريط".