بعد جدل محتدم وطول انتظار، سحبت الأمانة العامة للحكومة مشروع قانون «المدونة الرقمية» من موقعها الرسمي، وذلك بعدما وضعته بغية تلقي الملاحظات حوله قبل عرضه على البرلمان. كان للضجة التي أثارتها الوثيقة على مواقع التواصل الاجتماعي أثرها الفعال، فتوقف مسارها التشريعي، إلى حين إعادة النظر فيها. وكان وزير الاتصال مصطفى الخلفي عارض مشروع «المدونة الرقمية»، معتبرا ان «القوة الأساسية لشبكة الإنترنت تكمن في تطورها بفعل أوكسجين الحرية والتعبير عن الرأي، وحشد الدعم للقضايا والمواقف (...) وبالتالي لا يمكن ضبطها بآليات خارجية». ورأى الخلفي أن المحتوى العربي على الإنترنت «يشكل بالنسبة إلى الشباب مصدرا أساسيا للمعلومة والخبر، وليس فقط آلية للترفيه والمحادثة، بل للتعبير عن الرأي وحشد الدعم لقضية أو موقف ما»، مشددا على ان «تطوير المحتوى الإلكتروني يكون بمساحات الحرية والمبادرة المسؤولة، وأخلاقيات البحث والبث، وأخلاقيات المهنة بالنسبة إلى المواقع الإخبارية»، مقرا بتشجيعه «الالتحام بالنقاش العالمي لتطوير محتوى الإنترنت، واستثمار الإمكانات الهائلة». ويعلق تابث العربي، وهو باحث في الإعلام الإلكتروني، على مشروع القانون قائلا: «بعد قراءة سريعة لما تضمنه مشروع المدونة الرقمية «المسحوب»، والذي أثار ضجة إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي، تأكد لي أننا شعب يثيره كل جديد، بحيث أثار النشطاء تسمية «المدونة الرقمية» أكثر مما أثارتهم المقتضيات التي يتضمنها المشروع، والدليل أن غالبية المقتضيات التي نص عليها المشروع إن لم أقل كلها، ليست جديدة، وإنما هي مجرد تجميع لمقتضيات مجموعة من القوانين صدرت في غفلة لم يتنبّه إليها أحد، ومن بين هذه النصوص: »قانون الصحافة والنشر»، خصوصا التعديلات التي لحقته منذ 2002، والقانون المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، والقانون المتعلق بتحديد تدابير لحماية المستهلك، والقانون المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي». ويشير العربي إلى أن «الجدل الذي أثارته بعض مقتضيات مشروع قانون المدونة الرقمية، والتي اعتبرتها بعض الجهات الحقوقية مقيدة للحرّيات، كشف غياب التنسيق والتنظيم التشريعي من جهة، وانعدام المسؤولية السياسية عما تقدمه القطاعات الحكومية من مقترحات ومشاريع قوانين من جهة ثانية». «معجم»... للسلطات الأمنية في المقابل، يسير المدون شكري خالد في اتجاه توضيح الأمور تقنياً أكثر، بقوله: «يعتقد كثر أن مصادقة الحكومة على مشروع المدونة الرقمية ستفتح الباب أمام مراقبة العالم الافتراضي، كال «فيسبوك» و«تويتر»، لكن للأسف هذا كلام خاطئ». فوحدة المعلوماتية في أجهزة الأمن تعمد على تتبع كل المعطيات الواردة والصادرة عبر خطوط الاتصالات المغربية، وذلك من خلال نظام يسمى «المعجم». هذا المعجم يضم في نسخته الأميركية 3500 كلمة مجرد وجودها في أي مراسلة أو منشور كاف لقراءتها والحكم عليها بالمتابعة أو الأرشفة، وهو مطابق لنظام «أشلون» الأميركي. والغريب ان كلمات مثل «رئيس» أو «ملعب» تحيلك مباشرة إلى الدرجة القصوى من المتابعة والتحليل، فالأمن يفهم كلمة «رئيس» على أنها احتمال اغتيال أو مضايقة أو استفزاز. أما كلمة «ملعب»، فهناك احتمال تفجير أو شغب... الخ. وفي ما يتعلق ببعض الحسابات الإلكترونية الناشطة، فيجري إعداد تقارير حولها دوريا، خصوصا لأصحاب الصفحات ومديري المجموعات، لتتبع أعمالهم وطريقة رد الفعل تجاه الحدث بصفتهم فاعلين مؤثرين خلال أي حدث. ويرى خالد ان «المراقبة ليست وليدة اليوم، وتتعدد أساليب الرقابة، مثل تقنين عمل الأسماء المستعارة، ما سيعطي الأجهزة الأمنية قوة التدخل قانونيا لمصادرة أي موقع وملاحقة صاحبه». وكان غالبية المغردين المغاربة على «تويتر»، وبينهم نشطاء حقوقيون ومدوّنون وصحافيون، طالبوا بضرورة التصدي لمسودة المدونة «المعدة لقمع الآراء والتضييق على حرية التعبير في العالم الافتراضي»، وذلك عبر حسابات على «تويتر» تحمل شعارات »عصيان إلكتروني« ضد المدونة الرقمية. ورأى هؤلاء أن المصادقة على مشرع قانون «المدونة الرقمية» كان من شأنه أن يحدّ من حرية الصحافة الإلكترونية في المغرب، خصوصا أن المشروع يتضمن عقوبات تسلب الحرية وغرامات شديدة، مثل حبس أصحاب المواقع الإلكترونية في حالات كثيرة. وتصل العقوبات التي ينص عليها القانون إلى 5 سنوات وغرامة مالية تصل إلى 100 ألف درهم ضد كل من «قام عبر مواقع الإنترنت أو وسيلة اتصال رقمية بسرقة المكالمات الهاتفية أو التنصت أو التقاط أو تخزين الاتصالات الخاصة، باستثناء المرخص لهم بذلك قانونا بموجب قرار قضائي».
عقوبات بالسجن! ينص مشروع قانون «المدونة الرقمية» على فرض عقوبات بالسجن على كل من يقدم على نشر صور القاصرين واستعمالها في شكل غير أخلاقي، باعتباره «مشاركا جنائيا في تحريض قاصر على ممارسة نشاط يعرضه للخطر بأي طريقة». لكن القانون لا يتوقف فقط على القضايا الأخلاقية، وإنما حتى القضايا الأمنية أيضا، إذ ينص مشروع القانون على عقوبات ضد كل من »ينشر بيانات تمكن من صنع أجهزة دمار معدة انطلاقاً من مسحوق أو مواد متفجرة أو من مواد نووية«. ويمنح مشروع القانون عناصر الشرطة القضائية »حق المشاركة في مبادلات إلكترونية باسم مستعار وربط الاتصال بأشخاص مشتبه في ارتكابهم جرائم إلكترونية«. ويتضمن قانون »المدونة الرقمية« 114 فصلاً، والفقرة الأولى من الفصل 73 استأثرت بأوسع نقاش، بسبب العبارات الغامضة التي يمكن أن يؤدي تطبيقها وتأويلها من طرف القضاء والأجهزة الأمنية، إلى وضع أشبه بحظر التعبير عن الآراء المخالفة، سياسياً وفكرياً. وتقول هذه الفقرة: »تمنع المحتويات المسيئة التي تظهر، صراحة او ضمنياً، سواء بالصور أو بالكلمات، مشاهد عنيفة او مخالفة للأخلاق الحميدة والنظام العام، او عناصر يمكن ان تشجع على التعسف أو عدم الاحتياط او الإهمال أو يمكن ان تتعارض مع الدين الإسلامي او المعتقدات السياسية للعموم، أو الحياة الخاصة للأفراد، أو عناصر تستغل انعدام تجربة القاصرين وسذاجتهم«. وتكمن خطورة هذه الفقرة، وفق الحقوقيين، في عباراتها الفضفاضة والقابلة للتأويل في ما يتعلق بالأخلاق الحميدة والدين الإسلامي والمعتقدات السياسية. ويقول الإعلامي مبارك لمرابط: «صحيح أن كثيرا من الأخطار تكمُن في ثنايا هذا الكون اللانهائي (إرهاب، جريمة... دعارة)، وهي الأخطار التي تتخذها السلطات المغربية ذريعة لتضييق عيون هذه الشبكة الكونية والحد من «شرور» ما قد تولده «كلماتها»، فإن الهدف الأساس الذي تسعى إليه ليس القضاء على تلك المعارضة الجديدة وكتم صوتها، بل عزلها وجعل صوتها مجرد همس غير مسموع، وقطع أي امتداد لها في المجتمع حتى لا يتمدد تأثير كلمتها، كما نجحت في عزل المعارضات السابقة وكبح تأثير كلمتها». ويرى انه «كيفما كانت الحال، وكيفما كانت الصيغة التي سيعود بها مشروع «المدونة الرقمية»، فإنها ستظل هشة مثل بيت العنكبوت ويمكن اختراقها أو الالتفاف عليها لأنها ستظل دائما قاصرة عن التحكم في خيوط هذا الكون. فالشبكة العنكبوتية مثل أرض الشاعر المغربي الكبير أحمد بركات، تلك الأرض التي ليست لأحد... بل هي لمن لا يملك مكانا آخر للتعبير بكل حرية وصدق». وكان المغرب صُنف في المرتبة الثانية عربياً من حيث الأمن الإلكتروني. وجاء التصنيف الذي كشفه تقرير عن المؤشر العالمي للأمن الإلكتروني، والذي يطرح عددا من الأسئلة حول قدرة المغرب على مواجهة التهديدات الإلكترونية ومحاولات الاختراق. المؤشر منح المغرب 0.558، في مقابل 0.765 لدولة عمان التي احتلت المرتبة الأولى على صعيد الدول العربية، بينما جاءت مصر في المرتبة الثالثة عربيا بمعدل 0.5 . في المقابل، وضع التقرير المغرب في المرتبة الأولى على الصعيد الأفريقي، من حيث نسبة السكان الذين يستفيدون من الخدمات الإلكترونية، لكنه في الوقت ذاته صنف المغرب ضمن الدول التي تعاني ضعفا على مستوى المؤسسات التي تشرف على ملف الأمن الإلكتروني في البلاد. لكن الترتيب الذي حصل عليه المغرب أخيرا في مجال الأمن الإلكتروني لا يتماشى مع تصنيف المؤسسة الدولية لحماية المعطيات، والتي صنفت المغرب كثالث دولة أفريقية مهددة من حيث أمن الإنترنت، إذ إن عدد محاولات الاختراق ارتفع خلال السنة الماضية بنسبة 42 في المئة، وهو ما يضع المغرب في «منطقة الخطر» من حيث عدد الاختراقات التي تعرفها المواقع الإلكترونية.