استطاعت الأيديلوجية اليسارية الصمود في وجه النظام الليبرالي لما يزيد عن قرن ونصف. فهي قد جربت في شتى بقاع العالم، عرفت نجاحات وإخفاقات، كما هو حال تجربة نظام السوق الحر. لكن في العشرية الأخيرة بدأت الدول الاشتراكية من العراق مرورا بليبيا وصولا إلى سنتياغو تتهاوى كقطع الدومينو. هذا الاندحار لثاني أهم إيديولوجية في التاريخ الحديث لا يقتصر فقط على بلدان العالم الثالث، بل ينخر أيضا دعامات الأحزاب اليسارية في أوروبا الغربية كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا والنمسا وألمانيا. ستقتصر المتابعة في هذا المقال حول مآل الحزب الاجتماعي الديموقراطي في ألمانيا (SPD)، لكن الحالات والملاحظات تتشابه. كيف تحولت النجاحات إلى إخفاقات: في شتنبر من سنة 1998 عاد الحزب الاجتماعي الديموقراطي إلى سدة الحكم في برلين بعد غياب دام 16 سنة قضاها الحزب في كرسي المعارضة. حينها كان شعور عام بالتفاؤل في المستقبل يعم المجتمع الألماني وعقلية تميل إلى ترجيح السياسات الديموقراطية وتثبيت بناء الدولة الاجتماعية وكانت العدالة الاجتماعية من أهم مطالب الرأي العام. لكن خمس سنوات فقط من حكم الرفاق كانت كافية لتحطيم آمال المواطنين. تعارضت سياسات الحزب مع انتظارات الشعب بشكل صارخ. وهكذا لم يفقد الحزب فقط جوهره، بل أيضا الثقة، المصداقية، المناصرين والناخبين. في الانتخابات الأخيرة في ولاية بيرن على سبيل المثال حصل الحزب الاجتماعي على أقل من 10 في المائة وأصبح يحتل المرتبة الخامسة فقط. كما أظهرت استطلاعات الرأي أجريت حديثا، أن النسبة نفسها فقط ستمنح صوتها للحزب في حالة أقيمت الانتخابات ويحتل بذلك المرتبة الرابعة فقط في الخريطة السياسية الألمانية. الانتخابات الأوروبية كانت أيضا كارثية على الحزب الاجتماعي الديموقراطي. فبعد الإخفاق سنة 2014 ب 3،15 في المائة هوى الحزب في الانتخابات الأوروبية صيف 2019 إلى 7 في المائة. ومن بين ما يؤخذ على الحزب أيضا هو مشاركته في الحكومة الحالية تحت قيادة السيدة ميركل، حيث يقدم الحزب الاشتراكي الانطباع، بأنه يكتفي بدور ثانوي وبأن السيدة ميركل عن حزب الاتحاد المسيحي الديموقراطي (CDU) وزيهوفر (Seehofer) عن حزب الاتحاد المسيحي الاشتراكي(CSU) يقومون بدور البطولة ويكتفي الرفاق بدور الكومبارس. مشكل الحزب هو مشكل هوياتي أيضا. فبعد الانتخابات الاتحادية الأخيرة، أدرك الحزب، أن هناك شيئا يجب تغيره إن هو أراد الاستمرار في تحمل مسؤوليات البلاد. لكن مجمل وزراء الحزب المشاركين في الحكومة الحالية ورئيسة الحزب السابقة أندريا ناهلس (Andrea Nahles) يعتبرون من الحرس القديم. يضاف إلى ذلك، أن الحزب لم يتوفق في تسويق نجاحاته في فترات مشاركته الأخيرة في الحكم بين عموم المواطنين. كما أن تغيير القيادة على ما أعتقد لم يكن موفقا. فاختيار ساسكيا إيسكن (Saskia Esken) ونوربرت فالتر بوريانس (Norbert Walter-Borjans) لقيادة المرأة العجوز –كما يطلق على الحزب الاجتماعي الديموقراطي في ألمانيا- على ما يبدو تقليدا أعمى لحزب الخضر وأقصى اليسار في قيادة برأسين. كما أن بعض المتتبعين يشككون في أن يتمكن الاثنان من البقاء لأكثر من سنة على رأس الحزب، ليسقطا ويسقط معهما الحزب في أزمة أكبر قد تقسم ظهر الحزب إلى الأبد. سبب آخر يقف وراء انتكاسة الحزب هو ذو طبيعة بنيوية في المجتمع الألماني. ففي سنة 1863 تشكل الاتحاد العام للشغيلة الألمانية (ADAV) كنتيجة طبيعية لوجود الطبقة العاملة، التي خرجت من رحم النهضة الصناعية في القرن 19 والتي كانت تتجمع في أحياء ومناطق بأكملها وكان الاتحاد صوت هذه الفئة. هذه الطبقة بمفهومها التاريخي قد اختفت مع التحولات الاقتصادية التي عرفتها وتعرفها ألمانيا منذ تسعينات القرن الماضي، تراجع القطاع الصناعي لحساب قطاع الخدمات كمثال حي على هذا التحول. لكن الحزب فشل في أن يتأقلم مع هذه التغيرات ويصير من حزب الشغيلة إلى حزب المستخدمين الموجودين في شتى القطاعات. إحدى الضربات القوية، التي تلقاها الحزب لم تأت من خصومه، بل كانت من قبضة جرهارد شرودر، رئيس الحزب والمستشار السابق سنة 2010. مع إصلاح سوق الشغل أو ما يطلق عليه إصلاحات هارتس (Hartz-Reformen) نسبة لوزير التشغيل آنذاك. هذه الإصلاحات كانت ضرورية للاقتصاد الألماني، لكنها شكلت منعطفا في علاقة الحزب بقواعده. فثمن هذه الإصلاحات دفعته الطبقة الشغيلة، التي لم تغفر للحزب تفعيل هذا القانون. فكيف هو الخلاص من هذه الورطة التي لا يحسد عليها الحزب، والتي تعتبر صورة لأزمة السياسة في ألمانيا بأسرها؟ ماذا يجب فعله قبل فوات الأوان؟ يفتقر الحزب الاجتماعي الديموقراطي لإجابات حول أهم قضايا العصر مثل: كيف نتعامل مع العولمة وتبعاتها؟ أو كيف نواجه المخاوف المترتبة عن الرقمنة والروبوتيك؟ ماذا عن الشباب والبيئة في حسابات الحزب؟ أو ليس هناك سياسات اقتصادية بديلة للخروج من الركود الاقتصادي الناتج عن سياسات السوق؟ الذي يسجل عتبات نمو لا تفي بالغرض، الذي يتمثل في ازدهار يمس جميع فئات المجتمع وليس المتنفذين فقط والحفاظ على مكتسبات الماضي المتمثلة في أنظمة التقاعد والأنظمة الصحية والاجتماعية والتي خرجت من كنف اليسار. كما أن موقفا واضحا من الحروب وتبعاتها كالهجرة القصرية، سيجعل أطيافا من كل طبقات المجتمع الرافضة للعنف تصطف في صفوف اليسار. الوقوف إلى جانب النقابات في الدفاع عن حقوق جميع المشغلين. زد على ذلك تقديم سياسات اقتصادية سليمة من شأنها امتصاص ضغط الهجرات، وتمكين جميع فئات المجتمع من حظوظ في سوق الشغل عبر نظام تعليمي جيد وعادل وبذلك تجنيب المواطن البسيط مرارة الدخول في التنافس حول مناصب الشغل مع المهاجرين. ومن ثمة صون الهوية الوطنية ونزع البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف. هذا الاندحار لوسط اليسار يواكبه صعود نجم اليمين المتطرف في أنحاء أوروبا قاطبة، الحزب الذي أصبح يتحدث باسم كل من تخلف عن ركب التحول السوسيواقتصادي، الذي تعرفه أوروبا. على اليسار إن هو أراد الرجوع إلى سكة النجاحات ولعب دوره كفاعل في المجتمع التركيز إذن على ثالوث: الأمن والازدهار وتوفير حظوظ النجاح لأفراد المجتمع كلهم، ولكن دائما بلمسة إنسانية تخاطب أكبر عدد ممكن من الناس في مجتمع موحد ومتضامن. *أستاذ باحث بشعبة اللغة الألمانية بكلية الآداب ظهر المهراز- فاس