تشكل الواحات المغربية عموما وواحات الجنوب الشرقي على وجه الخصوص مجالا خصبا للدراسة والتحليل والتنقيب، على اعتبار أن الجنوب الشرقي المغربي يعتبر منطقة كبيرة لانتشار القسم الأوفر من المنظومة الواحية الوطنية، وذلك بالنظر إلى ما تكتنزه الواحات من تراث غزير ومتنوع وثقافة وحضارة غارقة في القدم، وهذا يدل على عمق وغنى الرصيد التاريخي بالواحة المغربية، إلا أنها في المقابل ظلت تعاني وتصارع من أجل التفاوض مع قساوة الظروف الطبيعية وندرة الإمكانات الاقتصادية، وهنا تكمن المفارقة الغريبة والعجيبة في الآن نفسه التي تعيشها واحات الجنوب الشرقي تحديدا. فالمتأمل لوضعية وحال ومآل الواحات سيدرك أنها تعيش ركودا تنمويا للأسف الشديد، فحال الواحة مغربيا لم يرق إلى المستوى المطلوب لتحقيق تنمية حقيقية والخروج بها من وضعية غير مرغوب فيها إلى وضعية مرغوب فيها. وهذا المقال القلق والبسيط يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات ممكنة، فهو يسعى بالأساس إلى محاولة للفهم والتفسير لما يقع فوق المجال الواحي من تحولات وتغيرات على كافة المستويات، ويركز على حال واحات درعة وغريس ودادس وزيز، وذلك بالاعتماد على الملاحظة والمعايشة داخل واحة درعة وتتبع بعض مساراتها التنموية المعطوبة والمؤجلة، ولنا أن نتساءل: لماذا يتم استمرار هدر الواحات وتغييبها في المخططات التنموية؟ هل التوصيف الثنائي الذي تركه الاستعمار-المغرب النافع والمغرب غير النافع-سيظل لصيقا بواحات الجنوب الشرقي حتى في السياسات التنموية بالمغرب؟ أما آن الأوان لرفع الحرج على هذه الواحات وتأهيلها على كافة المستويات للنهوض بها باعتبارها تراثا وثقافة غنية لتحقيق التنمية؟ وبأي معنى ستظل واحات الجنوب الشرقي منسية وممنوعة من الصرف في البرامج التنموية؟ أي دور للفاعلين المحليين في تأهيل الواحة وتنميتها والتعريف بإرثها الحضاري والثقافي؟ هل هي أزمة مخططات وبرامج أم أزمة تفعيل وتنزيل ومتابعة للمشاريع على أرض الواقع هناك؟ وهل هناك مستقبل تنموي للواحة أم إنها في طريقها إلى الانمحاء؟ ربما تجد هذه الأسئلة الملتهبة أكثر من مبرر لها كلما اتجهنا صوب الواحات لنشاهد ونفهم ونفكك ما يعتمل فيها من إشكالات وأعطاب متواصلة، إنها أسئلة حارقة تؤرق وتفزع كل من حاول أن يجيب عنها، فحال الواحة في هذا الراهن شديد التعقيد والالتباس، خصوصا وأن فهم الوضعية الراهنة يتطلب من المثقف والمهتم نوعا من الحفر الأركيولوجي في تاريخها لفهم سياقات الحاضر والآني، وفهم الأعطاب التنموية وفشل المخططات التي لا تتناسب وخصوصيات الواحة شكلا ومضمونا. كما أن دراسة وفهم المشاكل الحقيقية التي تعاني منها يفترضان العودة إلى التاريخ والدراسة الميدانية وإقامة صلح مع مختلف التخصصات، خاصة العلوم الاجتماعية، كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والجغرافيا وغيرها من الحقول المعرفية، ولهذا في اعتقادي المتواضع لا بد من التأشير في البدء على أن واحات الجنوب الشرقي المغربي تعرضت لثلاثة جروح كبرى في تاريخيها، ولا بد من فهمها بشكل نسقي وتركيبي وفهم داء العطب القديم الذي مازال يعيق ويعرقل التنمية بالواحة. فالجرح الأول الذي مازال لم يندمل هو الجرح الاستعماري، فواقعة الاستعمار وما صاحبها من أحداث سياسية في المنطقة شكلت منعطفا كبيرا ومهما في تاريخ الواحات، والدراسات التي أنجزها المستعمر عن المنطقة هي دراسات ساردة وعارضة وواصفة بالدرجة الأولى، كما أنها محملة بنزعة إيديولوجية استعمارية، وبالتالي لا تسعف كثيرا في فهم تاريخ الواحات وما لحقه من تغيرات وتحولات مست الإنسان والمجال؛ فالمستعمر استطاع أن يتحكم ويدبر الموارد، خاصة الماء والأرض باعتبارهما أس الاستقرار والمقاومة لقساوة الظروف بالواحة، فضلا عن التقسيمات المجالية التي عمل المستعمر من خلالها على تقسيم المغرب جغرافيا إلى مغرب نافع وآخر غير نافع وفقا لاستفادته من الموارد والخيرات الطبيعية، فلم تكن الواحات تشكل له مصدرا وثروة للنهب والاستفادة والتمتع بخيراتها، وإنما شكلت له مصدر إزعاج وقلق سياسي وعسكري قبلي لمقاومته وطرده. وبالتالي، اعتبر الواحة حلبة للصراع القبلي والعسكري بينه وبين القبائل من جهة، وبين القبائل فيما بينها من جهة أخرى، وقد كان لهذا التصور الذي بني في الواقع على أهداف ايديولوجية مبطنة بدوافع مزعومة تتعلق بالحفاظ على خصوصيات المنطقة آثار سلبية ظلت تشكل عائقا أمام تنمية هذا المجال. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه تم تهميش المنطقة وإقصاؤها، على اعتبار أنها المنطقة التي ظلت منذ قرون تحتل موقعا مركزيا داخل شبكة قوافل السودان الغربي، الأمر الذي جعلها منطقة للتحكم والمقاومة والصراع؛ فمغرب السيبة يخبرنا بأن تاريخ الواحات هو تاريخ صراع قبلي وإثني بامتياز، ولهذا فتاريخ الواحة يحمل ندوبا وذكريات وجراحات ربما كانت هي السبب في هدمها وإهدار طاقاتها وتهميشها. يمكن أن نتحدث عن جرح ثان مازال متواصلا بشكل يدعو إلى التساؤل والاندهاش وهو الجرح السياسي والتنموي؛ فالمغرب بعد الاستقلال ظل محافظا على تقسيمات وتصنيفات استعمارية ومتشبثا بالإرث الاستعماري، فقد عملت الدولة على نزع الأراضي من أصحابها بعد خروج المعمر ولم يستفد منها إلا كبار وأباطرة الملاكين ممن كانت لهم اليد مع المعمر الفرنسي، بالإضافة إلى التقسيم الجهوي وما يطرحه من إشكالات، خاصة التقسيم الأخير لجهة درعة تافيلالت باعتبارها جهة تفتقر إلى الكثير من الإمكانات التي تؤهلها لتحقق استقلاليتها التنموية التامة بالاعتماد على مواردها وإمكانياتها، بل إنها لم تستطع أن تحقق حتى استقلاليتها في اتخاذ القرار فمازالت تابعة ومرتبطة بجهات مركزية. وبالتالي، تظل جهة درعة باعتبارها تضم عددا مهما من الواحات (واحة درعة، وغريس، ودادس، وزيز) من أفقر الجهات الوطنية، فقد ظلت الازدواجية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية بين "المغرب النافع والمغرب الآخر" سائدة طويلا حتى في عهد الاستقلال، إلى درجة أصبحت معها منطقة واحات المغرب الجنوب-الشرقي، خلال سنوات خرق حقوق الإنسان بالبلاد، تشكل المجال المفضل لإقامة المراكز غير القانونية لاحتجاز الأفراد ونفيهم، وقد اشتهرت في هذا الباب معتقلات تازمامارت وأكدز وقلعة مكونة وتكونيت... وبذلك، تم ترسيخ الصورة النمطية السلبية الإلغائية والإقصائية حول هذا المجال المهدور، وتكريس وضعية الجهل بغنى حضارته الغارقة في أعماق التاريخ وبتنوع موارده الطبيعية وبمخزونه الثقافي الذي يطبع الشخصية المغربية بشكل عميق، فهل هناك مراعاة لخصوصية هذه الجهة الواحية بامتياز في السياسات العامة والعمومية أم إنها مازالت يصدق عليها توصيف المغرب المقصي والمنسي؟ ومن المؤسف أنه في مستوى آخر هناك استمرار للجراحات التي تعيق وتعرقل الفعل التنموي، والحديث هنا عن الجرح الثالث الذي كان من المفترض أن يعمل على تضميد الجراحات سالفة الذكر والتأسيس لتنمية محلية حقيقية والنهوض بوضعية الواحة، وهو الجرح المحلي من طرف الفاعلين المحليين والإنسان الواحي عموما. للأسف الشديد، فالإنسان الواحي باعتباره مقاوما ومتفاوضا مع الطبيعة الواحية وخصوصياتها لم يعد يقوى على قساوة ظروفه والصبر على وضعه الذي يفتقد لأبسط شروط العيش، كما أنه لم يعد يعتمد على الفلاحة والزراعة كوسيلة للعيش، وإنما أصبحت له أنشطة وأدوار ومهام وأعمال أخرى، وبالتالي فهو يهاجر هروبا من هذا الوضع القاحل الذي يطبع المجال الواحي بحثا عن مجال أرحب تتوفر فيه شروط الحياة، والشاهد على ذلك واقع الحال في الواحة اليوم، ويكفي للقارئ والمتسائل وحتى الناقد أن يزور الواحات ليلاحظ ويشاهد وضعيتها التي لا تبعث على الارتياح، فهناك نزوح وهجرات متواصلة نحو المدن، ومن المؤسف جدا أن أغلب شبابنا ومثقفينا ونسائنا يغادرون الواحة ويعزفون عن العمل الفلاحي والزراعي لأنه عمل غير مجد ومضن، ويجنحون إلى الاستثمار والتجارة خارج الواحات في اتجاه المدن لأن الواحة مجرد مكان لا يسعفهم في تحسين وضعيتهم الاجتماعية والترقي في السلم الاجتماعي. فلا داعي للامتعاض إذن على حال ومآل الواحة إذ نجد أبناء الواحة في الجنوب الشرقي تحديدا يهاجرون ويغادرون الواحة ولا يفكرون في حالها ومآلها، وقد ينعتونها بالتخلف ويتنكرون لأصولهم وانحداراتهم الاجتماعية، فالمشكلة هنا ليست هي الهجرة ولكن غياب روح الحب والغيرة على المنطقة الواحية وما تعرفه من هدر على كافة المستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا... إلخ. يجب أن نعترف إذن بأننا مازلنا نحبو على طريق إرثنا الاستعماري ونعيش بين أحضانه، ونحافظ على ما تركه من تقسيمات وتصنيفات، مازالنا نعيش عالم الأوهام والشعارات التي تظل حبرا على ورق، إنه استمرار للعطب والهدر التنموي. صحيح أن هناك وعيا تاريخيا بدأ يبرز مؤخرا لدى نشطاء المجتمع المدني وعند بعض الفاعلين العموميين بضرورة العمل على الحد من التهميش الذي راكمته واحات الجنوب الشرقي خلال هذه العقود والسنوات، إلا أن هذه المبادرات تظل محتشمة وخجولة، فهي في أمس الحاجة إلى تضافر الجهود من خلال وعي جمعي بأهمية المنطقة واتخاذ مبادرات جادة تسعى وتصب في اتجاه تخصيص معالجة خاصة من أجل تنمية المجال الواحي، وفي اتجاه اعتبار أمر تنميته أولوية وطنية من طرف صناع القرار ومختلف فعاليات المجتمع المدني، وإشراك الكل في بلورة مشاريع تنموية حقيقية وجادة على كافة المستويات وليس فقط المجال الاقتصادي المادي، لأنه للأسف الشديد كثيرا ما يتم حصر الفعل التنموي بواحات الجنوب الشرقي في الجانب الاقتصادي والمخططات التنموية، في حين يمكن الاعتماد على أبحاث ودراسات ميدانية بصبغة مغربية وتشغيلها والاستفادة من نتائجها، لا أن تظل مسجونة في رفوف المكتبات؛ فالواحة تتميز بثراء في القيم والرموز والطقوس والعادات والتقاليد التي تميز الثقافة المغربية، وبالتالي فهي قاطرة للتنمية الشاملة الوطنية، وهي المستقبل الواعد والمشرق للمغرب. الواحات إذن قد شكلت وماتزال قيمة جوهرية لا بد من الاعتماد عليها وتأهيلها من أجل الاعتراف بالمنظومة الواحية كموروث إنساني. إنه لا مناص من فتح نقاش اليوم جاد وصريح للنظر في حال ومآل الواحة، ورد الاعتبار للمجال الواحي والعمل على تسريع تنميته، وتثمينه وحماية الموروث الثقافي الواحي، وتحقيق تنمية شاملة ومركبة. خاتمة الكلام، لا بد من تأكيد أنه لا يمكن تنمية الواحة، خاصة الجنوب الشرقي، إلا من خلال سياسة حكيمة تجعل في برنامجها الواحة كذاكرة وكمخزون وإرث حضاري مهم، كما أن تحقيق التنمية للمجال الواحي لا يتم إلا من خلال سكان الواحة ومثقفيها وعلمائها وفنانيها ونسائها وأطفالها وشبابها وكل طاقاتها، في إطار تضافر للجهود والقيام بأدوار حقيقية وهادفة والغيرة على حالها ومآلها، وفتح حوار ونقاش جادين بين كل الطاقات والمبادرات والمثقفين، كل من موقعه وتخصصه، من أجل إماطة اللثام على وضعية الواحة. فالواحة اليوم في حاجة إلى التعريف بها والكتابة عنها ليس كتابة نوستالوجيا ساردة وإنشائية، وإنما كتابة ميدانية علمية، خاصة حقل العلوم الاجتماعية كالتاريخ والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والجغرافيا وغيرها، بتشخيص بنيات وآليات المجتمع الواحي وفك رموزه ودراسة تطوره، وتحقيق تنميته المنشودة بالاعتماد على الموروث الطبيعي والفلاحي والمعماري وصونه من الضياع وتطويره، ومن خلال العادات والتقاليد، واللباس وفنون الطبخ، والغناء والرقص والأهازيج، والمواسم والزوايا، والحكايات والأمثال الشعبية...، كله هذا يشكل تراثا خاما يمكن تحقيق التنمية من خلاله عبر مشاريع وخطط وبرامج وإنتاجات فكرية وعلمية، وجعل الواحة فوق كل اعتبار بالرغم من الفظاعات والخيبات التنموية المتواصلة. *طالب باحث في سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية