نظّم المجلس المحلي لاشتوكة أيت باها ندوة علمية تحت عنوان "مرتكزات الحفاظ على نظام الشرط وأثرها في ترسيخ الأمن الروحي"، افتتحها لحسن رغيبي، رئيس المجلس العلمي المحلي، بالتشديد على أن المحافظة على الدور الريادي للمساجد والمدارس العتيقة لا يستمر عطاؤهما في تكوين عدول هذه الأمة إلا بالرجوع إلى الالتزام بنظام الشرط الذي أسسه المغاربة ليُؤمن لهذه المؤسسات استقلالها المادي والمعنوي، ويضمن لها استمرارها في العطاء والتأطير والإرشاد. وأبرز المتحدث أن استعمال كلمة نظام الشرط في عنوان الندوة أمر مقصود لتمييز مصطلح الشرط في اللغة كما هو متعارف عليه بين الناس، أي مجرد اتفاق بين شخصين محدود المدة إلى الارتقاء به واعتباره اتفاقاً بين الإمام والجماعة للقيام بوظيفة اجتماعية دينية وتعليمية، فيدل على تعاقد يحمل الطابع العام بمعناه الاجتماعي. وأصَّلَ رغيبي، في صلب كلمته، لمشروعية الشرط بقوله: "وإن كان نظام الشرط قديماً عند المغاربة فإنهم بطبعهم حرصوا في الاقتداء بمذهب مالك في التأصيل له. فقد أورد أبو الحسن القابسي في كتابه: "الرسالة المفصلة" قصة عن الإمام ابن وهب تؤسس لذلك قال: كنت جالساً عند مالك، فأقبل إليه معلم الكتاب، فقال له: يا أبا عبد الله، إني رجل مؤدب الصبيان، وإنه بلغني شيء، فكرهت أن أشارط، وقد امتنع الناس علي، وليس يعطونني كما كانوا يعطون، وقد أضررت بعيالي، وليس لي حيلة إلا التعليم، فقال مالك: اذهب فشارط". وختم كلمته بالدعوة إلى "الحرص على أن يؤدي هذا النظام وظيفته كما يؤديها دائماً، وليتعاون الجميع على تنمية موارد الشرط ومصادره؛ إما عن طريق الأوقاف، أو مصادر أخرى تضمن للمؤسسات استمراريتها ودورها الديني والاجتماعي". محمد أيت محند، المندوب الإقليمي للشؤون الإسلامية لاشتوكة أيت باها، اعتبر تنظيم الندوة حول الشرط إضافة نوعية للساحة الفكرية للتذكير بما رسخه السلف، كما اعتبر الشرط رافدا من روافد الثوابت المغربية الأصيلة، ويجسد عَقدا عرفيا بين القبيلة والجماعة والفقيه. ونبه إلى أن مآل الشرط في الزمن الحالي أصبحت أدواره منحصرة في مهام لا يجاوزها المشارط إلى غيرها، وغدا كثير منهم يؤدي وظيفة تقنية دون أن يلم بها من جميع أطرافها، مقتصرا على الجانب التعبدي دون الجانبين التربوي والتعليمي. واعتمد المندوب في صياغة كلمته على العمل الميداني والإحصائيات التي تتوفر عليها المندوبية، فقال مبيناً نتائج ذلك: "إن المسح الميداني الذي أجرته مندوبية الشؤون الإسلامية باشتوكة أيت باها حول مساجد المحسنين التي توقف فيها واجب الشرط، وجدت أن نسبة غير يسيرة توقف فيها الشرط نهائياً.. وهذا تراجعٌ ينبئ عن بداية تخلي الجماعة عن وظيفتها تجاه إمام المسجد. وقد نتج عن هذا التراجع فراغ على مستوى التسيير والتمويل، ودفع الجمعيات إلى تولي هذه المهمة في إطار مؤسس على قانون ينظمها". وأنهى محمد أيت محند كلمته بإبراز المجهودات التي تبذلها وزارة الأوقاف في تحصين نظام الشرط واستمراره قائلاً: "وقد خطت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خطوات كبيرة في إرساء دعائم الشرط عبر تشجيع الجمعيات القائمة على تسيير شؤون المساجد، ووضع قانون أساسي لها، وتبسيط مساطر بناء المساجد، وفسح المجال لإشراكهم في اختيار الإمام، ووضعت رهن الإشارة رخصا لفتح كتاب قرآني، أو الاستمرار في المزاولة، أو رخصة التدرير". ربيع الطالبي، رئيس جمعية مسجد سيدي الحاج الحبيب ببلدية بيوكرى، شدد، في كلمة موجزة نيابة عن رؤساء الجمعيات المسيرة للمساجد بالإقليم، على الدور الذي تقوم به هذه الجمعيات في سبيل المحافظة على أمن واستقرار بيوت الله تعالى، والسهر على مصالح المساجد بصفة عامة، وجمع الشرط عند رواد المسجد بصفة خاصة. وأثنى على الجهات المنظمة للندوة، معتبرا اختيارها لموضوع الشرط وافقت فيه الصواب لما له من الأهمية بمكان، لكونه يتعلق بالجانب المادي لأئمة المساجد، ألا وهو واجب الشرط، و"الذي بطبيعة الحال، إذا ما تم توفيره لهذه الفئة المحترمة، فإن ذلك لا شك سيجعلهم يحسون بالاطمئنان وسيقومون بأدوارهم أحسن قيام، وعلى العكس من ذلك، إذا ما تم الإخلال بهذا الواجب أو التساهل فيه؛ فستكون نتائجه عكسية، وهذا ما لا نرضاه في من هم أهل الله وخاصته". واستعرض ربيع الطالبي مجموعة من التحديات، التي تحول دون أداء واجب الشرط؛ كامتناع الكثير من السكان بالأحياء عن أداء واجب الشرط، بدعوى أن الإمام يتقاضى أجرته الشهرية من لدن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهذا يكاد يكون القاسم المشترك بين غالبية السكان، وقلة ذات اليد لدى بعض السكان في بعض الأحياء، حيث يكون بعضهم في مستوى من المعيشة تستحي أن تطالبه معه بأداء هذا الواجب، فيتقاعس هو الآخر في دفعه، وانعدام المداخل الشهرية ببعض المساجد، حيث تكون الصعوبة في جمع الشرط أشد لدى المساجد التي لا تتوفر على هذه السيولة المادية. المحاضرة الافتتاحية للعلامة محمد مبارك جميل تناولت بالدرس والتحليل موضوع "فقه نظام الشرط بين المصالح الشرعية والحاجات المعاصرة"، حيث استهل رئيس المجلس العلمي بأكادير كلمته بالتعريف بالشرط قائلاً: "وآثرت على أن أسميه: نظام الشرط، إيماء إلى أن الشرط ليس مجرد اتفاق بين شخصين محدود المدة؛ ولكنه اتفاق بين الإمام والجماعة، وهو اتفاق عام في جميع القرى". ثم شرع في تأصيله مستدلا بأحاديث عديدة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم "ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل..الحديث"، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم". ثم بعد ذلك فصل في مقاصد الشرط والمشروط والمشارط، وأن المغاربة تلقفوا مشروعيته من فقه الإمام مالك، أي من تلك القصة التي رواها ابن وهب، والتي تقدم ذكرها قريبا في كلمة رئيس المجلس العلمي لاشتوكة أيت باها. ثم علل الإمام مالكا فتواه بقوله: "فمن يحفظ لنا صبياننا ومن يؤدبهم لنا؟ لولا المعلمون أي شيء كنا نكون؟". ثم استمد نقولا وآراء واجتهادات فقهية أخرى من المدونة والبيان والتحصيل لابن رشد والرسالة المفصلة للقابسي، تؤيد مشروعية تلك التأصيلات للشرط، مكيفا إياها -أي المشارطة- على أنها إجارة مقابل تفرغ لحفظ القرآن للصبية". وبعد تأصيل المشارطة وبيان مشرعيتها، عرج على نظام الشرط في ربوع المغرب وتنافُس قبائله فيه فقال: "يوجد في قبيلة سوس حوالي سبعين قبيلة تحتضن كل قبيلة منها مدرسة أو أكثر، كما توجد في سوس حوالي سبعة آلاف قرية يحتضن كل منها مسجدا وقد فاق عدد هذه المدارس مائتي مدرسة". ثم استعرض نقولا ومواقف نبيلة للمشارِطين تجاه المشارَطين، مبينا أن الشرط عند المغاربة نوعان: الأول يتولاه أهل المدشر أو القرية مع معلمي القرآن الكريم. والثاني يتولاه أعيان القبيلة مع الفقهاء لتعليم العلوم الشرعية وعلوم الآلة، وختم محاضرته بخلاصات جيدة واستنتاجات نافعة. عرض رئيس المجلس العلمي المحلي لتارودانت في موضوع "خصوصيات نظام الشرط عند السوسيين وأثرها في ازدهار المدارس العلمية العتيقة" ألقاه نيابة عنه الحسين أكروم مرشد ديني باشتوكة أيت باها، حيث قسم حديثه في عرضه إلى ثلاث فئات؛ الأولى تهم نظرة الناس إلى الشرط، والثانية تتعلق بالمشارِطين، والثالثة تتعلق بالمشارَطين. الفئة الأولى المتعلقة بنظرة الناس إلى الشرط، أكد المحاضر في مستهل كلامه أن عامة الناس وخاصتهم في سوس، ينظرون إلى الشرط على أنه نظام بالغ الأهمية كثير الفوائد، ولذلك لا يقر قرار لسكان القرية إذا كان مسجدهم فارغا من الإمام، ولا يعود إليهم الارتياح والانشراح إلا إذا وجدوا إماماً مناسبا يعمر مسجدهم؛ بل إن السكان فيما بينهم يتعايرون بخلو المسجد من الإمام حتى شاعت قولة أمازيغية: "ءُورْكِيكْ أُولْ ءُولاَ تُورِينْ ءُورْتْزْضَارْتْ ءْيلِحْضَارْ." بمعنى: ليس فيك قلب ولا رئة، ولا تقدر على المشارطة. وجرت عادة فضلاء سكان سوس، يقول المتحدث، أنهم يقولوا للمشرفين على المساجد: "احضرونا إذا أردتم أن تشارطوا الطالب أو الفقيه، ولا تحضرونا إذا أردتم إخراجهما وتوديعهما. الفئة الثانية المتعلقة بالمشارِطين، يؤكد المحاضر، "أن السوسيين يختارون، سواء على مستوى المساجد أو المدارس، ثلة فاضلة من الناس تتسم بالعقل والرزانة والحكمة واللطف وبعد النظر والتمييز بين ما ينبغي لأنه خير، وما لا ينبغي لأنه شر، ويكلفون بالسهر على مصالح بيوت الله، فيجنبون مساجدهم ما يحدث بينهم من احتكاك وخلاف، ونزاع، بحيث لا يتجرأ على الأئمة والفقهاء إلا سفلة القوم وأراذلهم، ويفرضون على من عاكس الإمام أن يدفع نصابه في الشرط، ولو لم يكن من الذين يرتادون المسجد بانتظام، أولا يصلي فيه أصلا". الفئة الثالثة المتعلقة بالمشارَطين، "هناك خصوصيات تتعلق بالمشارطين في سوس، ومنها أن المشارطين ينتقون انتقاء، ويختارون اختيارا دقيقاً بناء على سمعتهم العلمية وأخلاقهم الفاضلة، فهم لا يشارطون أيا كان، بل لا بد من التدقيق في سيرته، وتتبع أخباره، وهذا الإجراء الاحترازي يجنب المشاكل فيما بعد". أشغال الجلسة العلمية الأولى، التي أشرف على تسييرها الدكتور إبراهيم الوافي، رئيس المجلس العلمي المحلي لإنزكان أيت ملول، ضمت ثلاث مداخلات: الأولى "نظام الشرط في المغرب عاداته وأدبياته" للفقيه الباحث محمد مستقيم، والثانية حول :نظام الشرط في سوس بين التاريخ والواقع والمتوقع" للفقيه الباحث عبد الله بن الطاهر عميد مدرسة الإمام البخاري بأكادير، والثالثة بعنوان "مدى محافظة الجمعيات على نظام الشرط بين العوائد السائدة والمعوقات الحديثة" للدكتور عبلا المودن إمام وخطيب مسجد بلال بن رباح بأكادير. الجلسة العلمية الثانية، التي ترأسها عبد الله السعيدي، ضمت ثلاث مداخلات؛ الأولى للدكتور محمد المدني السافري بعنوان "فقه أحكام الشرط ومستجداته من خلال النوازل الفقهية"، والثانية للدكتور الحسن مكراز، أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة، الموسومة ب "أبعاد المقاصد الشرعية لنظام الشرط ومحافظته على حفظ الدين"، والثالثة "عقد الشرط بين الحقوق العرفية والواجبات الشرعية" للدكتور محمد البوشواري، وكلاهما من أعضاء المجلس العلمي باشتوكة أيت باها. وقد اختتمت الندوة بكلمة رئيس المجلس العلمي لاشتوكة أيت باها، الذي أرجع نجاح هذه الندوة إلى تنوع مواضيعها واختلاف مشارب المشاركين فيها؛ ف"تشابكت بموجب ذلك تخصصات المتدخلين ما بين فقهاء وباحثين أكاديميين، وأساتذة جامعيين، وأثرى ذلكم التنوع مواضيع الندوة". كما أثنى على المشاركين والفقهاء، واعتبر قضية الشرط قضية اجتماعية تتشارك في العناية بها المجالس العلمية، والمندوبيات، والجماعة، ورؤساء الجمعيات، ومختلف فعاليات المجتمع المدني.