بعد سنة 2017 التي مات فيها عدد من العلماء، والفقهاء، والصالحين، باشتوكة أيت باها خاصة، وسوس عامة، حتى سميت بسَنة الفقهاء، وعند آخرين بعام الحزن؛ هاهي سنة 2018 يأتي فيها اليقين بعض العلماء، والفقهاء، وورثة الأنبياء، فقد التحق بالرفيق الأعلى عالم إداوكنيضف، وفقهيها العلامة المحقق سيدي الحاج الحبيب أُعبد الله الراجي. أصوله : ترجع أصول العلامة الفقيه المرحوم سيدي الحبيب الراجي إلَى الأسرة الوسلامية التي هاجرت من قبيلة بعقيلة، إحدى أكبر قبائل سوس، حيث هاجر الجَدُّ الثالث للمرحوم سيدي الحبيب، وتشير بعض الأخبار بأنه من سملالة، وتصفحت كتاب: تاريخ إدا وسملال الموسوم ب: إطلالة تمنح الأجيال للفقيه بومهاوت علي أجد فيها الأسرة الواسلامية التي ينتمي إليها المرحوم، فلم أجدها فيها، مما يرجح أن أصولهم ليست سملالية . وجده المذكور هو العلامة الفقيه إبراهيم اُومْحْمْدْ هاجر من بعقيلة إلى قبيلة أيت والياض، وبالتحديد بدوار "تين أودي" التابع لجماعة أيت مزال، وبنى هناك مدرسة يدرس فيها العلوم المختلفة، وله جِد واجتهاد في تخريج الطلبة، أكسب بذلك مكانة كبيرة عند قبيلة أيت والياض. ومما يدل على ذلك أنه لما توفي الفقيه إبراهيم في حاحا حمل نعشه هناك إلى قبيلة أيت والياض مبالغة في حبه، وتعظيماً لمكانته، ودفن قرب مدرسته، وبنيت عليه قبة كما يظهر لزائريها، وأخبرني بهذا أخوه سيدي محمد إمام مسجد توريرت "نايت بولعايش" الكائن بجماعة تسكدلت. ثُم نزل ابن الفقيه إبراهيم المذكور، الفقيه محمد إلى إكنكا، وبنى هناك زاوية تعرف بزاوية سيدي محمد أُبراهيم، وله مريدون على الطريقة الناصرية كأبيه، وبقي هناك حتى توفي، ثم تتابع أولاده، وأحفاده، مسيرة أجدادهم إلى الآن، وهو الذي أنجب جد المرحوم الحبيب سيدي سعيد. الأسرة الواسلامية أسرة علمية: ذكر المختار السوسي أخبار هذه الأسرة العلمية في كتابه: سوس العالمة ص 128 فقال: "الواسلامية نسبة إلى آيت واسلام الشرفاء المتفرقون في بعقيلة وما إليها، وقد تعدد فيهم علماء من قديم في فروع شتى هنا وهناك بين قبائل جزولة..". وقد ذكر كذلك شيئاً يسيراً في المعسول، لكن لا يتعلق بما سبق، فقال في الجزء 12/ 258 "والغالب أن العلم لم ينقطع فيهم، وإنما خفي عنا ذلك الآن، لكوننا لم نتوصل من عند سيدي الحسن بن مبارك البعقيلي عالم الأسرة الواسلامية اليوم بما وراء الأكمة.." . أما والد سي الحبيب، الفقيه عبد الله بن سعيد، فقد كان مشارطاً في عدد من المساجد باشتوكة أيت باها، ثم توجه للعدالة وبقي فيها مدة ليست باليسيرة، حتى أصبح نائباً للقاضي ببوكرى، وترك ذلك المنصب أوائل الستينيات، ورجع للمشارطة وبقي فيها حتى توفي. إسم المرحوم الفقيد: هو الحبيب بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن إبراهيم، ينتهي نسبه إلى سلالة الشرفاء الأدارسة. وأسرتهم معروفة بالصلاح والعلم، شهيرة محلياً باسم أسرة: "سيدي إبراهيم اُومْحْمْدْ" ذكر المختار السوسي عمود أسرته، ومشجرات أنسابهم، ومعهم طائفة من علماء الأسرة في الجزء السابع عشر من كتابه: المعسول كذا أخبرني أخوه المذكور. نشأته العلمية: يمكن تقسيم حياة الفقيه المرحوم سيدي الحبيب إلى قسمين الأول: خاص بتعلم الخط، والكتابة، وتهجي الحروف، كعادة طرق التعليم بالمغرب، وتلي هذه المرحلة الابتدائية حفظ القرآن الكريم، وختمه، ثُم تعقبها مرحلة الاشتغال بالعلوم الشرعية وهي المرحلة الثانية والأخيرة. 1- حفظه للقرآن: حفظ القرآن الكريم على عدد من القراء في منطقة اشتوكة أيت باها، يتقدمهم شيخه سيدي إبراهيم بن سعيد بأيت وادريم، مكث عنده كثيراً، ثُم تحول إلى "تيزي لْتْنِين" عند شيخه سيدي الحاج أحمد أُوالحسن الرجراجي، وعند هذين جلس مدة ليست باليسيرة، حتى حفظ القرآن، وختمه على يديهما مرات وكرات. 2 – توجهه للعلوم الشرعية: بعد ضبطه للقرآن الكريم حفظاً ورسماً؛ اتجه نحو العلوم الشرعية، فابتدأها عند أبيه سيدي الحاج عبد الله بن سعيد المشهور ب: "أَكْنْكُو" فبقي عنده كثيراً حتى مر على جميع المتون المتداولة في المدارس العتيقة. وسألت أخاه سيدي محمد عن كيفية تحصيله العلمي عند والده، فقال بأن المرحوم أخذ عنده المتون الابتدائية في البيت واستمر على ذلك حوالي عاماً كاملاً، ثم اصطحبه إلى مدرسة "لْقْصْبْتْ نْطَّاهْرْ" بأيت ملول ثلاث سنوات، ثم مدرسة تيغانمين بإداوتنان، وما هي إلا فترة يسيرة فيها حتى توفي والده، وخلفه فيها، ابنه سيدي الحبيب، وبقي هناك عاماً كاملاً . ثم استتم باقي العلوم عند شيخه الثاني في العلوم الشرعية سيدي الحاج أحمد أُوموسى الكرسيفي بمدرسة "إموساك" وأطال عنده هناك حتى درس المتون الكبرى. مشارطاته: شارط الفقيد سيدي الحاج لحبيب في عدد من المساجد الكبرى، والمدارس القرآنية، كالمسجد الكبير بأيت ملول، ومدرسة تيغانمين بإداوتنان، ومدرسة تَتْرْتْ بإدا كَّكْمار، وبعض المساجد بهوارة، وكل هذه المساجد الأربعة شارط في كل منها عاماً كاملاً . أما مسجد النواصر بأيت بو الطيب؛ فقد شارط فيه، وتخرج على يديه هناك عدد من الطلبة، وبقي فيه ثلاث سنوات، وثلاثة أشهر. ثم انتقل إلى مسجد إداوكنضيف وألقى فيه عصا التدريس حيث بقي فيه ما يزيد عن نصف عمره، أي: اثنتين وأربعين، أو ثلاث وأربعين سنة متصلة، حتى توفي فيه رحمه الله. وبالجملة فقد بقي المرحوم سيدي الحاج الحبيب الراجي في المشارطة ما يقرب من خمسين سنة متصلة، أي: نصف قرن من التوجيه، والتدريس، وتعليم القرآن، وتخريج أفواج كثيرة من الطلبة طبقاً عن طبق، حتى لقي ربه، فرحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جنانه. ممارسته لخطة العدالة: من أشهر المهام التي عُرف بها الفقيد ممارسته لخطة العدالة زمناً غير يسير، حيث شرع فيها منذ حوالي 1986 أو 1987 إلى أن قدم استقالته في نهاية التسعينات، وكان يعمل مع الأستاذ الفقيه سيدي الحاج أحمد البوشواري، وذكر عنه -بحكم كثرة المخالطة والممارسة- أنه عالم كبير، وفقيه متمرس. وحلاه بأوصاف جميلة، ونعوت حسنة، منها أنه كانت له دراية كبيرة بالتوثيق، وكان يحتاط كثيراً كلما بان له أن في الوثيقة شيئاً، صارم في حفظ حقوق الناس، متشدد في صيانتها، لا يعتمد إلا على الحجج الظاهرة، والبينة الواضحة، وكان يوقع بالعطف، واستمر على هذا النحو في توثيق العقود، وتصفح الرسوم، إلى قدم استقالته في أواخر التسعينيات، وترك وراءه سمعة طيبة، ما زالت ألسنة كثير من الناس رطبة بذكره، لأنه كان نزيهاً في عمله، نصوحاً للناس، مسؤولاً على مهامه، إلَى أن ترك مهنته، واتجه مرة أخرى نحو المشارطة. المهام الدينية التي تقلدها: تقلد الفقيد المرحوم سيدي الحاج الحبيب بعض المناصب الدينية التي لا تسند عادة إلا لذوي الرسوخ والتمكن في العلوم الشرعية، فضلاً عن دربة وممارسة كبيرة بفقه الواقع، وخبرة بالمشارطة، وغيرها من الشروط التي يستحسن أن يتحلى بها من يريد التقدم لهذه المناصب، وأهمها. 1 تأطير الأئمة : منذ بداية تأطير الأئمة وتأهيلهم أواخر سنة 2009 تم اختيار الفقيه سيدي الحاج الحبيب مؤطراً بمسجد سوق الخميس إدا واكنيصيف، على أئمة وخطباء المساجد هنالك منذ التاريخ المذكور إلى وفاته، أي: ما يقرب من عشر سنوات في بث الفوائد العلمية، والنصائح التربوية . وقد سألت المشرف الإداري على اللقاء الأستاذ محمد المالقي -وهو مرشد ديني بجماعة إداوكنضيف- عن منهجه في تدريس ورقة اللقاء التأطيري، فقال: بأن الرجل يمتاز بالدقة في تحقيق المسائل. أما عن فروع المذهب المالكي، فإنه غالباً ما يستحضر مواطنها، وقائلها، مع عزوها إلى مصادرها، ومقارنتها مع المذاهب الأخرى، متى استوجب الحال، واقتضت الضرورة. وربما يضيف مسائل نادرة تغني ذلك اللقاء، فيستفيد منها جميع أئمة جماعة إداوكنيضيف البالغين 22 إماماً و 11 من تيزي نتاكوشت، وبينهم فقهاء نبغاء، وخطباء فصحاء، في الجماعتين المذكورتين. 2- مهمة الوعظ والإرشاد: كان المرحوم سيدي الحاج الحبيب من القدماء الذين تم انتقاؤهم لمزاولة مهمة الوعظ والإرشاد في المنطقة، حتى قبل استحداث المجلس العلمي ببوكرى سنة 2009. وعُرف عنه أنه يلقي دروساً وعظية كثيرة بجماعة إداوكنضيف، متتبعاً ما جرى به العمل والعرف، وملتزماً بالمذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، ناسجاً على منوال الفقهاء المتقدمين في تحليل خطابه، واجتهاداته. وأغلب المناسبات التي تكون في إداوكنضيف يعظ فيها الفقيه الناس بمواعظ جامعة ويبث فيها توجيهاته الدعوية، ونصائحه العامة لكل الناس، ويقوم بالدعاء الصالح في ختام تلكم المجالس، ولا أحد يتقدم أمامه في كل ما ذكر رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه. 3- الإمامة والخطابة: لا شك أن الإمامة والخطابة كانتا من أهم المهام التي تقلدها الفقيد قديماً، غير أن مسجد سوق الخميس الذي بقي فيه أكثر من أربعين سنة كان من أهم الأماكن التي أطال فيه في تلك المهمتين وأدّاهما بكل تفان وعزيمة، مما يدل على نباهة الرجل في الخطابة، وتبصره وحكمته في الدعوة بالتي هي أحسن. جِده في التحصيل العلمي: سألت عنه غير واحد فأجمعوا أن الرجل عالم متمكن، يطالع باستمرار، وله اهتمام بالتراث السوسي يسأل عن الكتب الجديدة المطبوعة، ويسارع إلى اقتنائها، فإذا سئل عن مسألة عادة ما يجيب بابن عاشر، ومتن الرسالة، والمختصر أحياناً، أما المنظومات الأخرى في النحويات والفقهيات فلا تسأل عن مدى استحضاره للدليل، ووجه الشاهد فيها، حتى غدا وكأنه ينظر إليها. وصفه أخوه سيدي محمد بأنه يطالع كثيراً، وله خزانة حافلة كبيرة، بيد أن أروع ما تواتر عنه، أنه يحث الطلبة الأئمة في دروسه على المثابرة والاجتهاد، ويعينهم على طرق البحث، والتنبيه على مواطنه، ويبالغ في العناية بأصول التحصيل العلمي، واستنهاض همم الأئمة، وله احتكاك بالباحثين، مع اهتمام بما يجري في الساحة، سيما ما يتعلق بمستجدات الثوابت الدينية، كالتصوف، والمذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، وتتبع البحوث الجديدة حولها. وبما أن الشيء بالشيء يذكر؛ فقد أخبرني الأستاذ محمد المالقي أن الفقيد سيدي الحاج الحبيب سمع قبل شهر محاضرة للدكتور اليزيد الراضي في قناة السادسة، فأوصاه أن يمده بنسخة ورقية منها إن تيسر الأمر، لفوائد نفيسة سمعها فيها، وذلك قبل أقل من شهر من وفاته، مما يدل على أن المرحوم ما زال مستمراً في البحث والمدارسة، سيما في العلوم التي توحد الأمة المغربية، وتجمع كلمتهم على رأي واحد. وفاته: وبعد مسيرة حافلة بتدريس العلم ومدارسته، سلم الروح للباري جل وعلا وذلك يوم السبت 10 رمضان الموافق ل 26 ماي 2018 وصلى عليه أخوه الأكبر سيدي الحاج محمد بمسجد سوق الخميس بعد صلاة العصر ليوم السبت، فرحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه، إنا لله وإنا إليه راجعون.