هايكو بهدوء وصمت العناكبُ تنسجُ دمية الطفولة. يقولُ "بُورخيس": "ليفتخرَ الكُتَّابث بما كَتبُوا، ولأفتخرَ أنا بما قرَأْتُ" أما أنا فكم كَتبتُ وراكمتُ وبعثرتُ ومَزَّقْتُ وأَحْرقتُ وكابدتُ... وكم قرأتُ، وخبرتُ وغامرتُ وشاهدتُ... وأبصرتُ، ويا ليتني ما أبصرتُ...ولن أفتخر لابهذا، ولا بذاك...وكيف لي؟ وأنا أحترقُ عند مُساءلة حرف البدء وحرف الختم، وأطلبُ مدداً بين بهيم الشك، وعند صياغة أي حلم، فلا أضرب مثلا، ولا أنسَ النشأةَ الأولى...كانَ ولسوفَ يظل قديراً سبحانه يحيي ويميت...ويميتُ ويحيي، وإن ارتابوا، قُلْ يحييها من أنشأها أول مرة، ثم أبحثُ عن لغة في زمن البَكم، تتهجى في أوراق الزمن، تنبشُ عن صبح يمسحُ ما في القلب من الحزَن، أكضُ، أتعثرُ، أتمددُ منهكا من وهن، ألهثُ، أرغب إزالة قروح النوب، ولسانُ الحال نداء مبحوح من ألم. ألمُ من يتهجى في كتاب الحياة، جيئة وذهابا، فينكسر قلبه ولا يكادُ يفقهُ كثيراً أو يجدُ تفسيراً مقنعا، فينتصر لدهشة الحكمة والاعتبار، ذلك ما وقع لي بالضبط، وأنا أتابعُ رجُلاً من إحدى الدول الافريقية وهو يهوي تارة بالفأس على الأرض، وطوراً يجرفُ بالمعول في إصرار لا يلين، والدموعُ تَنسكب من عينيه، ولم يكن ذلك من أجل ذهب أو فضة أو معدن نفيس، وإنما كان من أجل طفله الصغير الذي جرفته السيول وطمرته المياه، وغمرته تحت الأنقاض والأوحال...وهو يحاولُ جاهداً وبكل ما أوتي من حول أو قوة، وبكل السُّبل، وبرحمة عالية يحاولُ انتشالَ ابنه، ثم هو يصيحُ كمن فقد عقله... لكن في لحظة تنتزع الرحمةُ ، وكأنها في غرفة الانعاش، لنجد أنفسنا عاجزينَ عن استيعاب بشاعة بعض الجرائم النكراء، كان آخرها تلك التي ارتكبها أب بمساعدة زوجته في حق ابنه من زوجته الأولى، والذي تجاوز بالكاد سبع سنوات، حيث كانت تفاصيلها صادمة بحق، لكل من تابع القضية منذ اختفاء الضحية، وإلى حين العثور على جثته المقطعة، ولتكشف مصادر مطلعة على سير التحقيقات أخيراً عن السبب الذي دفع الأب إلى ارتكاب هذه المجزرة في حق فلذة كبده، وذلك بعدما لم تصمد رواية زوجة الأب طويلا أمام المحققين، بعدما كانت قد ادعت أنه أزعجها بصراخه، فقامت بتعنيفه إلا أنه فارق الحياة، دون نية قتله، فقد اعترف المجرم أنه خطط رفقة زوجته للجريمة، حيث اتفقا على كيفية استدراجه وطريقة قتله، عبر وضع رأسه داخل سطل ماء، وبعدها تقطيع جثته ورمي أجزائها في أماكن متفرقة، وأضاف الأب في اعترافاته أنه أقدم على ارتكاب جريمته، بعدما ارتاب في نسب ابنه وكونه ليس من صلبه، وبالتالي قرر التخلص منه، حتى لا يضطر إلى دفع نفقة شهرية لطليقته من أجل ولد قد يكون ناتجا عن علاقة غير شرعية، أقامتها مع شخص آخر...ثم نصدم بحادث آخر أكثر فضاعة ووحشية بهيمية من الأول، ذلك أن طفلا اختفى فجأة قبل أيام، وقد تم العثور عليه جثة هامدة، وأن والدته هي التي قتلته وحاولت التخلص من جثته وإبعاد الشبهة عنها بادعاء اختفائه. وكانت الأم المتقدمة في العمر، قد قتلت طفلها الصغير لايتجاوز سن العاشرة، بعدما دفعته في حوض الحمام، مما أدى لوفاته، فوضعت جثته في كيس بلاستيكي، وحملته في صندوق سيارتها، وألقت به في إحدى المجاري المائية التي تربط بين مدينتين. ثم تكتشف الشرطة جثة الطفل بعد أيام على اختفائها، حيث أبلغت الأم عنه للتغطية على جريمتها، لكن التحريات أثبتت تورطها في الجريمة، مما أدى لاعتقالها، وتتكرر هذه المشاهد وبشكل يومي من خلال مختلف المنابر الإعلامية والقنوات التلفزية، مما يحتمُ علينا الوقوف عندها لأنها أضحت تشكل ظواهر عصية، استفحلت وازدادت فضاعة وبشاعة وانتشارا مع الوقت، وتقعُ المفاجأة الكبرى حين نُصدم بإحصائيات مهولة عن ارتفاع نسبة الانتحار، فضلا عن ارتفاع مستويات الجريمة والفساد، كما أنها إحصائيات جد مهولة وصادمة، ويتبدى ذلك من خلال الكتاب الذي صدر مؤخراً تحت عنوان: "لماذا ينتحرون؟" للكاتبة والمعالجة النفسية القطرية "د.موزة عبد الله المالكي." الكتاب الذي يتناول بالشرح والتفصيل لظاهرة الانتحار التي تفاقمت عالميا، فقد أشارت آخر الإحصائيات إلى أن أكثر من مليون شخص يقدمون على قتل أنفسهم كل عام، وهي نسبة معدلات الوفاة الناجمة عن جرائم القتل العمد والحروب، فالانتحار هو السبب الرئيسي للموت في أوساط المراهقين والبالغين دون سن ال35، كما تشير الدراسات والإحصاءات إلى أن شخصاً في مكان ما من العالم ينتحر كل 40 ثانية، وأن شخصاُ على الأقل يحاولُ التخلص من حياته كل ثلاث ثوان، ولا بد من الإشارة أن هذا الإقدام وبالإرادة له أبعاد فلسفية وفكرية...وفكرة الموت وانتهاء الحياة فكرة مُخيفة في حد ذاتها، وقد أثارت خيال الانسان وتفكيره ومشاعره منذ القدم، ومعظم الفلسفات والأديان تحاول مواجهة هذه الفكرة المخيفة بطرق متعددة، وهي تُعلي من قيمة الحياة وأهمية المحافظة عليها...هذا وقد أصبحَ لظاهرة الانتحار وجود متكرر في المنطقة العربية، مع أنها ليست ذات حجم خطير، فلم يحدث أن كانت الظاهرة لافتة للنظر لدرجة أنها محل اهتمام الرأي العام، وقد يكون ذلك للتحفظ الذي يواجه الانتحار، ولحساسية الموضوع وخاصة من الناحية الدينية، إضافة إلى أنه لايمكن التعرف على حقيقة المشكلة لأن الكثير من الحالات لا يتم التبليغ عنها أو يتم التحفظ عليها...وبالتالي فإن البيانات وإن توصل إليها الباحث فإنها لاتعبر عن حقيقة المشكلة...وذلك يعوق بحث المعدلات الفعلية لهذه الظاهرة في كل المجتمعات العربية الإسلامية....ولستُ أدري أي مشجب سيتحملُ كل هذا...وأي ظروف اجتماعية أو اقتصادية...بل وأي تفسير أو بواعث أو أسباب تدفع لكل هذا، وإنني أتساءلُ كيف بالأم أن تتحولُ فجأة من مصدر للرأفة والرحمة والحنان والأمان إلى خطر يهدد حياة الأبناء وبهذه الوحشية التي لا توصف، لتصبح الحيوانات أكثر رحمة بأطفالها عنهن...وهاهي المشاهدُ نفسُها تتكرر أمامنا القتل والعنف والانتحار ...ظواهر تزحف وتتمطى بيننا، ومظاهرُ الأنانية والتشفي واللامبالاة وفقدان الثقة وغياب القيم تسكننا...وكأن الواقعُ صارَ مجنوناً ومُرعباً، ينضاف لقبح هذا العالم...فضلاً عن موت الضمائر والقلوب والأحاسيس، حَققا فأنا لا أفهمُ هؤلاء. لقد كشف التقريرُ الأمميُّ الأخيرُ عن تصاعد عدد جرائم القتل في العالم بشكل سنوي، وجاء في التقرير، الذي أعده مكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وأصدره الأسبوع الجاري، أن جرائم القتل في تصاعد مستمر وحسب الدراسة التي أجراها مكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، ووفقا للدراسة فإن حقيقة ثابتة ظلت تتكرر في البيانات الموثقة منذ بداية هذا القرن وهي "الصلة بين الجريمة المنظمة والوفيات جراء العنف"، إذ يقول المدير التنفيذي لمكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، يوري فيدوتوف، إن "الجريمة وحدها مثلت 19% من بين كل جرائم القتل المسجلة وتسببت في العديد من الوفيات في كل أنحاء العالم، أكثر مما فعل الصراع المسلح والإرهاب مجتمعين". ومثلها مثل الصراع العنيف، فإن الجريمة المنظمة "تزعزع استقرار البلدان وتقوض التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتضعف سيادة القانون"، وفقا لما أورد المكتب الأممي المعني بالمخدرات والجريمة. ويشدد السيد فيدوتوف على أنه ما لم يتخذ المجتمع الدولي خطوات حاسمة فإن "ما يسعى لتحقيقه في الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة، المعني بالحد بدرجة كبيرة من جميع أشكال العنف وما يتصل به من معدلات الوفيات في كل مكان، لن يتم الوفاء به بحلول عام 2030 . ومن حيث تقسيم النوع، تثبت الدراسة أنه على الرغم من التساوي العام في أعداد ضحايا القتل، إناثا وذكورا، بين من هم في سن التاسعة وما دون، إلا أن الضحايا الذكور في كل الفئات العمرية الأخرى يفوقون نسبة 50% من الحصيلة العامة، وتقول الدراسة إن"مستويات العنف المرتفعة ترتبط بشدة بالشباب، فيكونون الجناة والضحايا على حد سواء"، وتقترح لذلك أن تركز برامج منع العنف على "تقديم الدعم للشباب لمنع استدراجهم إلى ثقافة العصابات والتعامل مع المخدرات". ورغم أن النساء والفتيات يمثلن حصة أقل بكثير من الضحايا من الرجال، إلا أنهن ما زلن الأعلى من حيث وقوعهن ضحايا للقتل المرتبط بالأسرة أي الزوج أو الشريك الحميم. أكثر من تسعة من بين كل 10 من المشتبه بهم في قضايا القتل يكونون من بين الذكور، حسب الدراسة. ويقول السيد فيدوتوف إن "عمليات القتل التي يرتكبها شركاء حميمون نادرا ما تأتي عفوية أو بشكل عشوائي" مشيرا أيضا إلى أن "هذه الظاهرة غالبا ما يقل الإبلاغ عنها ويتم تجاهلها في كثير من الأحيان". وفي محاولة لدعم الحكومات في مواجهة جرائم القتل، تحدد الدراسة الأممية، بالإضافة إلى الجريمة المنظمة العديد من دوافع ومسببات المشكلة، مثل انتشار الأسلحة النارية والمخدرات والكحول وظواهر عدم المساواة والبطالة وعدم الاستقرار السياسي والقوالب النمطية المبنية على النوع. وتؤكد الدراسة أيضا على أهمية التصدي لظواهر الفساد، وضرورة تعزيز سيادة القانون بالإضافة الى الاستثمار في الخدمات العامة – وخاصة التعليم. السيد فيدوتوف أكد على ما تقدمه الدراسة من توصيات تشمل اتباع سياسات موجهة تستهدف معالجة تهديد الشبكات الإجرامية المنظمة، بما في ذلك المشاركة المجتمعية وإصلاح مؤسسات الشرطة التي تهدف إلى تعزيز الثقة في عناصر الشرطة والسكان المحليين. أما في محيطنا ومجتمعنا فإننا ندركُ بمزيد من الوعي، بأننا نستطيعُ أن نفهمَ الأشياء عن طريق التفكير فيها، لكن توجد أشياء نفكر فيها ولا نفهمها، مثلما أن بعض القضايا قد تقود إلى نفق حالك ومظلم...وإن لم نحترق جميعا كل من موقعه، فمن سينيرُ الدربَ والطريق، وإنسانيتُنا تجبرنا وتستحق.. إن ظلام الدنيا كلها لايستطيعُ أن يطفئ نور شمعة خافتة. إن واجبنا هو أن نصارع ضد اليأس واللامبالاة، من أجل واقع أفضل، لقد أفنى الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع والأدباء أنفسهم في تحليل وتبرير الحوافز الشريرة المتغلغلة في الإنسان، غير أنه كثيراً ما قاده إلى تمثيله الزائف ومراوغة حتفية إلى ما هو مجاني ليس إلَّا...يقول "سبينوزا": فضلُ الرجل الحر في تجنب الخطر لايقل عن فضله في التغلب عليه" أجل، إننا ندرك بأنَّ مُطلقيةَ الأخلاق لاوجودَ لها في الحياة، لكن لا أحد قد ينكرُ بأن هذا الفساد الذي يحدقُ بنا براً وبحراً، هو حصيلة لنتائج أفعالنا المدمرة ولنشاز سلوكاتنا المجنونة المحدقة بنا ولحماقاتنا، وهو نتاج ما اقترفتهُ أيدي البشر...ولو تركوا لهلكوا وهلك الناس جميعاً... لكن يبقى إيمانُنا بمجال الغبطة مفتوح..مجبرون اليوم إلى تحقيق الثقة والأمان، والوعي بقيمة القيم، وتفعيل هذه القيم بإرادة فولادية، وتجاوز العدمية وسيادة، ثقافة العمل التطوعي، ولن يتأتى هذا إلا من خلال إرادة حقيقية للجميع، كل من موقعه، وذلك بإعادة النظر في المنظومة الأسرية، ولم لا إنشاء مراكز للإنصات والتواصل قريبة من الأحياء..، فضلا عن الدور الريادي للإعلام والذي وجب أن يشتغل ويعمل بكثافة على مواضيع القيم في برامجه، وكذا دور جمعيات المجتمع المدني بإعادة الإعتبار لإنسانية الإنسان، والاضطلاع بالتواصل المجدي والتحسيس والتوعية، ورفع سقف الحوار البناء والهادف، واعتبارية الثقة بالذات قبلَ الآخر، ضمن مجتمع متماسك ومتضامن ومتآزر، ككتلة موحدة، مجتمعٌ يشدُّ بعضه بعضاً ،كالبنيان المرصوص كما كُنَّا دوماً، مجتمعٌ يعرفُ كيف يعيش، وكيف يحترمُ الحياة، تبقى الإشارةُ إلى أنَّ الأممالمتحدة أكَّدت في تقريرها على أهمية التصدي لمظاهر الفساد، وضرورة تعزيز سيادة القانون، بالإضافة إلى الاستثمار في الخدمات العامة، وخاصة التعليم.