لم يكد سكان مدينة تارودانت يستيقظون من الصدمة التي خلفها حادث اغتصاب وقتل الطفلة «فاطمة» من طرف شخص قيل إنه كان عشيقا لأمها المطلقة، والتي أعادت ظلال الحاضي الذي كان يغتصب الأطفال وينام على رفاتهم، حتى اهتزت المدينة من جديد على وقع جريمة أكثر شناعة من سابقاتها، إنها قصة الطفل محمد الذي قتله أبوه بعد اغتصابه مرات عدة، كما أن جثته لم تسلم من عبث الشهوة الحيوانية لوالده، هذه القصة التي حاولت «المساء» إعادة تركيب أجزائها من أجل بعث رسالة مفادها أن هناك شيئا ما في تارودانت جعلها تغضب من أطفالها وتقتلهم واحدا تلوى الآخر. عندما تطأ قدماك أول حارات المدينة البعيدة عن قلبها النابض تحس بأن عقارب الساعة بدأت تتباطأ لتتأقلم مع إيقاع الزمن الرتيب الذي تعيشه هذه المدينة، التي عاشت منذ قرون هنا خلف أسوارها الحزينة، إنها مدينة تارودانت التي أصبح صمتها مخيفا منذ أن تفجرت جرائم الحاضي وبعدها فاطمة الغندور، ويتمنى الجميع أن يتوقف المشهد عند محمد أنظام الذي هزت قضيته كل الأسر ومازال طيف هذه الجريمة الشنيعة يقض مضجع كل الأمهات. ورد للذكرى اختار زملاء محمد وأساتذته أن يخلدوا ذكراه بوضع باقة ورد في المقعد الذي اعتاد أن يجلس فيه، كان المنظر محزنا وعيون زملائه تنطق بكل شيء عندما هممنا بالتقاط صورة للمكان الذي أصبح فارغا، وربما الأيام القادمة لن تستطيع أن تنسي الأطفال هذه المأساة مهما طالت وسيذكرونها على امتداد أعمارهم. صباح الجريمة عندما سئل الأب عن الطريقة التي قتل بها ابنه أجاب بكل برودة مستفزة أنه اغتنم فرصة خروج زوجته التي تغادر البيت في الساعات الأولى التي تسبق الفجر للعمل في الضيعات المجاورة، وحوالي السابعة صباحا خرجت أخته التي تدرس بإحدى الإعداديات المجاورة وبقي الطفل محمد لوحده رفقة أبيه، وعندما كان منهمكا في وجبة الفطور باغته أبوه وأمسك بحنجرته وقام بضغطها بقبضة واحدة ليفارق الطفل الحياة، وكأن الأب كان يضغط على رقبة عصفور، ودون أن يتحرك فيه أي إحساس قام باغتصاب الجثة ودسها بين مجموعة من الأغطية والأفرشة التي كانت في الغرفة التي يملك وحده مفاتيحها، بحيث لم يكن أحد يجرأ على دخول هذه الغرفة. نداء استغاثة كان ذلك اليوم يوم ثلاثاء عندما كانت الأم تهم بالذهاب إلى مدينة تارودانت من أجل أداء فاتورة الكهرباء، وطلبت من ابنها أن يمكث في البيت إلى حين رجوعها، إلا أن الطفل كان في حالة غير عادية، إذ أصر على مصاحبة والدته، كأنه يخاف من شيء ما، وظل الطفل محمد صحبة والدته في ذلك اليوم، إذ انتقلت الأم بعد ذلك لزيارة بعض من تعرفهم بالمدينة، وفي المساء عادت رفقة ابنها، وفي صباح اليوم الموالي وقعت الجريمة، وعندما عادت الأم سألت عن ابنها لكنها لم تجده، وبدأت رحلة البحث عنه، بعد أن اتصلت عن طريق أحد أفراد عائلتها بمرشد اجتماعي تولى مهمة توزيع نداء من أجل البحث عن الطفل عبر وسائل الإعلام. الحاضر الغائب عندما كانت جموع النساء والأطفال والرجال يهيمون على وجوههم في الأزقة والوديان، وكل مكان يتوقعون أن يجدوا فيه آثرا يدلهم على محمد، كان والده منشغلا بلعب الكارطة مع بعض المتقاعدين، ويتلذذ بدخان الكيف الذي يدخنه رفقة أصدقائه، وكان لا يعود إلى البيت إلا في ساعات متأخرة من الليل، ليدخل إلى الغرفة التي توجد فيها جثة ابنه ويقضي الليل بجواره، وعندما سئل هل شعر بالندم عندما كان بالقرب من جثة ابنه، أجاب المحققين بالنفي القاطع، وكانت نظراته تكشف عن جمود تام في كل المشاعر الإنسانية داخل هذا المخلوق البشري العجيب. ضوء الفجر من المشاهد الغريبة التي يحكيها الأب الجاني أنه عندما بدأت الجثة التي يخفيها تصدر رائحة كريهة، فكر في إبعادها عن البيت، وكانت الوجهة الواد الواعر، حيث ألقى الحاضي رفات عشرات الأطفال، وهناك ألقى الجثة في الساعات الأولى من الفجر، وكان طيلة أسبوع كامل يقصد المكان الذي ألقى فيه جثة ابنه، ليتفقدها ويتسلل عبر أول خيوط الضوء ليتمعن في الجثة وما أصابها، وكان في كل مرة يراهن على أن تأكلها الكلاب وينتهي أمرها. بداية النهاية في خضم البحث عن الطفل زارت الأخت الكبرى لمحمد أمها، وكانت رفقة زوجها واضطرا للمبيت في منزل والديها، وأثناء بحثها في أرجاء البيت تم العثور على محفظة «محمد» مدسوسة بين الأغطية، كما تم العثور على حذائه، وهو ما أثار الشكوك بأن محمد اختطف أو غادر البيت، كما أن المحققين لاحظوا أنه في مراحل البحث كان الأب يتماطل في الحضور إلى مركز الدرك للاستماع إلى أقواله بشأن الطريقة التي اختفى بها الطفل «محمد» الأمر الذي جعل الشكوك تنصب على الأب، وتم استدعاؤه واستنطاقه بشكل مفصل، وبعد محاصرته بالأسئلة من خلال اكتشاف تضارب الأقوال التي أدلى بها قرر أخيرا أن يعترف. العلبة السوداء من التصريحات التي أدلى بها الأب أثناء التحقيق أن زوجته هجرته في الفراش لأزيد من سنتين، وهو ما نفته الزوجة التي أكدت أن آخر معاشرة لها لزوجها كانت يوم الاثنين الذي سبق يوم الأربعاء الذي شهد اختفاء «محمد» وهو ما يعيد الحياة الجنسية بين الزوجين إلى واجهة الأحداث، فهل يعتبر الجنس أحد الدوافع القوية لمثل هذه الجرائم البشعة، وهل الحرمان من متعة الجنس السوي تجعل الآباء يغتصبون فلذات أكبادهم؟ كما صرحت الأم أن زوجها لا يفاتحها في أسراره الخاصة، كما أن الأجواء كانت عادية داخل البيت، ولم تكن هناك مشاكل ظاهرة، لكن كل طرف كان يعيش بمعزل عن الآخر رغم أنه يجمعهما سقف واحد. موجة الخوف عند زيارتنا للمدرسة التي يدرس فيها محمد، أخبرنا بعض رجال التعليم أن الأمهات أصبح يتملكهن الخوف الشديد على أبنائهن، بحيث يوصين من حين لآخر بإحكام إغلاق الباب، وتحرص الأمهات على ضرورة أن يصطحبن أبناءهن عند الدخول وعند الخروج، إذ تتجمع عند البوابة الرئيسية للمدرسة أفواج كبيرة من الأمهات اللواتي أصبحن أكثر خوفا على أبنائهن. زبيدة أشهبون*: يمكن أن تتحول المدينة بأكملها إلى بؤرة للإجرام حينما لا تؤخذ الأمور بالجدية المطلوبة - ما هو تعليقهم علىحادث اغتصاب الطفل محمد أنظام من طرف والده؟ بصراحة، الحادث يثير التقزز والاشمئزاز، ويحرك المشاعر تجاه براءة هذا الطفل التي اغتصبت واغتصبت حياته معها، فقد (تعودنا) سماع حوادث الاغتصاب وخاصة الأطفال والتي للأسف أصبحت ظاهرة تتنامي بشكل سريع في المغرب، وأكيد أن أسبابها موجودة، لكن الاغتصاب بالنسبة لحادث تارودانت اتخذ منحى آخر، إذ صارت الجريمة جريمتين، الاغتصاب من جهة وزنا المحارم إذا صح التعبير، وحينما تأخذ عملية الاغتصاب هذه الأبعاد آنذاك يصعب فهم الظاهرة، ويقتضي الأمر التدخل السريع للخبراء السوسيولوجيين والسيكولوجيين، باعتبارها ظاهرة فردية واجتماعية، لأنها تنطلق من فرد وأي فرد؟ ما هي سيكولوجيته، واجتماعية لأن لها علاقة بالمجتمع الذي يتأثر بها ويؤثر فيها، خاصة وأن حتى مفهوم الأسرة تراجع اليوم، ودور الأبوين أصبح يعرف نوعا من الاختلال . - بخصوص تنامي ظاهرة اغتصاب وقتل الأطفال بمدينة تارودانت هل يمكن القول بإمكانية أن تتحول مدينة بأكملها إلى بيئة لإنتاج الجريمة؟ ممكن أن تتحول المدينة بأكملها إلى بؤرة للإجرام، حينما لا تتخذ الأمور بجدية وتطرح أسئلة عديدة حول: ما هي خصائص المدينة الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الديموغرافية و الإثنية؟ أين يكمن الخلل الذي أفقد هذا المجال توازنه؟ ما هي التدابير التي يجب اتخاذها للحد من الظاهرة؟ كيف يتفاعل المجتمع مع الحدث بما فيه الدولة، المجتمع المدني، الناس العاديون. - ما هي في تحليلكم الأسباب التي قد تكون دافعا لهذا النوع من الجرائم؟ حينما تتكرر الظاهرة في وسط معين، يتبادر إلى دهننا سؤال مشروع، لماذا تتكرر هذه الظاهرة، وربما في أبشع الصور في وسط أو مكان معين، ما الذي يجعلها تتميز بهذا الشكل في مكان دون آخر، إذن السؤال هنا لا يهتم بالظاهرة في حد ذاتها، بل ينكب على معرفة الأسباب الحقيقية وراء ظهور الظاهرة أولا، ووراء تكرارها في الموقع نفسه ثانيا، وهذا ما وقع بالفعل بتارودانت، التي توجد في جنوب المغرب، والتي أضحت عنوانا للاعتداء الجنسي على الأطفال، الذي هو الآخر أخذ مظهرا آخر لم يكن حاضرا من قبل، وهو الاعتداء الجنسي على الطفل من طرف والده، إذ يجتمع الاغتصاب وزنا المحارم، وما الأحداث الأخيرة التي عرفتها تارودانت، والتي هزت الرأي العام المحلي والمغربي والدولي فيما بعد، سيما وأننا نعيش عصر سرعة المعلومة التي تتخطى الحدود والقارات، إلا دليل على أن هناك حلقة مفقودة، مما يطرح العديد من التساؤلات. هل توالي حالات اغتصاب الأطفال بتارودانت هو حادث عادي، أم أن هناك أشياء لا تظهر، هي التي تغذي الظاهرة، هل هي ثقافة، نمط في العيش، انحلال خلقي، هل هو معطى تاريخي يؤسس لهيمنة ذكورية تكرس للفحولة كشرط للرجولة، ومن نتائجها اغتصاب الأطفال، هل هي نتيجة للتهميش وتغييب المنطقة من السياسات التنموية، مما يغذي ظاهرة الانحراف والجريمة؟ أسئلة تجعل من الظاهرة حقلا خصبا للتفكير والمساءلة، لا يتبناها إلا السوسيولوجي الذي لا يقارب الموضوع من وجهة أحادية، كما يفعل السياسي أو الاقتصادي، ولكن مقاربة متعددة يطرح فيها السياسي والاقتصادي والثقافي والسيكولوجي والجغرافي، وكذلك الديموغرافي، ولمعرفة حقيقة الظاهرة والأسباب الخفية الكامنة وراءها لا بد من دراسة المجتمع الروداني من كل صوب وجهة، دون إغفال المعطى التاريخي للظاهرة، هل هي حديثة أم أنها ظاهرة عابرة في الزمان والمكان، لذلك لا يمكن الجواب دون اللجوء إلى مقاربة ميدانية نستحضر فيها كل هذه المعطيات، التاريخي منها والثقافي والاجتماعي والاقتصادي وكذلك السياسي، لأن الظاهرة وتناميها هي نتيجة خلل في أحد هذه المحددات أو في جلها. وإذا عدنا إلى جريمة اغتصاب الأطفال، والتي ليست الأولى من نوعها، إلا أن ما يميز أحداثها هذه المرة ويسطر خصوصيتها هو أن مرتكبها أب اغتصب ابنه وقتله، إذن من هو هذا الشخص، تقول عنه الصحافة إنه يسكن في دوار الزيت المتواجد بمنطقة الطالعة التابعة لجماعة احمر لكلالشة بإقليم تارودانت، هذا معطى أولي يحصر الجاني في مجال جغرافي معين، فبماذا يتميز هذا المجال، ما هي بنياته الاجتماعية الاقتصادية والثقافية؟ لا بد من قراءة لعمق هذا المجال حتى نفهم كيف يمارس الناس حياتهم اليومية وفي أي ظروف؟ كيف يتمثلون حاضرهم ومستقبلهم، ما موقعهم من التنمية ومن السياسات الاقتصادية التي تسنها الدولة بأشكال مختلفة، ما هي حصة هذه المنطقة من تدبير الشأن المحلي الاقتصادي والاجتماعي. كذلك ومن خلال الشهادات فالمجرم من ذوي السوابق القضائية في جريمة السرقة، كما أنه معروف بانطوائه وتناوله لمخدر الكيف وتعاطيه للقمار. يعني ظواهر قد تكون مدينية أكثر منها قروية، فما الذي تغير في المجال القروي الذي بدأ هو الآخر ينتج ظواهر اجتماعية ومنحرفين، وهذه سمة كانت تختص بها المدينة، فكيف تحولت القرية إلى منتج للجريمة والانحراف عوض إنتاجها للقيم والمحافظة على الأخلاق كما كانت من قبل، الجاني كذلك يعول على زوجته التي تقوم بتدبير شؤون بيتها بعد أن ظل زوجها المجرم عاطلا عن العمل. يضاف مشكل البطالة كمعطى آخر قد يكون سببا في الإدمان ولعب القمار الذي يتهيأ للمبتلي به أنه قد يحقق ارتقاء اجتماعيا. إنها معطيات أولية تضع الجاني في الصورة، أي تحدد من هو هذا الشخص، لأي شريحة اجتماعية ينتمي، ما موقعه في المجتمع ؟ ما دوره ؟ ما هي درجة اندماجه في المجتمع؟ ما هي علاقته بالآخرين؟ - معطى الفقر قد يكون واحدا من الأسباب لكن هناك أسر أكثر فقرا لكنها لا تعرف هذا النوع من الجرائم الأخلاقية الفظيعة؟ لا أظن أن الفقر وحده كاف لإنتاج هذه الجرائم، ولكن هناك أسباب أخرى، فنحن نعيش في عالم، كل شيء يخضع فيه للتغيير، حتى القيم والأخلاق وكذلك تراجع دور الأسرة، ودور المدرسة، كما أن بنية القوانين لا تحين ولا تتفاعل مع الحدث كما يجب، فلو أن مسألة الاغتصاب يحاكم صاحبها بالمؤبد أو بالإعدام لما تنامت الظاهرة. هناك أسباب كثيرة ومترابطة . - كشفت بعض الجمعيات أخيرا ارتفاع معدلات الاعتداء الجنسي على الأطفال بجهة سوس هل يمكن الجزم بأن جهة سوس أضحت منطقة معروفة بهذا النوع من أنواع الجريمة؟ ليس فقط سوس ماسة، الظاهرة يعرفها العالم والمغرب، فقط أنها لم تعد طابو في سوس ماسة، إذ بدأ اختراقها والتصريح بها ومحاربة مفهومي العار و»الحشومة» في حين هي موجودة في كل مناطق المغرب. لكن من وجهة نظري الخاصة لا يمكن إسقاط تأويلات وأحكام مجانية على هذا الفعل الإجرامي من هذا النوع، مثلا بأن تارودانت أصبحت مرتعا لجرائم اغتصاب الأطفال، خاصة بتوالي هذا النوع من الجرائم لثلاث مرات، بل يجب تحليل وتفكيك الظاهرة والقيام بدراسة سوسيولوجية لها، حتى نتعرف على الحيثيات والأسباب، ومن ثمة نستطيع اقتراح الحلول، ولكن ثمة شيء مؤكد أن الظاهرة يجب أن يحتضنها الكل، فالدولة مسؤولة والأسرة والمدرسة والمجتمع المدني كذلك، فكما سبق الذكر، تنامي ظواهر الفساد والجرائم والانحراف هو معطى يؤكد على وجود خلل ما في الأنظمة . - هل هناك أبحاث ودراسات علمية تم القيام بها بجهة سوس وما هي أهم نتائجها؟ الدراسات والأبحاث لا يمكن أن يقوم بها إلا السوسيولوجيون، ولكن للأسف السوسيولوجيون عاطلون، ويستغل الوضع أشباه السوسيولوجيين الذين قد يقومون بدراسات محكومة بالفشل من البداية، لأنها تحمل أحكام مسبقة، مثلا منذ أن حللت بأكادير وأنا أحلم بالقيام بدراسة حول الدعارة، الأسباب والتداعيات، بحكم أن منطقة سوس لها تاريخ مجيد علميا وفقهيا ونضاليا، والسؤال هو لماذا تحولت هذه المنطقة إلى مرتع للفساد الأخلاقي؟ وكلما قررت البداية أصطدم بأشياء تجعلني أتراجع، مثلا معارضة مافيا التجار بالجسد، بالإضافة إلى عراقيل في الإجراءات الإدارية، من يضمن لي سلامتي، يمكن أن يتهموني بالفساد، خاصة وأنا امرأة، وهذا راجع إلى أننا للأسف لم نصل إلى الوعي بأهمية السوسيولوجيا في حياة المجتمع. * زبيدة أشهبون أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ، ابن زهر أكادير