تبا، صارت تراودني ومنذ مدة ليست بالقصيرة وبإلحاح غريب فكرة مثيرة جدا وخطيرة: بت أخطط أن أترك عنوة القطار القادم من الشمال يصطدم بالقطار الآخر الآتي من الجنوب في هذه المحطة النائية والثانوية. كان القطاران يلجان المحطة في نفس التوقيت مرتين في اليوم، ويمران بسرعة كالبرق كل واحد في سكته التي لا تبعد عن السكة الأخرى إلا بأقل من نصف متر.. الكثير من الناس لا يستوعب جيدا أهمية وظيفة حارس قطار، تخيلوا معي حجم الكارثة والمصيبة لو أن حارس القطار تقاعس أو نسي ضبط السكة بشكل صحيح، فلن ينجو أحد من المسافرين حين يصطدم القطاران ببعضهما، ليتحولا بعد ذلك إلى ركام من حديد ونار وأشلاء بشرية ممزقة. قبل نصف ساعة من ولوج القطار المحطة، كانت تصلني إشارة إنذار على شكل جرس يرن في مكتبي الصغير، فكنت أتجه مباشرة إلى آلة حديدية منتصبة بالقرب من السكة وهي عبارة عن عمودين حديديين شبه متقاطعين، فكنت أمسك بمقبض العمود الحديدي الأول وأسحبه بقوة إلى الأسفل، فتتباعد السكتان عن بعضهما بعدما كانتا سكة واحدة.. الموضوع برمته لن يكلفني أي مجهود، يكفيني فقط أن أتجاهل إشارة إنذار الجرس، وأترك السكة في وضعيتها الأولى، خط واحد لا غير لتحل الفاجعة باصطدام قطارين سيجدان أنفسهما فجأة وجه لوجه! أعتقد أن أسوأ قرار اتخذته في حياتي حين كنت مراهقا في المرحلة الأولى من التعليم الثانوي يوم طاوعت صديقي المغفل والأبله فيليب في الذهاب إلى إدارة السكة الحديدية وولوج قاعة الامتحانات من أجل اجتياز مباراة وظيفة "حارس قطار".. كان فيليب كسولا جدا ويعاني من ضعف شديد في الرياضيات واللغات الأجنبية وهما المادتان الأساسيتان في الامتحان، اتفقنا قبل ولوج القاعة أن أكتب اسمه الثلاثي في ورقة الامتحان الخاصة بي بينما هو يضع اسمي في ورقته.. كنت متيقنا من نجاح فيليب لأني أجبت على كل التمارين بمهارة وإتقان، كما كنت متيقنا أكثر من رسوبي ليقيني من تواضع مستوى صديقي فيليب الذي لن يفلح أبدا في أي تمرين بسيط، وفي الأخير سيسلم إلى اللجنة المشرفة على المباراة ورقة الامتحان التي تحمل اسمي بيضاء كما تسلمها أول مرة؛ لكن النتيجة كانت صادمة، نجحت أنا ورسب فيليب وكأن إدارة مكتب السكك الحديدية كانت تبحث عن المرشحين الأكثر بلادة. لم تكن لي، في بادئ الأمر، أدنى رغبة في أن أشتغل "حارس قطار"؛ لكن الموضوع مع مرور الوقت صار مغريا جدا، حين علمت أني سوف أتقاضى عند نهاية كل شهر ورقة مالية من ثلاثين خلدة، والتي لا يمكن أبدا مقارنتها بمصروفي الهزيل الذي أحصل عليه من والدي العجوز المقبل على التقاعد.. إذا كان مصروفي الآن لا يتعدى خلدة واحدة كل أسبوعين كيف سيكون عليه الحال عندما يتقاعد والدي ويتقلص راتبه إلى النصف؟ كما أن البذلة الأنيقة لحارس قطار والتي تشبه إلى حد ما زي ضباط الجيش كان لها تأثير كبير في حسم مسألة اختياري والتحاقي بفوج المتدربين بمدرسة السكك الحديدية بمدينة لاهاي. مرت سريعا فترة التدريب والتي لم تتجاوز ثلاثة شهور، ووجدت نفسي ذات يوم خريفي أشتغل في محطة ثانوية ونائية على مقربة من الحدود الألمانية، ربما شعرت في بداية الأمر ببعض الارتياح وبأني محظوظ جدا أشتغل في محطة للعبور لا تتوقف بها القطارات، فلن أكون معنيا إذن بشغب وضجيج المسافرين ومشاكلهم التي لا تنتهي أو مجبرا على الدخول في معارك طوال النهار مع بعض اللصوص الذين يركبون القطار بدون تذكرة سفر، ولن أصطدم مطلقا مع بعض النازيين الألمان الهاربين من العدالة نحو الأراضي الهولندية. إن عملي مريح فيكفيني أن أنتبه إلى رنين جرس الإنذار لتغيير من وضعية السكة كلما صادف مرور قطارين بالمحطة؛ لكني مع مرور الوقت اكتشفت أن أسوأ مكان يمكن أن يشتغل فيه حارس قطار حين يجد نفسه وحيدا في مكان خال من الناس.. منظر الأشجار المنتصبة أمامي كل يوم والساعة الكبيرة المعلقة تتدلى من السقف هذا هو المشهد الوحيد الذي كان يتكرر بملل ورتابة قاهرة، كان الأمر أشبه بزنزانة انفرادية.. الذين خبروا السجن يستوعبون جيدا المعنى الكارثي والدرامي أن تقضي أياما من الحبس منعزلا عن المساجين وحيدا في زنزانة قاتمة، حيث يتكرر المشهد ذاته في روتين بئيس طول الوقت. فوجئت ذات صباح بتوقف سيارة مرسيدس الضخمة أمام باب المحطة، رأيت من خلال نافذة حجرتي الصغيرة نزول سائقها مسرعا ومتجها نحو مكتبي، نهضت من مكاني وبمجرد أن فتحت له الباب حتى صاح في وجهي: "وزير النقل ومدير السكك الحديدية ينتظرانك في الخارج"، حدثني المدير كثيرا عن الزيارة التي ستقوم بها الملكة "فليمنا" إلى مدينة "ارنهايم" في الشمال وأن قطار الملكة سيمر عبر هذه المحطة.. لذلك، يجب أن أستعد جيدا لهذا العبور، وأن تكون المحطة في أبهى وأجمل ما يكون، ومنحني بذلة جديدة تليق باستقبال ملكة البلاد. اشتغلت طيلة أسبوع كامل في تنظيف مرافق المحطة وصباغة الجدران وغرس الورود والأزهار على طول جنبات السكة. في صباح يوم قدوم الملكة، لبست بذلتي الجديدة واعتكفت في مكتبي الصغير أنتظر بشغف كبير أن يرن جرس الإنذار.. عند منتصف النهار، سمعت الجرس، فأسرعت إلى آلة السكة الحديدية ذات العمودين الحديديين شبه متقاطعين وأمسكت بمقبض العمود الحديدي الأول وسحبته إلى الأعلى لكي أفسح المجال لقطار الملكة من مواصلة السير اتجاه الشمال، ثم هرولت نحو وسط المحطة واعتدلت مستقيما في وقفتي، ثم رفعت كفي الأيمن إلى جبهتي وأديت التحية العسكرية، مكثت على هذه الحالة حتى مر كالبرق قطار الملكة. في اليوم الموالي، احتفلت هولندا بعيد الاستقلال ومنحت عطلة رسمية في كل البلاد لكي يتابع الشعب خطاب الملكة بمناسبة أول حكومة ما بعد الحرب وخروج النازيين من البلاد.. غادرت محطتي واتجهت صوب قرية "فينلو" القريبة جلست أتابع وجمهور المقهى شاشة التلفزيون ننتظر الخطاب. كانت التلفزة تبث برنامجا حول أنشطة الملكة وتعرض تفاصيل سفرها الأخير إلى مدينة ارنهايم، حيث من هناك ستلقي خطاب العرش، فجأة شاهدت على شاشة التلفزيون القطار الملكي يمر عبر محطتي، وما كدت أصيح في الناس لكي ينتبهوا إلى ذلك الرجل الواقف وسط المحطة وأضع أصبع سبابتي على الشاشة حتى كان المشهد كله قد تغير في لمحة بصر إلى صور أخرى.. شعرت بإحباط شديد، آه لو علم جمهور المقهى أني هو ذلك الشخص الذي بدا واقفا يؤدي التحية لقطار الملكة، لحظيت بالكثير من الاحترام والتقدير.. حينما كانت الملكة تخطب همست في أذن رجل كان يجلس بجانبي يتابع حديثها بالكثير من الانتباه: "هل تدري أن الملكة فليمنا ما كانت تستطيع الحديث إلى الشعب لو أني تقاعست في ضبط السكة الحديدية بالشكل الصحيح؟" ظل يتابع الرجل الخطاب دون أن يعير كلامي أي اهتمام، المغفل أكيد أنه لم يستطع استيعاب كلامي الكبير! كانت الأيام والأعوام تمر بطيئة جدا ومملة وتكاد تكون متشابهة، بعد أن قضيت أكثر من عقدين في هذه المحطة البئيسة صار يراودني الشك هل أني طوال هذا الزمن كنت أمتهن بالفعل وظيفة "حارس قطار"؟ أم أني كنت بالأحرى في محطة أمارس طوال النهار والليل فعل "الانتظار"، أنتظر قطارا وأهيئ له سكته المناسبة وبمجرد مغادرته المحطة أشرع في انتظار قطار قادم.. كنت في الواقع أعيش انتظارا متواصلا لا ينتهي أبدا، أكيد أن انتظار قطار في محطة ساعة من الزمن هو إحساس ممل وكئيب؛ لكن ماذا عن الذي ينتظر القطار طول اليوم والشهر والسنة؟ أحببت كثيرا الصدفة التي منحتني فرصة التعرف على إليزابيت، أجمل ما في الصدف أنها تأتي بدون انتظار، كنت ذات مساء في حجرتي، فخيل لي وكأني لمحت عبر زجاج النافذة جسما أسود يتحرك ببطء وسط السكة، ثم ما لبث أن توقف لا يحرك ساكنا، خرجت مسرعا من حجرتي وكلما اقتربت أكثر صارت تتضح بشكل أوضح تفاصيل ذاك الجسم الغريب، وجدت امرأة في بداية عقدها الثالث تجلس على حاشية السكة، كانت ترتدي معطفا داكنا وتعتمر قبعة سوداء، حين رفعت رأسها إلي انعكس شعاع الفانوس الذي كنت أحمله على بريق عينيها الدامعتين، فتوهمت للحظة أن مصابيح عديدة قد توهجت فجأة من لمعان عينيها، فأنارت عتمة المحطة وظلمتها، فتيل الفانوس منح وجهها لونا أحمر، فصار أشبه بقرص شمس ساعة الغروب، وقفتْ بمشقة وهي تمسك ببطنها المنتفخة تحاول الهرب.. آه يا إلهي إنها حامل، سمعت نحيبها وهي تخفي وجهها بين كفيها، فعاد من جديد إلى المحطة ليلها وظلمتها وعتمتها، شعرت بهول المشهد الذي أمامي وكأني أمام السيدة مريم العذراء عندما خرجت ذات ليلة هاربة من قريتها خوفا من الفضيحة، انتبهت إلى صفارة القطار القادم فلحقت بالمرأة محاولا أن أثنيها عن رغبتها في الموت تحت عجلات القطار. آه عزيزتي إليزابيت، لا شيء في هذا العالم يستحق أن تضحي بنفسك وجنينك من أجله، بعدما سمعت في تلك الليلة قصتك الحزينة لم أستطع أن أكره صديقك باتريك المستهتر الذي هرب مع امرأة أخرى وتركك وحيدة في وقت كنت في أمس الحاجة إليه، على الرغم من محاولاتك العديدة لكي أكرهه فإنك لم تنجح في ذلك لأني ببساطة شديدة مدين له بهذه الصدفة الرائعة. إذا كان باتريك الخائن والجبان غير مستعد أن يكون زوجا وأبا ها أنا أفتح لك ذراعي وقلبي وحضني لأكون لك حبيبا وزوجا وأبا لابننا الذي يتشكل في أحشائك. ظلت إليزابيت برفقتي ثلاثة أيام كاملة وفي يوم الأحد أخذتها إلى قرية فينلو القريبة، من السذاجة أن تمكث إليزابيت أياما أخرى في هذه المحطة المهجورة والنائية وقد يباغتها المخاض في أي لحظة، استطعت بمشقة أن أعثر على غرفة صغيرة توجد فوق سطح إحدى البنايات.. اكتشفت بعد كل هذه السنين التي قضيتها كحارس للقطار أن الراتب الذي أتقاضاه من إدارة السكك الحديدية شحيح وضئيل لا يلبي نصف الاحتياجات الضرورية لأسرة صغيرة مكونة من أب وأم وجنين.. عدت، فجر يوم الاثنين، وحيدا إلى المحطة أنتظر على أحر من الجمر الأحد المقبل لزيارة إليزابيت.. اكتشفت، من جديد، أني طوال هذه السنين لم أحظ بإجازة طويلة وأن يوم الأحد الذي منحته لي إدارة السكك الحديدية كعطلة نهاية الأسبوع ليس كافيا، فقررت أن أكتب رسالة إلى الإدارة أطلب منها منحي يوم عطلة إضافي والزيادة في أجرتي.. لم أكن أتصور أن الرد على رسالتي سيكون بذلك الشكل المهين بكرامتي، كان جواب الإدارة أقرب إلى رسالة توبيخ، إذ كيف يعقل - حسب اعتقادهم- أن أطلب زيادة راتبي على الرغم من أنني لا أقوم إلا بضبط السكة بشكل مناسب؛ وهو عمل لا يتطلب أي مجهود كبير، وكيف أطلب منحي يوم عطلة إضافية على الرغم من أني أقضي غالب الوقت جالسا في مكتبي! هذا المدير الأبله لا يستوعب أن الانتظار في محطة مهجورة أكثر مشقة على القلب من الشقاء نفسه، ألم يكن حريا بي لو أني تابعت دراستي ورفضت مرافقة صديقي الأهبل فيليب إلى اجتياز المباراة التي نظمتها مديرية السكة الحديدية لكنت ربما الآن طبيبا يمنح الناس الحياة، حارس القطار أيضا حينما يضبط سكته الحديدية بشكل صحيح فهو يعتق رقاب الناس من الموت جراء اصطدام قطارين يسيران على السكة نفسها، ترى لماذا الناس عادة لا تقدر جيدا وظيفة حارس قطار؟ آه لو أني أستطيع أن أعيد عجلة الزمن إلى الوراء ما كنت فكرت قط أن أورط نفسي في هذه المهنة البئيسة، تارة أصاب بهستيريا من الضحك، إذا كنت لا أملك القدرة على مغادرة مكاني هذا والذهاب إلى فينلو حيث تقطن إليزابيت والتي تبعد أقل من نصف ساعة كيف أستطيع إذن أن أعود إلى زمن مضى منه ثلاثة عقود؟ ابتكرت طريقة مسلية جدا ومشوقة أقاوم بها هذا الملل الذي صار يخنق أنفاسي؛ فعندما يرن جرس الإنذار لم أعد أتفاعل معه كما في السابق حينما كنت أسرع إلى آلة السكة الحديدية وأمسك بمقبض العمود الحديدي الأول وأسحبه بقوة إلى الأسفل مانحا للقطارين سكتين منفصلتين ومتباعدتين، فلا بأس لو تأخرت في القيام بذلك ربع ساعة قبل ولوج القطارين المحطة، صار التحدي مشوقا أكثر حينما انتظرت حتى الخمس دقائق الأخيرة، وبعد ذلك قمت بالعملية سريعا حتى عندما كان القطاران يسيران بسرعة مجنونة أمام عيني كدت أنفجر من هستيريا الضحك: "هؤلاء الأغبياء لن يستوعبوا أبدا أن بعض الدقائق فقط هي التي كانت تفصلهم عن الموت"، صرت في الأيام الأخيرة أراهن على تقليص المدة إلى دقيقة واحدة، سيكون حتما الموقف مشوقا أكثر، شعرت بأن هرمون الأدرينالين صار كثيفا في دمي حينما بدت تصلني ذبذبات عجلات القطارين القادمين في اتجاه معاكس وشعرت بأن السكة بدأت تهتز وعلي الآن أن أفصل السكة إلى سكتين منفصلتين.. لأول مرة ومنذ زمن طويل، شعرت بأن الوقت يمر سريعا جدا وأنا الذي عهدته بطيئا لا يتحرك، لا أدري لماذا راودني الإحساس للحظة أن ذراعي صارتا خائرتين لا تقويان على مسك مقبض العمود الحديدي وسحبه إلى الأسفل كانت صفارات القطارين المتكررة والمدوية من الاتجاهين تربكني أكثر.. تبا لا أدري من فكرني في تلك اللحظة برسالة التوبيخ التي بعثها إلي المدير، ربما أردت أن أبرهن له وللعالم قيمة العمل الذي أقوم به حتى ولو كانت الخسائر باهظة التكاليف في المعدات والأرواح. شعرت من هول الموقف بأن كل جسدي توقف عن الحركة إلا عضلة القلب التي صارت كطبل مجنون، فآثرت في الأخير الهرب. حينما ولجت لاهثا منزلي بقرية فينلو القريبة لم أجد إليزابيت، ولا ابني الصغير ميتشو.. عثرت فوق الطاولة على رسالة قصيرة: "عزيزي، لقد أخذت ابننا الصغير وتوجهت هذا المساء إلى اتريخت لزيارة أسرتي.. أكيد سوف أبعث إليك ألف قبلة حينما يمر قطارنا عبر محطتك، آمل أن أراك عبر النافذة لأني افتقدك كثيرا .... المخلصة إليزابيت". أحسست بأن الأرض تدور بي، ولم تعد قدماي قادرتين على حمل جسدي الثقيل الذي شعرت به يرتطم بالأرض، كنت أنتحب بمرارة وألم.. آه ابني ميتشو ألست أنا من أنقذك من الموت وأنت ما زلت في بطن أمك ها أنا أقودك حبيبي إلى موت أكثر بشاعة وفظاعة وألما، غاليتي إليزابيت في الوقت الذي كنت تنتظرين أن تشاهديني من نافذة القطار كنت أهيئ لك مشهدا آخر بلون الدم والنار، هل كان قدرك أن تموتين في المحطة نفسها التي اخترت يوما أن تكون مكان انتحارك الأخير؟ سمعت وكأن جرس الباب يرن فجأة، كان رنينه يشبه إلى حد بعيد جرس إنذار محطة القطار، انتفضت من سريري كما ينتفض الأموات من القبور يوم البعث واتجهت مسرعا لضبط سكة القطار.