أصبح النموذج التنموي الجديد أبرز الملفات الكبرى المطروحة في المغرب منذ سنوات، بعدما دعا الملك محمد السادس إلى إعادة النظر في النموذج الحالي لجعله مُواكباً للتطورات التي تعرفها المملكة ومستجيباً لتطلعات المواطنين. في هذا الصدد، انخرط المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، باعتباره مؤسسة دستورية تضطلع بمهام استشارية، في ورش التفكير في بلورة نموذج تنموي جديد بمقاربة تشاركية أنصت من خلالها إلى 58 فاعلًا، واستطلع رأي أزيد من 5800 من المواطنات والمواطنين، وأعد تقريراً يرصد مكامن الضعف ويقترح خيارات كبرى وإجراءات ملموسة. وتندرج مُساهمة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في إطار الدينامية التي أعقبت خطاب الملك محمد السادس سنة 2017 الذي دعا فيه إلى التفكير في نموذج تنموي جديد، وتفاعل المجلس مع ذلك بإحداث مجموعة عمل ترأسها أحمد رضا الشامي، رئيس المجلس، كُلفت بإعداد هذه المساهمة. وقد جرت المصادقة على هذه المساهمة في الدورة العادية ال 98 للجمعية العامة للمجلس في 30 ماي الماضي، ورفعت إلى الملك قبل أشهر، وحصلت هسبريس على نسخة منها سنحاول إبراز أهم خلاصاتها. مؤهلات المغرب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول النموذج التنموي الجديد أشار إلى أن المغرب يزخر بمؤهلات مهمة يمكنه الاعتماد عليها من أجل النهوض بتنميته وتسريع وتيرتها، ويؤكد أن من بين هذه المؤهلات الهامة ثراءُ رأسمال البلد المادي وغير المادي، وديمغرافيته الشابة وتاريخه وإشعاعه الدولي، وموقعه الجغرافي عند ملتقى الحضارات. وقال التقرير إن المغرب "أظهر قدرةً على الصمود في وجه الأزمات الإقليمية متعددة الأشكال بفضل صمام الأمان الذي تجسده المؤسسة الملكية، كما استطاع خلال العقدين الماضيين إحراز تقدم مهم في مجالات تعزيز الديمقراطية، المصالحة مع الماضي، التنمية الاقتصادية، تعزيز رفاه المواطنين، وإنشاء البنيات التحتية الحديثة". وبناءً على هذه المؤهلات والمنجزات، يعتقد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أنه "بات يَحِقُّ للمغرب أن يَطمح إلى بلوغ مستوى أعلى من التنمية، يكون مرتكزاً على المواطن ومحققاً للنمو الاقتصادي". أوجه قصور زعزعت الثقة في تشخيصه للنموذج التنموي الحالي، سجل المجلس أوجه قصور عدة تعتري هذا النموذج، تهم مجالات النمو والإدماج والتضامن وتكافؤ الفرص والاستدامة، مشيراً إلى أن "أوجه القصور هذه أنتجت إذكاء التقاطبات داخل المجتمع وزعزعة ثقة المواطنين في الحكومة والإدارة والهيئات الوسيطة". وعمل المجلس الاقتصادي، الذي يضم تمثيليات المجتمع المدني والخبراء والنقابات والهيئات المهنية، في تقريره، على تحديد مواطن الضعف البنيوية التي تعتري النموذج التنموي الحالي وتحول دون تحقيق الطموح الجماعي. أولى مواطن الضعف هذه ترتبط، حسب التقرير، بعوامل تحد من تنمية الفرد وتطوير قدراته، وتحد من المبادرة الفردية، وتهم بشكل خاص أوجه الخصاص التي تُعاني منها الخدمات العمومية، ووجود منظومات الريع، والعراقيل التي تحول دون تطور روح المقاولة، وهو ما من شأنه أن يعيق مساهمة المواطنين في التنمية مساهمة كاملة. أما موطن الضعف الثاني الذي جاء في خلاصات التقرير، فيتجلى في "عدم قدرة النموذج التنموي الحالي على توفير الحماية والدعم لفئات عريضة من المجتمع، لا سيما الأشخاص المعوزين والنساء وساكنة العالم القروي، ولا على إشراكهم في دينامية التنمية". كما رصد التقرير، في ثالث مواطن الضعف، أوجه قصور متعلقة بمدى وضوح التوجه العمومي وانسجام السياسات القطاعية وتنفيذ الإصلاحات المعتمدة في البلاد. ويرى المجلس أن مواطن الضعف سالفة الذكر هي "نتاج تراكم العديد من التدابير والمنعطفات والخيارات التي كان لها تأثير كبير على المسار التنموي للبلاد، سواء كانت ذات طابع بنيوي أو ظرفي أو حتى تلك التي كانت تكتسي ظاهريا طابعا غير ذي وقع كبير". 9 خيارات كبرى لمواجهة مواطن الضعف المسجلة في النموذج التنموي، يقترح المجلس إجراء تحولات جديدة تقوم على تسعة خيارات كبرى تُحدد معالم النموذج التنموي الجديد وتسمح بتحقيق الطموح الجماعي بناء على مقاربة منهجية وتشاركية. وتهم الخيارات الأربعة الأولى تنمية الفرد وتعزيز قدراته من أجل تحرير الطاقات، وذلك عبر: - منظومة وطنية للتربية والتكوين محورها المُتَعَلِّم، قائمة على تعزيز وتوسيع مسؤولية الفاعلين وتقوية قدراتهم وتحفيزهم، وهادفة إلى إعداد مواطِنٍ فاعل في دينامية التقدم الاقتصادي والاجتماعي. - جيل جديد من الخدمات العمومية، الناجعة ومتاحة الولوج، المرتكزة على تعزيز وتوسيع مسؤولية الفاعلين، والمستثمِرة بقوة لفرصة التحول الرقمي. - بيئة تَضمن المنافسة السليمة وتُقَنِّن الممارسات الريعية والامتيازات، من أجل تحفيز الاستثمار المنتِج والناجع وتقليص الفوارق. - إجراء تحوُّل هيكلي للاقتصاد يُدمِج القطاع غير المنظَّم ويرتكز على روح المبادرة والابتكار ويرمي إلى تحقيق الإقلاع الصناعي. أما الخياران الخامس والسادس فمن شأنهما، حسب المجلس، تعزيز مشاركة فئات المواطنين الأكثر تهميشا في مسلسل التنمية، وهما: - نساءٌ يتمتَّعن بالاستقلالية ويكنَّ فاعلاتٍ في مجال التنمية ويمارسن حقوقهن بما يكفل مشاركة كاملة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. - عالم قروي مندمج، يحظى بالتثمين، ويتسم بالجاذبية، ومرتبط بمحيطه. في حين يسعى الخياران السابع والثامن إلى تكريس التضامن مع ذوي الحاجة ومع الأجيال المقبلة من خلال: - تضامنٌ مُنظَّم يهدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية ويُمَكِّن من حماية اجتماعية شاملة يساهم في تمويلها المواطنون والمواطنات بكيفية عادلة. - رأسمال طبيعي يحظى بالحماية والتثمين على نحوٍ مستدامٍ من أجل تعزيز النمو المطَّرد. الخيار التاسع والأخير سيُمكن من منظور المجلس من إضفاء الوضوح على الإصلاحات المقرر مباشرتها وخلق الشروط المواتية لتنفيذها على الوجه الأمثل، وهو: - دولةٌ الحق والقانون ضامنة للصالح العام، وفق مقاربة ترابية للعمل العمومي تقوم على التجانس والشفافية والنجاعة والتقييم المُمَنهج. ولتجسيد هذه الخيارات التسعة بشكل عملي، اقترح المجلس أزيد من 180 إجراءً ملموساً يمكن أن يتم تنفيذه بوتيرة سريعة خلال السنوات الخمس المقبلة، عبر توفير الموارد المالية اللازمة والحرص على تعبئة قوية تُمَكِّن من تجاوز أشكال مقاومة التغيير. استعادة الثقة التقرير أورد أيضاً عدداً من الأوراش التي يعتبرها مهيكِلة يمكن إطلاقها على الفور، حيث ستشكل، بحسبه، إشارات قوية من شأنها بناء الثقة، تتمثل في جملة من التدابير؛ من بينها الإسراع بمنح استقلالية فعلية للأكاديميات والجامعات والمدارس والمستشفيات في تدبير شؤونها، بما يسمح بإعطاء المسؤولين بها هامشاً أكبر للفعل والمبادرة، وذلك على أساس تعاقدي، مع إعمال مبدأ المحاسبة. كما يقترح المجلس تحرير المبادرة الاقتصادية من خلال استبدال 90 في المائة من الأذون والتراخيص التي تفرضها الإدارة بدفاتر تحملات وإعادة النظر في الاستثناءات ومواطن الريع والحد من المضاربة العقارية. ويرى المجلس أن هناك ضرورةً لإطلاق برنامج واسع يرمي إلى إحداث "رجة مبادراتية" من أجل إحداث 50.000 مقاولة صغرى ومتوسطة، إضافة إلى العمل، خلال ثلاث سنوات، على نزع الطابع المادي بشكل تام عن جميع معاملات المواطنين والمقاولات مع الإدارة. كما يستوجب الأمر أيضاً تعبئة المسؤولين بالمؤسسات العمومية من خلال تعزيز الثقة ومنحهم هامشاً أكبر للفعل والمبادرة، عبر تقوية المراقبة البَعْدية وإحداث وحدات دعم مؤقتة على شاكلة نموذج "وحدات التنفيذ" (delivery unit) يُعهد إليها بتسريع تنفيذ الإصلاحات الكبرى. وخلص المجلس في تقريره إلى القول: "إن النموذج التنموي الجديد يرتكز على أرضية القيم التي يقوم عليها (مشروعنا المشترك)، وسيكون من شأنه تعزيز التماسك الاجتماعي"، مضيفا: "لذلك، فإن بمقدورنا تحقيقه، لكن الأمر يتطلب انخراط جميع الفاعلين والأطراف المعنية انخراطاً فعلياً في تحقيق التغيير، بدعم وإشراف مؤسساتي من أعلى مستويات الدولة".