احتفت أكاديمية المملكة المغربية بذكرى عضوها عميد الدّراسات الأندلسية الفقيد محمد بنشريفة، على هامش دورتها السادسة والأربعين المعنونة ب"آسيا أفقا للتّفكير"، وسلّمت درعا تكريميا بالمناسبة لأرملته، الأكاديمية عصمت دندش. من قمم التراث والثقافة عبد الجليل لحجمري، أمين السّر الدّائم لأكاديمية المملكة المغربية، قال إنّ الراحل محمد بنشريفة قِمّة من قمم تراثنا وثقافتنا التي وضعت لافتات متوهّجة في حقول مختلفة، منها التعليم الجامعي، والأحاديث الخميسية بالأكاديمية، والدرس اللغوي، والدرس الأندلسي، درسا وتحقيقا وكشفا لكنوزه وتعريفا بأعلامِه. وذكر أمين السّر الدّائم لأكاديمية المملكة المغربية أنّ الكلمات تعجز عن إيفاء الراحل محمد بنشريفة حقه من التقدير، ويصعب الحديث في دقائق عن سعة معارفه في التراث المغربي والأندلسي، التي تستحق أكثر من ساعات وأيام، للاحتفاء ب"منارة معرفية متوهجة في المغرب والغرب الإسلامي، لما اختطّهُ من مناهج جديدة بحثا وتحقيقا وتعريفا وتكملة… ولإِحاطته الواسعة بالقضايا الأندلسية التي بنى بها مناعة لدى الأجيال التي تكونت على يديه، وعُدَّ معها عميدا للتراث الأندلسي". وقال لحجمري إنّ أكاديمية المملكة المغربية قد أرجأت تكريم المرحوم محمد بنشريفة إلى هذه الدورة الكبرى المُشِعَّة حول "آسيا كأفق للتّفكير" ل"تتناسب مع إشعاع عضونا الكبير"، مؤكّدا أنّ الجهود الفكرية الغنية لمحمد بنشريفة أهَّلَتْهُ ليكون محل تقدير مغربي وعربي ودولي، ويكون عضو عدة مجامع، ويظفر بجوائز عديدة. موقف صعب قال عباس الجراري، عضو أكاديمية المملكة المغربية، إنّ "الحديث عن فقيد غال علينا جميعا، وعليّ بصفة خاصّة، موقف صعب"، وأضاف: "لا أجد الكلمات التي يمكن أن أختصر فيها عمرا مديدا عاشرت خلاله عالما، ومشرفا، ومحققا، ومؤطِّرا للأجيال". وكشف عميد الأدب المغربي أنّ العلاقة التي تربطه بالفقيد محمد بنشريفة تعود إلى سبعة وستّين سنة، وقال: "عرفته في مراكش في عام 1952 وأنا في صحبة والدي رحمه الله في الدراسة الثانوية، وكان قد انطلق في مدارس البنات التي أشرف عليها المغفور له محمد الخامس، ولفت نظري شابان اثنان يتألقان نبوغا وذكاء هما أحمد الشرقاوي إقبال الذي أصبح من الأصدقاء الأعزاء، والفقيد محمد بنشريفة". وأضاف الجراري أنّ "النقاش الذي تمّ في غذاء ذلك اليوم بمرّاكش كان عن الأزمة ومصير التعليم وبن يوسف، وتحدّث فيه الشرقاوي بجرأة، وتحدّث بنشريفة بهدوء وتؤدة وتأنّ وحياء". وأورد أنه كان يلتقي بهما من حين لآخر خلال أسبوع اللقاء، قبل أن تتأزّم الأوضاع ويُنفَى محمد الخامس وتتفرّق بهم السُّبُل، فتابع بنشريفة دراسته في جامعة محمد الخامس، واتّجه الجراري إلى مصر وفرنسا. ثمّ مرّت السنون والتقيا في عام 1969 في القاهرة التي جاءها بنشريفة لتقديم ما تقتضي مناقشة أطروحته. ووجد الجراري في أرض مصر محمد بنشريفة معتكفا بالبيت، وحوله أوراق وكتب. وقد غمرَتهُما فرحة عارمة في هذا الملتقى الجديد للتعارف على بساط العلم والبحث، واتّفقا على أن تكون مناقشَتُهما لأطروحتيهما في أسبوع واحد، وكذلك كان. بعد هذه المناقشة، انطلقت الصداقة التي بدأت عام 1952، حسب عميد الأدب المغربي، وكانت صداقة في عوالم البحث والحديث عن الدراسات الأندلسية، وما يمكن أن يكون للأدب المغربي من حظ فيها. ثم التقيا في الجامعة، وبنيا على ما كان يروج بينهما من حديث وطموح للنهوض بالدراسات الأندلسية والدراسات المغربية، موردا أن الأمر "لم يكن سهلا في تلك الأيام". وتذكّر الجراري حدوث ما سيجعل الدّرس الأندلسي والمغربي يتألقان ويزدهران، ويقبل عليهما بشكل لافت للنظر بعد إحداث شعبتَين للدراسات العليا، إحداهما للدراسات الأندلسية أشرف عليها محمد بنشريفة، فيما كلِّف عباس الجراري بالشعبة المغربية، وقال: "هنا مسيرة أخرى، وكان الطلاب يسجلون هنا وهناك، وكانت المناقشات هنا وهناك، وكان التبادل في جلسات المناقشة والتّعاون على النهوض بالدرس الأندلسي والمغربي، دون تفريق بينهما، فهو درس أندلسي مغربي، ومغربي أندلسي". وذكّر عضو أكاديمية المملكة بحضور الفقيد محمد بنشريفة مختلف جلسات المناقشة، وتميُّزه بالدقة مع الطالب في اللغة والنحو والعروض، وكل المعلومات التي قد يأتي بها، والنصوص التي يعتمد عليها، وقال: "استمر الوضع على هذا النحو إلى أن التقينا في أكاديمية المملكة المغربية، وكانت الحاجة لتكوين اللجان، فتبادلنا لجنة التراث واللغة العربية كأنها لجنة واحدة، وتعاونا على تشجيع الباحثين الذين أقدموا على الأكاديمية، وهنا بذل بنشريفة جهدا كبيرا في احتضان هذه المنشورات التي تعنى بالدرس الأندلسي، والفن الموسيقي". وبعد "حياة حافلة وصحبة تجاوزت الرفقة والصداقة وما هو متبادل بين الأصدقاء إلى احتضان مشروع علمي، نهض به في جوانب ونهضت به في جانب آخر"، شكر عباس الجراري أمين السّر الدائم لتكريم الأعضاء الأكاديميين الراحلين، ثم استدرك قائلا: "إلا أنّ تكريم الأعلام يحتاج ندوات تدوم أياما"، قبل أن يضيف: "بنبوغ محمد بنشريفة وذكائه وحرصه ومواهبه وكل ما أنجز من أعمال علمية رصينة، ما كان ليتحقق ذلك كله على النحو الذي نجتمع اليوم للإشادة به لولا وجود رفيقة دربه، السيدة الفاضلة الأستاذة الباحثة الجليلة المحققة عصمت دندش، التي كانت إلى جانبه تشد عضده وتقوي ساعده، وتيسر ما يتعسّر عليه"، ودعا الحاضرين بالأكاديمية إلى "الوقوف تحيّة لهذه السيدة". "وما يعقِلها إلا العالمون" قرأت عصمت دندش، الأكاديمية أرملة محمد بنشريفة، سورة الفاتحة على روح الفقيد، وروح من رحلوا من أعضاء الأكاديمية في صمت، وشكرت أكاديمية المملكة على تذكّر الراحل، العالم، المصباح المنير؛ لأن العلماء سرج الأزمنة، وكل منهم مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره، في هذا التكريم الذي جاء فجأة كما توفي محمد بنشريفة فجأة، ثم قالت إنّها عاجزة عن تقديم كل ما تملك من تحية لجميع الأفراد الذين شاركوا في تنظيم هذه الأمسية. بدوره، قال محمد الكتاني، أمين السر المساعد لأكاديمية المملكة المغربية، إنّ هذا الحفل يحتفي بتكريم أحد أعضاء الأكاديمية الراحلين إلى دار البقاء، الذين كانوا من أوائل من حظوا بتقدير مؤسس أكاديمية المملكة وراعيها الملك الحسن الثاني، بتعيينه عضوا مقيما منذ بداية الثمانينات، وظل حاضرا بنشاطه العلمي، وعضوا فعالا، ومحاورا مقنعا، ومناقشا مجليا في كل المناقشات والمحاورات والإصدارات التي صدرت له من تراث أندلسي قائم على التحقيق والتوثيق. وأبرز الكتاني أنّ مما عزز استحقاق بنشريفة لكثير ممّا حظي به من تكريم، تخويله عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع اللغة العربية بدمشق، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمان، والأكاديمية الملكية للتاريخ بإسبانيا، وزاد مؤكّدا أن "محمد بنشريفة كان من بناة صرح الجامعة المغربية، ومن أساتذتها المرموقين في كليات الآداب الذين رسّخوا فيها، وهي في بداية إنشائها، تقاليد البحث العلمي في الدراسات الأدبية، وتحقيق النصوص، وكان ممّن كونوا أجيالا من الباحثين الذين تعاقبوا لخمسة عقود على الجامعة". وذكّر الكتاني بأنّ محمد بنشريفة كان من طليعة المجازين في كلية الآداب، وكان أوّل من حصل على دبلوم الدراسات العليا فيها، ثم رحل إلى القاهرة وحصل فيها على الدكتوراه في الدراسات الأندلسية، وعاد ليشغل منصب أستاذ بجامعة محمد الخامس، قبل أن يعيَّن في مطلع الثمانينات عميدا لكلية الآداب بوجدة، ثم محافظا عاما للمكتبة الوطنية لسنوات، كان فيها من المساهمين في تنظيمها وإغنائها، دون أن يتوقّف عن البحث العلمي، وإغناء المكتبة بالأبحاث الجادة القائمة على التّحقيق والنّقد المنهجيّ والمتثبّت. وشهد الكتاني بأن الراحل "لا يمكن أن ينتج عملا إلا وقد قتل فيه الوقت بحثا وتدقيقا، مع احترام الاختصاص إلى أقصى الحدود"، مضيفا أن بنشريفة "أصبح في مسيرته العلمية، التي أصدر فيها ما يربو عن أربعين كتابا مع الإشراف على العديد من الأطاريح ومناقشها، بدون منازع، مرجعا في تخصص الأدب الأندلسي على مستوى العالم العربي".