قال محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، إن هناك تحولات كبيرة في المفاهيم القانونية نتيجة الثورة التكنولوجية الهائلة، "فعدما كنا نتحدث عن البريد والطابع البريدي كرمز من رموز سيادة الدولة، أصبح لكل منا بريده الإلكتروني الذي لا يحتاج إلى جهة مركزية وسيطة لإبلاغ رسائله، وبعدما كانت النقود وسيلة الدفع الوحيدة المعترف بها رسميا، أصبحنا اليوم نعاين حالات الدفع وتحويل الأموال بواسطة عملات افتراضية أو مشفرة". وأضاف عبد النباوي في كلمة ألقاها نيابة عنه عبد الرحمان اللمتوني، رئيس شعبة تتبع القضايا الجنائية الخاصة برئاسة النيابة العامة، بمناسبة اليوم الدراسي حول محاربة الابتزاز الجنسي، المنظم اليوم الخميس بالمعهد الملكي للشرطة بالقنيطرة من طرف المديرية العامة للأمن الوطني: "لقد كان مفهوم الحق في الخصوصية محصورا في مجالات محددة محمية دستوريا وقانونيا، على رأسها حرمة المنزل وسرية المراسلات. وأدى التطور التكنولوجي إلى تحول كبير في هذا المفهوم، إذ أصبح الإنسان مهددا في خصوصيته أينما حل وارتحل، حتى وإن كان داخل منزله، نتيجة ما أصبحت تتيحه التكنولوجيا من سهولة الاتصال بالناس واقتحام خصوصيتهم والإطلاع على أسرارهم وأمورهم الحميمية". واعتبر رئيس النيابة العامة أن المظاهر السلبية لهذه التحولات تجلت في بروز بعض الظواهر التي تمثل الجانب السلبي للتكنولوجيا؛ ومن بينها الابتزاز الجنسي عبر الأنترنيت، "الذي يبقى من الظواهر الإجرامية الخطيرة التي انتشرت بشكل ملفت في الآونة الأخيرة، بالنظر إلى تصاعد نسبتها وما تخلفه من أضرار بليغة تلحق الضحايا وأسرهم؛ إذ أبانت حالات هذه الجريمة أن الضحية يتعرض لأضرار نفسية بليغة، فضلا عن الأضرار ذات الطابع الاجتماعي التي قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى تدمير العلاقات الزوجية والعلاقات الأسرية عموما". وشدد المتحدث على أن آثار هذه الظاهرة تجاوزت الحدود الوطنية، وأصبح لها ضحايا خارج أرض الوطن، واسترسل: "لم تعد نشاطا إجراميا فرديا معزولا وإنما أضحت ترتكب في بعض الحالات من قبل مجموعة من الأشخاص في إطار منظم يتم فيه تقاسم الأدوار بين الجناة، بحيث يتولى بعضهم استدراج الضحية ويتولى البعض الآخر عملية الابتزاز، في حين يتكلف آخرون بتلقي المبالغ المالية المحصلة من نشاط الابتزاز". ومما يزيد من مخاطر هذه الجريمة، يقول عبد النباوي، أنها "ترتبط بعوامل اجتماعية وثقافية، تجعل الضحية يخضع بسهولة للابتزاز ويتردد في تبليغ السلطات، خوفا من الفضيحة أو من الانتقام، خاصة عندما يكون الضحايا قاصرين، وليست لهم خبرة كافية في الحياة لمواجهة إغراءات وضغوط وتهديدات المجرمين في هذا النوع من الإجرام". وأكد محمد عبد النباوي أن الإطار القانوني المؤطر لهذا النوع من الأفعال متوفر، إذ تقبل الأفعال أكثر من وصف قانوني، إذ تكيف بجرائم الحصول على مبالغ مالية بواسطة التهديد بإفشاء أو نسبة أمور شائنة، النصب، الدخول إلى نظام المعالجة الآلية للمعطيات عن طريق الاحتيال، التقاط وبث وتركيب صور شخص دون موافقته، المس بالحياة الخاصة للأفراد، واستغلال أطفال في مواد إباحية. وزاد: "رغم أن السياسة الجنائية تتجه إلى التشديد تجاه هذا النوع من الأفعال، إذ تكون غالبية المتابعات مقرونة باعتقال المتهمين، بالإضافة إلى صدور أحكام سالبة للحرية في هذه الجرائم، فالملاحظ أن الظاهرة مستمرة، بل ويتم تسجيل مجموعة من حالات العود، وهو ما يعني أن السياسة الجنائية مدعوة لإيلاء اهتمام أكبر لهذا الموضوع عبر تطوير وسائل المواجهة والصرامة في التعامل مع هذه الجرائم، لاسيما في حالات العود أو عند مباشرة هذه الجرائم في إطار منظم أو باستعمال وسائل متطورة أو عندما يكون الضحية قاصرا، إضافة إلى تطوير وسائل البحث والتحقيق والاستفادة مما يتيحه الدليل الإلكتروني والتعاون الدولي من إمكانيات لجمع وسائل الإثبات وتقديم الجناة للعدالة". وكشف المتحدث أن رئاسة النيابة العامة، وعيا منها بخطورة هذه الظاهرة، فإنها تولي عناية خاصة للمداخل الأساسية لمواجهتها؛ وذلك عبر تتبع هذه القضايا وتعيين قضاة للنيابة العامة كنقط اتصال بشأن الجرائم المعلوماتية في مختلف النيابات العامة بالمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، مع إخضاعهم لدورات تكوينية متخصصة، لاسيما من خلال التعاون مع مجلس أوربا في إطار برامج GLASY و GLACY+ وCYBER-SUD، فضلا عن تفعيل طلبات التعاون الدولي بتوجيه إنابات قضائية دولية عندما يتعلق الأمر بدليل رقمي يوجد خارج أرض الوطن في إطار الاتفاقيات الثنائية أو عبر آلية 24/7 التي تتيحها اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة المعلوماتية، والتي يبقى قطب القضايا الجنائية الخاصة برئاسة النيابة العامة نقطة اتصال بشأنها إلى جانب المصالح المختصة بالمديرية العامة للأمن الوطني، إضافة إلى ضبط مجموعة من حالات الابتزاز الجنسي عبر الأنترنيت بتنسيق مع الضحايا، بعد التبليغ بواسطة الخط المباشر الذي وضعته رئاسة النيابة العامة رهن إشارة المواطنين. وأبرز المسؤول أنه رغم كل الجهود المبذولة على مستوى السياسة الجنائية وأجهزة البحث والتحقيق والسلطات القضائية لمكافحة هذا النوع من الجرائم، إلا أنها لا تكفي وحدها للقضاء على جذورها، "بل لا بد أن تواكبها جهود أخرى على مستوى باقي السياسات العمومية؛ وذلك بوضع سياسات اجتماعية واقتصادية وتربوية مكملة، خاصة بالمناطق التي تعرف انتشارا كبيرا لهذه الظاهرة". وختم محمد عبد النباوي كلمته بالتأكيد على أن اللقاء يشكل فضاء للتفكير الجماعي من أجل تحليل الظاهرة واقتراح الحلول المناسبة لمواجهتها، لاسيما في ما يتعلق بأدوار أجهزة العدالة الجنائية وأدوار باقي الهيئات والمؤسسات المعنية بالظاهرة.