السادة أعضاء المجلس العلمي الأعلى تحية طيبة يطيب لي أن أتوجه إليكم برسالتي هذه لأذكّركم إن الذكرى تنفع المؤمنين بمقاصد الشريعة الإسلامية التي لخصها قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة:185. فأنتم بفتاواكم توقّعون عن الله تعالى وتواصلون الاضطلاع بالرسالة النبوية في بيان أحكام الشرع وشرح أمور الدين للعباد، وهذه مهمة جسيمة اعتبارا لتأثيرها على الفرد والمجتمع؛ ففتاواكم يمكن أن ترفع الحرج عن العباد وتخفف عنهم الأعباء وتبعد عنهم المآسي. ولكم، أيها السادة الأفاضل، أن تستحضروا معاناة 800 سيدة أو فتاة على الأقل يلجأن إلى الإجهاض السري يوميا، مصير 24 رضيعا يرمون في الشارع يوميا، وعشرات الآلاف من الأطفال المتخلى عنهم وكان من الممكن ألا يُولدوا؛ أطفال ضحايا الانحراف ومشاريع مجرمين وإرهابيين يهددون سلامة المواطنين وأمن الوطن. علماءنا الكرام، لا يخفى عليكم أن كل الفتاوى الفقهية التي تعالج مسألة الإجهاض هي اجتهادات بشرية وليست أحكاما أو نصوصا دينية قطعية؛ فالإجهاض يدخل ضمن منطقة العفو التي تركها الله تعالى لتجتهد الأمة بما يحقق مصلحتها، ولا مصلحة تحققها فتاوى تعرض حياة 800 سيدة يوميا للخطر وتلقي بآلاف الأطفال والرضع إلى الشارع وتقطع صلة الأرحام وتجبر فتيات ضحايا التغرير أو الاغتصاب على الارتماء في براثن الدعارة والاتجار بالبشر. من هنا، سادتي الأفاضل، لا تعتقدوا أن فتاواكم هذه التي تنقذ الأجنة من الإجهاض ستضمن لهم العيش الكريم بعد الولادة. إنها تقذف بالأطفال الأبرياء إلى المجهول وتجعلهم عرضة لكل أنواع الانحراف والاستغلال والإجرام، فضلا عن كونها تعمّق مآسي الأمهات وتعقّد أوضاعهن الاجتماعية والأسرية والقانونية. أيها السادة الكرام، إن المصلحة العامة للمجتمع والوطن تقتضي منكم الاجتهاد من جديد في موضوع الإجهاض. فكما اقتضت المصلحة العامة منكم مراجعة فتواكم بقتل المرتد بعد الانتقادات الواسعة التي تعرّض لها مجلسكم، فإنها تقتضي اليوم مراجعة فتواكم في الإجهاض اعتبارا لأمور عديدة، أهمها: 1. إن غالبية المذاهب الفقهية السنية والشيعية تبيح الإجهاض منذ أربعة عشر قرنا. وكما انفتحت مدونة الأسرة على المذهب الحنفي في مسألة ولاية البكر الراشد على نفسها في الزواج خلافا للمذهب المالكي، يمكن للقانون الجنائي أن ينفتح على المذاهب الفقهية لرفع التجريم عن الإجهاض. واستند الأئمة في إباحة الإجهاض قبل نفخ الروح إلى الحديث النبوي الشريف التالي: روى البخاري قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله–وهو الصادق المصدوق–قال: إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يَبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجَله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابُه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة". من هنا أسسوا فتوى إباحة الإجهاض على الأدلة التالي: أ. أن كل ما لم تحلْه الروح لا يبعث يوم القيامة، ومن لا يُبعث فلا اعتبار لوجوده، ومن هو كذلك فلا حرمة في إسقاطه. ب. أن الجنين ما لم يتخلق فإنه ليس بآدمي، وإذا لم يكن كذلك فلا حرمة له، ومن ثم يجوز إسقاطه. وجاءت فتاوى غالبيتهم كالتالي: قال ابن عقيل: ما لم تحُلْه الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14-المؤمنون). قال ابن الهمام رحمه الله في "فتح القدير" (3/401): "وهل يباح الإسقاط بعد الحَبَل؟ يباح ما لم يتخلق شيء منه، ثم في غير موضعٍ قالوا: ولا يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما. وقال الرملي في "نهاية المحتاج" (8/443): "الراجح تحريمه بعد نفخ الروح مطلقا، وجوازه قبله". وفي حاشية الشيخ شهاب الدين القليوبي (4/160): "نعم، يجوز إلقاؤه ولو بدواء قبل نفخ الروح فيه". وقال المرداوي في "الإنصاف" (1/386): "يجوز شرب دواء لإسقاط نطفة". ذَكرَه في الوجيز، وقدمه في الفروع. 2. التوجيهات الملكية التي وردت في خطاب 30 أبريل 2004 إلى أعضاء المجالس العلمية بضرورة "الجمع بين فقه الدين والانفتاح على قضايا العصر، حاثين إياهم على الإصغاء إلى المواطنين". فمذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومطالب الهيئات النسائية والحقوقية ومئات الآلاف من النساء اللائي يلجأن إلى الإجهاض سنويا، كلها أصوات تستدعي الإصغاء إليها. 3. الانسجام مع الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب والتي تصون الحريات الفردية، وفي صلبها حق المرأة في امتلاك جسدها وحريتها في الإيقاف الإرادي للحمل. وهذا ما سبق لجلالة الملك أن أكد عليه في خطاب العرش لسنة 2003، حين حث أعضاء المجالس العلمية على جعل الإسلام منسجما مع المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، "وبهذا المنظور المتنور لمرجعيتنا الدينية يتكامل الإسلام مع الحداثة مشكلا رافدا أساسيا من روافد المرجعية الكونية منسجما مع دعامتها الكبرى ألا وهي الديمقراطية التي جعلناها عماد الملكية الدستورية المغربية وخيارا لا رجعة فيه". علماءنا الأفاضل، إن معاناة ومآسي عشرات الآلاف من الأطفال المتخلى عنهم والأمهات العازبات ضحايا الاغتصاب أو التغرير تخاطب فيكم ضمائركم الدينية وروحكم الوطنية لمراجعة فتاواكم كما راجعها من سبقوكم حين أفتوا بتحريم تعليم الإناث وعمل المرأة أو توليها القضاء أو الشهادة أمام المحاكم. فالواقع الاجتماعي الذي تعالجون مشاكله تجاوز الفتاوى المحرِّمة والقوانين المجرِّمة للإجهاض. فمهما حرّمتم وجرمتم لن يتوقف الإجهاض بل ستزيد نسبه لأسباب عديدة، في مقدمتها رفضكم إلحاق الولد إلى أبيه البيولوجي وتشبثكم بحديث (الولد للفراش) رغم التطور العلمي والتقني الذي يفصل نهائيا في مسألة النسب. إن واقعة الحمْل لا ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها الأم وحدها، بل لا بد أن يتقاسمها معها الأب البيولوجي. علماءنا الكرام، أنتم خير العارفين أن الحكم الشرعي يدور مع علته وجودا وعدما. وكثير من الأحكام الفقهية انتفت عللها وغدت عبئا على المجتمع وعلى المواطنين. وليس خافيا عليكم الحديث النبوي الشريف (إن الدين يُسرٌ ولا يُشاد الدين أحد إلا غلبه)، فيسّروا ولا تعسّروا جازاكم الله خيرا. والسلام عليكم