أزمة تخلي المرفق العمومي عن ممارسة اختصاصاته يثار لثاني سنة على التوالي نقاش حول قانونية أو أحقية الحجز على الأموال والممتلكات العمومية، في السنة الماضية أقر وزير الاقتصاد والمالية بضرورة معالجة هذا الموضوع في إطار قانون المسطرة المدنية وليس في قوانين المالية (آنذاك كانت المادة 8)، فلماذا الإصرار على طرحها مجددا في مشروع قانون مالية 2020؟ قبل الجواب مباشرة على هذا التساؤل، لا بد من موضعة القارئ في تاريخية هذا الجدل، مبدئيا كان الفقه والقضاء مُجْمِعَيْنِ على عدم جواز الحجز على الأموال والممتلكات العمومية، ولكن مع تمادي الدولة (وزارات وجماعات ترابية) في عدم تنفيذ الأحكام القضائية، خصوصا ذات الصلة بالاعتداء المادي على عقارات الأشخاص، والذي كانت نتيجته الخطاب الشهير لجلالة الملك الراحل في 8 ماي 1990، الذي دعا فيه إلى تمكين المواطنات والمواطنين من آليتين لمواجهة تعسف الإدارة (المحاكم الإدارية) وانتهاكات حقوق الإنسان (المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان). طبعاً، موضوعنا اليوم يقتصر على تعسف الإدارة على حقوق المواطنين، من جراء رفضها تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية النهائية، وهو ما نَبَّه له أيضا جلالة الملك، خلال افتتاحه للدورة الأولى للبرلمان في 14 أكتوبر 2016، عندما أكد على «... أن المواطن يشتكي بكثرة، ...من عدم تنفيذ الأحكام، وخاصة في مواجهة الإدارة، فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها. وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟». بعد تقصير مؤسسات الدولة في تنفيذ الأحكام، بدأ القضاء الإداري في استعمال وسائل جبرية لحمل الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية، وخصوصا الغرامة التهديدية (إدارية مكناس في نهاية 1995)، والحجز بين يدي الغير (إدارية الرباط ابتداء من سنة 1997)، وسنركز على هذه النقطة الأخيرة، حيث شُرِعَ في الحجز على الحسابات الخصوصية، لينتقل إلى الميزانية العامة، لينتَهِيَ بالحجز على حساب الخزينة العامة المفتوح لدى بنك المغرب. ومع توالي الأحكام، وعدم برمجة الاعتمادات لتغطية المبالغ الواردة فيها، ترتبت مبالغ قد تكون خيالية، ويصعب في وضعيتنا المالية والاقتصادية تأديتها مرة واحدة، لأنها سَتُفْضي إلى إعاقة السير العادي للعديد من المرافق العمومية، والتي تُعَدُّ ديمومة خدماتها من الحقوق الدستورية أيضا. وبالمقابل هناك حقوق لمواطنين مغبونين (بالمفهوم الشعبي وليس المسطرة المدنية)، لا ذنب لهم في سوء تدبير مسؤولين عن تلك المرافق العمومية أو تقصيرهم في تطبيق المقتضيات ذات الصلة بهذا الموضوع، والذي أوصلنا إلى وضعية كارثية، يجب أن يُسَاءَلوا عنها في الإطار الخاص بذلك. فمند صدور أول قرار للحجز عن المحكمة الإدارية بالرباط سنة 1997، وتوالي عدم تنفيذ الأحكام، حث الوزير الأول في 31 غشت 1998 (المنشور عدد 98/37)، الإدارات على تنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهتها، لنتساءل اليوم عن حصيلة التنفيذ، فما هو عدد الأحكام التي نُفِّذَتْ لحد الآن؟ وخصوصا، ماذا قامت به المؤسسات المعنية من أجل عدم تكرار الأخطاء التي استوجبت استصدار أحكام نهائية في مواجهة الإدارة؟ فبعد ربع قرن من الممارسة، فما زلنا في سنة 2019 نسمع عن الاعتداء المادي، فالمشكلة تكمن إذن: في ممارسات إدارية خارج المساطر القانونية الناظمة للمجال وتدبير المسؤولين المعنيين لموضوع الوفاء بمتطلبات تنفيذ الأحكام القضائية. أعود لسؤال البداية، لماذا الإصرار على طرح هذا الموضوع، أو محاولة تهريبه ضمن مقتضيات قانون المالية، وأربطه بتقليص مجال المحاكم الإدارية المتوقع في التنظيم القضائي الجديد للمملكة (لحد الساعة أبطلت المحكمة الدستورية العديد من مقتضيات هذا القانون لعدم ملاءمتها مع الدستور-قرار رقم: 19/89 م.د بتاريخ 8 فبراير 2019-). لأستخلص بأن هناك جهات أزعجها عمل المحاكم الإدارية خلال ربع قرن من وجودها، علما أن إحداثها جاء لتعزيز الشرعية ودولة القانون، فهل استنفدت مهمتها؟ تحد مطروح على كل غيور على الديمقراطية وشرعية عمل المؤسسات. وسأحصر هذا المقال في نقطتين: العلاقة مع قانون المالية. العلاقة مع الجماعات الترابية. أولا: العلاقة مع قانون المالية انعدام العلاقة مع قانون المالية: هناك شبه إجماع على أن تنفيذ الأحكام القضائية لا يدخل ضمن نطاق قانون المالية، فالمادة 6 من القانون التنظيمي للمالية صريحة، ومصاغة بلغة الوجوب، بحيث لا تجيز إدماج أي مقتضى خارج عما حددته حصرا لمضمون قانون المالية، والذي نصت فيه على أنه "لا يمكن أن تتضمن قوانين المالية إلا أحكاما تتعلق بالموارد والتكاليف أو تهدف إلى تحسين الشروط المتعلقة بتحصيل المداخيل وبمراقبة استعمال الأموال العمومية". غير ذلك، يعتبر أي مقترح خارج مجال قانون المالية، أو ما يصطلح عليه في قوانين الموازنة ب«فرسان الميزانية cavalier budgétaire " وهو ما سبق للمجلس الدستوري أن اعتبره، في قراره رقم: 728/08 بتاريخ 29 دجنبر 2008، غير مطابق للدستور، والمناسبة كانت محاولة إدماج مسطرة خاصة لتحصيل غرامات مخالفات مدونة السير في قانون مالية 2009. وكما سبقت الإشارة، إلى أن هناك اتفاقا على أن مجال معالجة مسألة التنفيذ الجبري هو قانون المسطرة المدنية، وبالعودة إلى مشروع هذا القانون نجده خصص فصوله من 494 إلى 500 لمسألة تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهة أشخاص القانون العام. إدراج الجماعات الترابية وجماعاتها في قانون المالية: حددت المادة9 المصوت عليها في مجلس النواب، في الجملة الأخيرة من فقرتها الثالثة، من أنه لا يجوز «أن تخضع أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها للحجز". يمكن فهم إدماج أموال وممتلكات الدولة لأن قانون المالية يحدد موارد وتكاليف الدولة، ولكن بالمقابل لماذا تم إقحام أموال وممتلكات الجماعات الترابية ومجموعاتها؟ من جانبنا نعتبر ذلك مقترحا خارج مجال قانون المالية، للأسباب التالية: من زاوية القانون التنظيمي للمالية: تحدد المادة 12 تكاليف الدولة في: *نفقات الميزانية العامة *نفقات ميزانيات مرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة. *نفقات الحسابات الخصوصية للخزينة. ومن جهتها، تنص المادة 14على أن نفقات التسيير للميزانية العامة تشتمل على «النفقات المتعلقة بتنفيذ القرارات والأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة" ففي المادتين معا لا وجود للجماعات الترابية، ومن الزاوية الإدارية فالدولة لها شخصيتها الاعتبارية المستقلة عن الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية. من زاوية القوانين التنظيمية للجماعات الترابية (يشار إليها بالقانون لاحقا): تنص المادة الثالثة من القانون المنظم للجهات، والمادة الثانية من القانون المنظم للعمالات والأقاليم، وكذا المادة الثانية من القانون المنظم للجماعات الترابية، على أنها جماعات ترابية خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي. الأمر الذي لا يترك مجالا للشك حول استقلالية الشخصية الاعتبارية والمالية للجماعات الترابية عن مثيلتها لدى الدولة. وبتمتع كل واحدة منها بنظام مالي مستقل عن الأخرى. ثانيا-تحصين الدولة من خلال القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وفرت القوانين المشار إليها للسلطات العمومية ضمانات متعددة، للتحكم وحسن تدبير النفقات المتعلقة بالقرارات والأحكام النهائية والقابلة للتنفيذ الصادرة في مواجهة الجماعات الترابية. مراقبة قبلية بخصوص الجهات، تنص المادة 196 من القانون المنظم لها على إجبارية النفقات المتعلقة بتنفيذ القرارات والأحكام الصادرة ضدها، مما يلزم الآمر بالصرف بضرورة تسجيلها في الميزانية السنوية للجهة. وتخضع الإجبارية لمراقبة السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية قبل تأشيرها على ميزانية الجهة (المادة 202 من القانون). ولضمان حقوق المتضررين في حالة امتناع رئيس المجلس عن الأمر بصرف نفقة وجب تسديدها من قبل الجهة. حق لوالي الجهة وفق مسطرة محددة في المادة 211، ممارسة سلطة الحلول وأن يحل محل الرئيس في القيام بالأعمال التي امتنع هذا الأخير عن القيام بها كما هو محدد في المادة 79 (الفقرتان 2و3) من القانون. بخصوص العمالات والأقاليم والجماعات الترابية تخضع هذه الجماعات لمقتضيات مشابهة لتلك المطبقة على الجهات، بالنسبة إلى العمالات والأقاليم إجبارية النفقات محددة في المادة 174، تأشير السلطات (عامل العمالة أو الإقليم) على الميزانية (المادة 180)، دعوة عامل العمالة أو الإقليم رئيس المجلس الإقليمي إلى تسجيل كل نفقة إجبارية (المادة 183)، ممارسة سلطة الحلول (المادتان 77 فق2و3، و187). بالنسبة إلى مجالس الجماعات الترابية، إجبارية نفقات الجماعة مقررة في المادة 181، تأشير السلطات (عامل العمالة أو الإقليم) على الميزانية (المادة189)، دعوة عامل العمالة أو الإقليم رئيس الجماعة إلى تسجيل كل نفقة إجبارية (المادة 192)، ممارسة سلطة الحلول (المادتان 76 فق2و3، و198). مراقبة بعدية في حالة وصول عدم تنفيذ قرار أو حكم قضائي نهائي ضد جماعة ترابية إلى مرحلة المنازعة القضائية، فالمتضرر ملزم: أولا، بالتظلم لدى الوالي وفق مسطرة محددة في المادة 241 من القانون المنظم للجهات، أو لدى عامل العمالة أو الإقليم سواء بالنسبة إلى مجالس العمالات أو الأقاليم (المادة 221 من القانون المنظم لهذه الجماعات) أو لمجالس الجماعات الترابية (المادة 267 من القانون المنظم لهذه الجماعات). وثانيا، يجب على المتضرر في منازعاته للجماعات الترابية، إدخال الوكيل القضائي للجماعة المعنية بالنزاع في جميع الدعاوي التي تستهدف مطالبة الجماعة بأداء دين أو تعويض. فعدم احترام المتضرر لواحد من الشروط المسطرية لرفع دعوى تعويض على جماعة ترابية، سواء كان التظلم لدى سلطة الوصاية أو إدخال الوكيل القضائي للجماعة المعنية، فمآل دعواه عدم القبول. يتضح مما سلف، أن الدولة -بدلالتها الدستورية/السياسية- تتوفر على ترسانة قانونية/مسطرية لمعالجة إشكالية تراكم نفقات عدم تنفيذ القرارات والأحكام النهائية القابلة للتنفيذ، وبالمناسبة نثير انتباه القارئ، خلافا لما يروج له، إلى أن المبالغ التي حكمت بها المحاكم من الابتدائي إلى النقض، تقل بكثير عما تقره الخبرة التي تطلبها المحاكم في هذا الموضوع، وخصوصا الأسعار المرجعية للعقارات التي تحددها المديرية العامة للضرائب. فالمشكل عندنا يكمن، كما أسلفت في غياب صريح وواضح للإرادة، إرادة احترام القانون والشرعية والأمن القانوني والقضائي للبلاد، وضرورة أن تمارس كل جهة صلاحياتها كاملة مع محاسبة صارمة ودقيقة لأي إخلال في هذا الباب. أما بخصوص الصعوبات الاقتصادية والمالية الناتجة عن تراكم عدم تنفيذ الأحكام، فلا مخرج لها إلا بجدولة واضحة تكسب ثقة أصحاب الحقوق، ولما لا تسويات ودية ورضائية مضمونها رابح-رابح بالنسبة إلى الدولة ولحائزي الأحكام، ويمكن الاستعانة بالمؤسسات التي أهلها الدستور لذلك. شريطة أن تتوفر إرادة حقيقية لوضع حد لهذه المعضلة واجتثاث أسبابها من الأصل. أخيرا، مخاطر إقرار المادة 9 أو ما يماثلها على سمعة البلد ومؤسساته دوليا أكثر بكثير من المخاطر المحاسباتية الضيقة. *أستاذ جامعي وناشط حقوقي