بمجرد أن يَرِدَ اسمُ اللساني الأمريكي المشهور نوعام شومسكي، تتبادر إلى الذهن أفكار إيجابية كثيرة، منها أن الأمر يتعلق بلساني و"مثقف عظيم" ينتقد الاستبداد الإمپريالي، ويتعاطف مع قضايا الشعوب المظلومة، ويكشف عن معيقات الديمقراطية في العالم كله. من ذلك أنك كثيرا ما تجد المناضلين السياسيين يستشهدون بأقواله عن "الطرق العشر" التي يستعملها المستبدون لترسيخ استبدادهم، ويحيلون على مقاطع من كتابه عن "إعاقة الديمقراطية" التي ينتقد فيها النفاق في السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية.. المشكلة في هذه الاستشهادات المتواترة والمنزوعة من سياقاتها أن أصحابها لا يحللونها تحليلا نقديا دقيقا، ولا يحققون في المصادر التي يعتمدها شومسكي لإثبات دعاواه، ولا يحفرون حفرا عميقا في نصوصه لفهم مقاصده الحقيقية، وميولاته الإيديولوجية المتطرفة. شومسكي والكذب شومسكي رجل ذكي، ولكنه أيضا إنسان كثير الكذب. شهد لإدمان شومسكي على الكذب لساني شهير اسمه پول پوستل، بجامعة نيويورك كان يُكِنُّ لشومسكي في فترة من فترات حياته كل الاحترام والتقدير، إذ قال: "بعد سنوات كثيرة، توصلت إلى نتيجة مفادها أن كل ما كان يقوله تقريبا كان كاذبا.. لقد كان يكذب فقط لأنه يستمتع بكذبه.. كل حجة من حججه كان يختلقها ويعتورها الكذب [falseness] والادعاء [pretense]... لقد كان الأمر كلعب الشطرنج بقطع زائدة. كان كل شيء مزيّفاً". (Laraissa McFarguhar, The New Yorker, March 31, 2003). وهذا نفس ما انتبه إليه الفيلسوف الأمريكي سيدني هوك عندما قال: "شومسكي يقطع المشهد السياسي طولا وعرضا فقط ليصرف انتباه قارئه عن الحقيقة الواضحة" (The Humanist, March-April 1971).. وقال عنه المحلل السياسي الپولندي ليوپولد لابيدز: "تطرفه الأيديولوجي دائما يُحرف حججه ويعوّج مصادره واقتباساته ووقائعهhis facts ، ليأتي بعد ذلك ويعلن أنه "ملتزم بالحقيقة"" (Encounter, July 1982). لقد اجتمع في شومسكي ذكاء ثاقب وميل غريب للكذب، فنتج عن اجتماع الذكاء والميل إلى الكذب واحد من أخطر المخادعين في القرن العشرين ...لنشرح!. لقد نجحت الآلة الإعلامية في أن تخلق من شومسكي بطلا من أبطال الحقيقة، وفي قمع كل محاولة لانتقاده، رغم أن كتابات أكاديمية مدقّقة كثيرة كتبت لفضح كذبه وتناقضاته الغريبة. من ذلك كتاب "200 كذبة من كذبات شومسكي"، لصاحبه پول بوڭدانور، و"نووام شومسكي ونقاده"، لتشارلز كالينا، وغير ذلك كثير. شومسكي لا يكذب فقط في استعماله للوقائع والحجج، بل إنه يكذب أيضا في التصريح بانتمائه الإيديولوجي. ففي أحد الحوارات التي أجريت معه (Language and Politics 2004:259) يصرح شومسكي بشكل قطعي: "لم يسبق لي أن اعتبرت نفسي ماركسيا، فالحقيقة أني أعتبر أن مفاهيم مثل "ماركسي" (و"فرويدي"، إلخ) هي مفاهيم تنتمي إلى مجال الدين النظامي لا إلى التحليل العقلاني". لكن في حوار آخر سابق صرح شومسكي بكلام آخر مختلف تماما وقال: "في نظري، المنظور الماركسي الفوضوي هو منظور مبرَّر بغض النظر عما يحدث في اللسانيات"، وأضاف: "لن أغادر الماركسية". (Language and Politics 2004:113-153). شومسكي والشيوعية المتطرفة لقد اجتهد شومسكي دائما في محاولة إخفاء ميولياته الشيوعية وتعاطفه مع النازيين (من النازيين الذين امتدحوا كتاباته پيير ڭيلوم Droit et Histoire (Paris: La Vieille Taupe, 1986), pp. 152-72)، خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوڤييتي وما سببه ذلك من حرج شديد للمثقفين الشيوعيين.. اجتهاده لإخفاء شيوعيته وتعاطفه مع النازيين كان دائما سببا من أسباب ميله إلى الكذب؛ ففي أحد الحوارات التي أُجريت معه سنة 1994 (New Statesman June 3: 1994)، أي أربع سنوات بعد سقوط الاتحاد السوڤييتي، نفى شومسكي بشكل قاطع أن يكون قد ساند المحاربيين الڤييتنام [الڤييت كونڭ]: "إذا نظرت إلى كل ما أكتبه عن حرب الڤييتنام، فليست هناك كلمة واحدة تساند الڤييت كونڭ. لقد كان اليسار يُساند هو شي مين: وكنت أنا أقول إن الڤييتنام هي ديكتاتورية ستالينية متوحشة". إلا أن شومسكي توجه للڤيتناميين الشماليين عبر راديو هانوي بكلام مختلف تماما (اعترف بصحة نسبته له) قائلا لهم: "إن بطولتكم تكشف عن قدرات الروح الإنسانية والإرادة الإنسانية؛ فالناس الشرفاء في العالم كله يرون في صراعكم نموذجا يحتذون به"؛ كما امتدح الڤييتنام الشمالية معتبرا إياها: "خلقت مجتمعا معاصرا، يتمتع بالمساواة، وديمقراطيا وصناعيا" (Radio Hanoi April 14: 1970). شيوعية شومسكي التي ينكرها هي ما يفسر تغاضيه عن ذكر الفظاعات التي ارتكبها الشيوعيون في مناطق مختلفة من العالم، ومحاولته لإقبار أخبارها إلى غير رجعة؛ ففي رسالة له بعث بها إلى الصحافي الأمريكي ألڭزاندر كوكبورن سنة 1995 (أعيد نشرها في The Golden Age Is In Us (Verso, 1995), pp. 149-51).. كتب شومسكي بنوع من الانفعال عادة ما ينجح في إخفائه في محاضراته: "بالمقارنة مع الشروط التي فرضها استبداد الولايات المتحدة وعنفها، فإن عنف الحكم في أوروپا الشرقية وروسيا هو عمليا جنة". كان بإمكان شومسكي أن ينتقد سياسات الولايات المتحدةالأمريكية دون أن يعتبر حكم الشيوعيين "جنة" بكل بساطة لأنها لم تكن كذلك؛ فقد قتل الشيوعيون 4 ملايين إنسان في أوكرانيا و360000 إنسان في رومانيا و180000 إنسان في يوغسلاڤيا و150000 إنسان في و100000 إنسان، وبين 30000 و40000 إنسان في بلغاريا؛ هذا بالإضافة إلى اغتصاب حوالي مليوني امرأة من طرف الجيش الأحمر (Anthony Beevor, The Fall of Berlin 1945 (Penguin, 2003), p. 410). يحاول شومسكي أن يصور نفسه على أنه شهيد الحقيقة في مجتمع لا يرحم المخالفين والمعارضين؛ ففي حوار له مع مجلة Handelsblad (NRC Handelsblad, Netherland, December 6: 2003) سنة 2003 يذكرنا بأن المجتمع الذي تنتمي إليه يخفي عنك البنيات التي تنتمي إليها، وكل من يحاول الخروج عن الخط الذي رُسم لهُ فإنه يخاطر بنفسه؛ ولكنه أكد قائلا: "هذا لا يعني أنهم سيطلقون عليك الرصاص، كما يحدث في العديد من البلدان القاتلة، لكن هناك بدون شك عقوبات عقوبات تتعلق بعملك، ومكانتك، ودخلك". ما لم يذكره شومسكي هو أنه لم يتعرض لأي من هذه المضايقات في المجتمع الذي ينتمي إليه لأنه أستاذ مرسّم (وهو امتياز لا يحصل عليه الكثيرون في أمريكا) في جامعة إم آي تي التابعة لحكومة الولايات المتحدةالأمريكية، ولأن أجرته التي يحصل عليها من هذه الجامعة هي فقط ثلث ما يحصل عليه شهريا والباقي حسب اعترافه الشخصي "أحصل عليه من مصادر أخرى، جله من وزارة الدفاع"! (Konrad Koerner, “The Anatomy of a Revolution in the Social Sciences: Chomsky in 1962,” Dhumbadji! Winter 1994). يحاول شومسكي أيضا أن يصور نفسه على أنه مناصر للمستضعفين في قضاياهم؛ لكن هذه الأسطورة سرعان ما تتلاشى عندما نتذكر أنه دافع بعناد عن التطهير العرقي الذي مورس على البوسنيين؛ فدفاعه عن الاستبداد الشيوعي أفقده كل قدرة على اتخاذ مواقف أخلاقية صحيحة عندما تكون الحاجة ملحة إلى ذلك؛ فقد دافع عن الجرائم الصربية ضد البوسنيين بعناد غريب، رافضا أن يعترف بحملات التطهير العرقي التي شُنت ضدهم. واعتبر مخيم العزل العنصري ترنوپولجي مجرد "مخيم للاجئين كان بإمكان اللاجئين أن يغادروه رغم كونه مكانا بشعا" (Radio Television of Serbia, April 25, 2006: https://www.youtube.com/watch?v=AapFe-C6tB4).. رغم أن محكمة الجرائم الدولية اعتبرته مخيما للعزل الإثني العنصري مورس فيه التطهير العرقي والتجويع والاغتصاب والتعذيب التعسفي (David Campbell, “Atrocity, Memory, Photography: Imaging the Concentration Camps of Bosnia,” Journal of Human Rights, March and June 2002). انتقائية شومسكي من مظاهر الكذب المحبوك عند شومسكي أنه يختار من يريد أن يسلط عليه النقد بعناية كبيرة؛ فهو مثلا ينتقد شاه إيران الذي انتقدت منظمة العفو الدولية خروقاته في مجال حقوق الإنسان (Pirates and Emperors, Old and New (rev. ed., Pluto Press, 2002), p. 112.)، ولكنه لا يذكر أن عدد حالات الإعدامات السياسية التي سجلتها المنظمة ضد الشاه هو 300، بينما عدد الإعدامات السياسية التي ارتكبها اليساريون الذين يدافع عنهم شومسكي يفوق هذا العدد بشكل كبير؛ ففي الفترة نفسها التي ارتكب فيها الشاه هذه الجرائم، ذبح ماكياس نڭويما 5000 شخص في ڭينيا الاستوائية، وذبح عدي أمين 300000 في أوغندا، وقتل پول پوت مليوني شخص في كامبوديا(Washington Post, March 23, 1980). سيستغرب القارئ عندما يعرف أن شومسكي يكذب حتى في استعماله للأرقام؛ مثلا يذكر في كتابه "إعاقة الديمقراطية" أن 100000 شخص قتلوا في كوريا الجنوبية على يد القوات الخاضعة للولايات المتحدةالأمريكية (Deterring Democracy1992: 335 ). لكن المؤرخين الذين يستند إليهم شومسكي لا يقولون هذا الكلام. فالمؤرخ الكوري جون ميرل يقول إن هؤلاء المائة ألف من الناس قتلوا قبل الحرب في معارك داخلية واضطرابات سياسية مختلفة John Merrill, Korea: The Peninsular Origins of the War (University of Delaware Press, 1989), p. 181. من مظاهر كذب شومسكي أيضا كذبه في ضبط الاقتباسات؛ من ذلك أنه يقتبس سنة 1977 كلام پوتشود حول الخمير الحمر بقوله: "بوتشود يذكر تقريرا كامبودجيا يذكر أن 200000 من الأشخاص قتلوا بسبب الغارات الأمريكية من 7 مارس إلى 16 غشت" (“Distortions at Fourth Hand,” The Nation, June 25, 1977). لكن شومسكي لم يذكر أن ما قاله پوتشود هو أن "پروپاڭاندا الخمير الحمر تقول إن ...". فالنص لا يتحدث عن وقائع حدثت في الزمان والمكان، بل يتحدث بوضوح عما يعتبره الكاتب پروپاڭاندا منظمة إرهابية؛ فلا يتعلق الأمر بتقرير بل بأخبار تداولها "ثوريو" الخمير الحمر (Francois Ponchaud, Cambodia Year Zero (Holt, Rinehart and Winston, 1978)., pp. 170, 71 ملاحظة ختامية في 22 نونبر من سنة 2017 كتب صحافي غيني اسمه فيليپ كوبينا مقالا عنوانه "علبة الدود التي فتحت: شومسكي الكذاب"، بين فيه أن أول لحظة من لحظات شكِّه في القيمة العلمية لكتابات شومسكي التي كان يثق فيها ثقة عمياء وشككته في مضامينها هي عندما اكتشف بعد بحث وتحرٍّ أن شومسكي نسب لهاري ترومان كلاما لم يقله إطلاقا. فبعد أن حصل خطاب ترومان كاملا (وهو خطاب يتكون من 3500 كلمة) ودرسه بعناية، اكتشف أن الكلام الذي نسبه شومسكي لترومان غير موجود رغم أن شومسكي يذكر المرجع بعناية توهمك أن معلوماته لا غبار عليها!. قرر كوبينا أن يعيد قراءة شومسكي على ضوء اكتشافه الجديد: وكان اكتشافه الجديد هو أن شومسكي مدمن على الكذب. ما لا يعرفه كوبينا أن عدم صحة ما نسبه شومسكي لترومان أمر قد فضحه صحافي آخر اسمه آرثور شليسنڭر سنة 1963 في مقال نشرته مجلة Chicago Tribune تحت عنوان Three Cheers for Professor Chomsky .. المشكلة هي أن السذاجة الإيديولوجية استبدت بكوبينا كما استبدت بغيره.