بعد كل هذه السنين من الجدل والنقاش، وبعد كل هذه الأنشطة التي أقيمت والميزانيات التي صرفت، أو بذرت، يبدو أن علينا أن نتوقف قليلا أو كثيرا لننظر في الطريقة التي نفكر بها في إصلاح قطاع التربية والتعليم، علينا أن نسائل هذا العقل الذي نناقش به قضايانا التربوية في بلادنا، بما يفضي إلى إعادة النظر في بعض، أو في الكثير من العناصر، التي يبدو أنها تشكل إعاقة حقيقية لمسار الإصلاح هذا، أو ما سمي كذلك. وأشير هنا إلى عنصرين اثنين، تمثيلا لا حصرا، تحولا عندنا إلى عائقين حقيقيين، وإلى تيه معرفي ومنهجي، فيما أتصور؛ الأول يتعلق بما تمت مراكمته من ترسانة نظرية تهم مجال التربية والتعليم، والثاني يعني هذا النقاش المحتدم حول الإشكال الهوياتي في ارتباطه بمنظومة التربية والتعليم عندنا: أولا _ الترسانة النظرية: لقد راكمنا لسنوات طوال الكثير من القول النظري والرؤيوي حول مشكل التعليم في بلادنا، وأصبحنا أمام ترسانة نظرية، لا ندري ما نفعل بها، ولا كيف نتدبرها، ما يعني أن الأمر تحول مع الوقت إلى عائق حقيقي؛ والدليل أننا لم نستطع ترجمتها، أو ترجمة بعض مما اخترناه، وتواضعنا حوله، أو حول بعضه، إلى تطبيقات واضحة وناجعة وفعالة، تمكننا من الارتياح إلى المسار، والشروع الفعلي في الخروج من الشرنقة؛ ففي كل محاولة للإصلاح لا نفعل شيئا جديدا في العمق، عدا إضافة كلام نظري آخر، حتى أصبحنا أمام ركامات، بل فيوضات من المشاريع، أو ما يسمى مشاريع نظرية، عجزنا عن تحويلها إلى تطبيقات ملموسة ومضبوطة ومدققة، وبضمانات معقولة، على المدى القريب، أو المتوسط على الأقل؛ ما يعني أننا أصبحنا إزاء كلام في الإصلاح، يعقبه كلام آخر مثله، أو ضده، قريب منه، أو بعيد عنه، ليس إلا. لقد تحول الكلام في التعليم عندنا، في جزء كبير منه، إلى ما يشبه العبث، ومراكمة اللغو والخطابة النظرية، التي لا تثمر عدا المزيد من الحشو التربوي و(البيداغوجي)، والمؤكد أن علينا أن نتوقف لنطرح السؤال، إلى أين نتجه بالضبط؟ وماذا يعني الحديث حول التعليم بالنسبة إلينا، الآن؟ وماذا يعني المزيد من مناقشة قضاياه، بهذا المعنى والمنطق، عندنا؟ فالكلام على الكلام، وبلا أفق واضح ودقيق، يعني أمرين اثنين، لا ثالث لهما، إما عدم الجدوى، أوعدم الرغبة الجادة في الإصلاح، أو هما معا. ثانيا _ متلازمة الفكر والسياسة أو الإشكال الهوياتي: المؤكد أن قطاع التعليم قطاع اجتماعي علائقي، تندغم فيه بالضرورة وتتداخل الرؤية الفكرية والاختيار النظري بالموقف السياسي، بالمعنى الوطني والعميق للسياسة، ما يعني أن البعد السياسي بمعناه العلمي والاستشرافي أمر ضروري، ولا محيد عنه أثناء مناقشة قضية التربية والتعليم؛ فكل القضايا المرتبطة بالهوية واللغة ومعاني الانتماء تدخل في هذا الباب. وعلينا أن نكون صرحاء، ونفرق بين السياسة التي تعني اختيارات الدولة، والنقاش المجتمعي، والمؤسساتي والحزبي، الضروري لبناء الوطن، وبين السياسوية التي تعني البحث عن الفرص والجري وراء الغنيمة، والمآرب الأنانية والرخيصة؛ فلا يمكن أن نلغي السياسة بدعوى السياسوية، فليست المواقف السياسية الرصينة المسنودة بالمشاريع الفكرية الجادة هي ما يفسد تعليمنا، بل ضمور السياسة وضحالتها، وتواضع الفكر والنظر، وضيق الأفق الرؤيوي هو ما يفسد كل شيء في بلادنا، ومنه التربية والتعليم، ويكفي أن خيرة من تناول، ويتناول، وبجد، قضايا التعليم، كما قضايا أخرى، عندنا، هم مفكرونا وسياسيونا المعتبرون. سؤال العقل، الذي نناقش به قضية التعليم، يحتاج منا إلى وقفة، وبحث وإجابة.