في هذا الحوار يناقش حسن أوريد، مؤرخ المملكة السابق وأستاذ العلوم السياسية، الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي للمملكة، حيث يقف على قضايا التربية والتكوين من خلال مناقشة كتابه الجديد “من أجل ثورة ثقافية في المغرب”، بالإضافة إلى تعليقه على الأحداث السياسية الأخيرة التي طبعت هذه المرحلة. بعد إعفاء وزير المالية محمد بوسعيد عين وزير مالي جديد على رأس القطاع، هو بنشعبون، الذي تلون فجأة بالأزرق، ما هو تعليقكم على ذلك؟ بكل صراحة هذه القضايا لم تعد تهمني، كان يمكن أن تهمني لو كانت هناك قواعد ناظمة متفق بشأنها. الآن أصبحنا ننهج منطق “الذيب حلال، الذيب حرام”، لا نعرف متى هو حلال ومتى هو حرام، لذلك أنا اخترت الترك احسن.. وصفتم في وقت سابق الحركة الشعبية ب”النزل الإسباني”، هل تعتقد اليوم أن حزب الأحرار، وربما، جميع الأحزاب تحولت لهذا “النزل الإسباني”؟ كما قلت، هذه القضايا كانت تستأثر باهتمامي، ولكنها لم تعد، كذلك، لعدة أسباب، أولها أنه لم يعد لدينا وحدة مقياس، وثانيا، ربما، لأنه شجرة قد تحجب الغابة. مثلما قلت في لقاء مع جمعية في سيدي بنور من خلال توظيف صورة مجازية كان قدمها الاقتصادي “استيغليز”، الحائز على جائزة نوبل، والتي جسدها على الشكل التالي: حينما تقع حادثة سير لشخص بسيارة ما في مكان معين، الاحتمال الأول أنه لا يحسن السياقة وهو مسؤول عن الحادثة. وإذا وقعت الحادثة مرة ثانية بالسيارة ذاتها في المكان ذاته، قد يكون المشكل عطبا في السيارة، ولكن إذا تكرر المشكل مرة ثالثة في المكان نفسه، فقد يكون سبب الحادثة هو وضعية الطريق، أي إن المسألة بنيوية.. لذلك لم يعد يهمني، لا السيارة ولا طريقة سياقة السيارة، لكن الذي يهمني هو الطريق.. وما الذي تقصده بالطريق؟ (يضحك) هذا الموضوع ليس وقته الآن.. ما رأيكم في “ملحمة العدميين” التي أثارت ضجة قبل فترة؟ حينما شاهدت “القصارة” تذكرت رواية معروفة لأحد أشهر الروائيين الروسيين “تورغينف”، “آباء وأبناء”، والتي تتمحور حول شخصية البطل العدمي، بازوف. العدمية هي جزء من الفكر النقدي، وهي تبرز بالأساس حينما يكون هناك احتقان. قد لا تكون حاملة لتصور، ولكنها أداة لتجاوز الاحتقان. أفكر هنا بالأساس في سابقة روسيا في القرن 19، حينما توزع المجتمع الروسي ما بين “الأنتلجنسيا”، (أي المثقفون الذين يريدون التحديث في ركاب أوروبا)، والسلافيين، الذين يريدون التشبث بالتقاليد، والعدميين الذين قلبوا الطاولة على الاثنين، مؤاخذين إياهم على ممالأتهم للوضع، أمام إحكام قبضة القيصر وانسداد الآفاق. قد تفيدنا سابقة روسيا في فهم الظاهرة، مع العلم أنه في العلوم الإنسانية لكل حالة خصوصيتها. نعم، ولكن كيف رأيتم النقاش الذي كان دائرا بين المشاركين في هذه “الملحمة”، وطريقة عقدها وانتقادها للخطاب الملكي؟ الذي يهمني هو الأسباب الكامنة وراء بروز هذه الظاهرة.. ألا ترى أنه توجد جرأة في طرح النقاش حول شخص الملك وخطاب الملك؟ المجتمعات تتطور بالجرأة، خصوصا وأن كثيرا من القضايا المسلمة الآن، كانت نتاج ما أبداه البعض من جرأة. لذلك هناك أسباب موضوعية وراء بروز هذا الخطاب; تقصد أن جو الإحباط، الذي يسود الآن في المجتمع المغربي بعد انتخابات 2016، هو الذي فسح المجال أمام هذه النماذج لكي تتحدث وتناقش بهذه الطريقة؟ هذا جزء من التفسير. لكن المهم ليس أن يبرز هذا الخطاب، بل حجم من تتبعوه، لو أن هذا الخطاب لم يسترع اهتمام فئة عريضة، ربما، ما كان ليثير كل هذه الضجة. وبالنظر إلى شبكات مواقع التواصل الاجتماعية نرى تفاعلا كبيرا، وهذا في اعتقادي يشكل ظاهرة خليقة بالدرس، وفي جمع الحالات أصبحت السياسة تمارس خارج القوالب الرسمية، وهذا مؤشر جديد وقد ينطوى على مخاطر. في الإطار نفسه، هل تعتقد أنه بعد ملف الريف ثم جرادة، والمقاربة الأمنية التي تم التعامل بها، الحراك المقبل سيكون أسوأ؟ لست عرّافا، لكن في اعتقادي يجب على المثقف أن يزاوج بين أمرين، التشاؤم في التحليل والتفاؤل في الفعل، لكن كما يقول المثل العربي “من لا يبصر من الغربال يكون أعمى”. هل يعني ذلك أن لديكم نظرة استباقية حول الموضوع؟ النظرة الاستباقية تقوم على العلم وأدوات العلم، ولا يمكن أن نكتفي بخواطر أو حس سادس، أو حدس. لكن يمكن القول إنه يوجد مغرب ما قبل الحراك بالريف، وما بعد الحراك. هل يمكن أن نتحدث اليوم، عن الإنصاف والمصالحة؟ كيف يمكن أن نتحدث اليوم عن الأمازيغية. الأمازيغية لا تختزل في اللغة؟ وأيضا، كيف نستطيع القول بالجهوية المتقدمة. طبعا، المقاربة الأمنية لا يمكن أن تكون حلا، صحيح أنه يمكن أن تكسب لفترة زمنية، وتسهم في بعض التهدئة، ولكنها كما في الحديث النبوي هدنة على دخَن. بعد الخطب الملكية التي جاءت بخطاب نقدي ينتقد المشاريع المتعثرة ووضع إجراءات لتنفيذها، هل يمكن أن نكون متفائلين بالدخول السياسي الحالي؟ لا أستطيع التحدث عن الطبقة السياسية، ثم إن لا شيء يمنع أي مغربي، من أي موقع أن تكون له رؤية وطموح بالنسبة إلى بلده، كما أن من حقه أن يخشى على بلده. هناك أزمة اجتماعية في المغرب بدليل ألا أحد يتستر عليها، وهي في نظري نتاج خيارات معينة، نيو ليبرالية. ينبغي أن تكون لدينا الجرأة للقول إن النيو ليبرالية انتهت، ولا يمكن أن نقول بالدولة المسهلة، كما ينبغي، أيضا، أن نفكر في قضية الإدماج بغض النظر عن بعض الإجراءات الاجتماعية أو الإنسانية. ينبغي أن يكون التفكير في المشروع التنموي بناء على مشاركة المعنيين بالأمر. ليس هناك، حسب علمي، ورش لفتح نقاش في المشروع التنموي، يشارك فيه المنتخبون والمجتمع المدني والمثقفون. ما حدث هو إجراءات إدارية جاءت من فوق من أجل أن تطبق، وهذا ليس ضمانا للنجاح، هذا إلى جانب المشكل السياسي، أي التصدع داخل الحكومة الذي يعالج بجبر الخواطر. أنتم كشخص أستاذ أوريد، هل استطعتم التحرر من عقدة المخزن أم إن من يدخل ل”دار المخزن مايقدرش يخرج منها”؟ الإنسان يحمل كما الشجرة، تاريخ مساره المتوارث. من دون شك أن هذا المسار هو الذي أهلني لأفهم قضايا معينة ومعقدة، وهو المسار الذي يفرض عليّ حدودا معينة. هذا المسار جزء مني بكل تأكيد، ومن دون شك كذلك أن الخيار الذي اخترته يحمل تأثير مسار آخر، ربما، ناتج عن تأثير طفولتي والمنطقة التي رأيت فيها النور، والثقافة التي أشربتها، وهي التي أثّرت في ميلي للحرية. لنمر إلى الجزء الثاني من الحوار، تحدثتم في كتابكم “من أجل ثورة ثقافية في المغرب” عن تشرذم النخبة المثقفة وضعف تأطير الأحزاب وتشظي النخبة السياسية في المغرب.. هل ترى اليوم، أن المشكل الذي جعل هذه النخبة تتشرذم هي الأحزاب أم الدولة أم الوضع الثقافي بصفة عامة؟ هذا التشرذم هو نتيجة وليس سببا، ومرده أننا نفتقد لطموح جماعي، باستثناء استقطاب بعض العناصر، كما أننا نُغلب التدبير التقني، الأمر الذي انعكس على الجسم الثقافي والسياسي. وعوض أن ينخرط المفكر والسياسي في طموح جماعي، اضطُرا في نهاية المطاف إلى تدبير مسارات شخصية. وأعتقد أنه إذا كان هناك من فكرة أساسية في الكتاب، فهي أنه لا يمكن أن نبني المجتمعات والدول، ونرتقي بكل مرافقها، ومنها التعليم من دون طموح جماعي. وهو الغائب. بالنسبة إلى المؤسسات الثقافية كيف تراها رغم كونها غائبة في كتابكم؟ لم يكن بنيتي أن أقوم بدكتوراه أو رسالة، لكن أنا أفكر في قضية محورية وهي التربية، من منظوري، مع العلم أني تحدثت عن مسؤولية الدولة في ما يخص قطاع التعليم، والقطاع الخاص والمجتمع المدني. قضية التربية قضية خطيرة جدا لكي توكل للمسؤولين عن قطاع التربية وحدهم، كما في المقولة الشهيرة لكلمنسو، فالحرب قضية مهمة جدا كيلا توكل للعسكريين وحدهم. طبعا، الثقافة المرتبطة بالدولة هي ثقافة محافظة تزكي وضعا معينا، وهي من أدواتها الإيديولوجية، في حين أن الثقافة التي من شأنها أن تستحث المجتمعات وتمضي بها قُدُما هي المقاربة النقدية، وهي بالأساس في تنافر مع الدولة. الدولة تدبر الحاضر والحفاظ على ما هو قائم، بينما المثقف قلق ويشرئب إلى المستقبل، ويرى أحيانا ما لا يُرى، وأداته طبعا السؤال والنقد، ومن الطبيعي أن يصطدم مع بنية محافظة تدبر التوازنات، لذلك فأنا في كتابي أفكر في قضية التربية خارج مرجعية أدبيات الدولة من رؤية استراتيجية وميثاق التربية وبرنامج استعجالي وما شابه ذلك. رجوعا إلى سؤالك حول التميز، لننظرْ إلى النخبة المدبرة في ميدان المال والاقتصاد، جلها وإن لم تكن كلها خريجة مدارس أجنبية. عمليا نحن غير قادرين على إنتاج نخبنا. فما الذي نريده في نهاية المطاف من المدرسة المغربية؟ هل أن نُكوّن عناصر من أجل مهام تنفيذية فقط، في حين يوكل القرار إلى من تلقى تعليمه في باريس أو لندن أو بوسطن ؟ إذا لم نكن بعد 70 سنة من الاستقلال قادرين على تكوين نخبتنا التدبيرية فهذا مشكل. لا أفهم كثيرا ما معنى مدرسة النجاح إن لم ترتبط بهدف مجتمعي، ولم تستطع أن تفرز نخبة مفكرة ومدبرة، ولم تسهم في شد لحمة المجتمع وتقوية أواصر الانتماء. لذلك اعتبرت أنه ينبغي أن نركز في مستوى معين على التميز. مفهوم أن نعمم التعليم. ولكن في مستوى معين لا بد لمؤسساتنا، وبالأخص بدءا من الثانوية أن نتوخى منها التميز. فرنسا مثلا لديها ثانويات معينة تُنتقى فيها أحسن العناصر. طبعا، المعيار ينبغي أن يكون موضوعيا، لا مجال فيه للمحاباة والطبقية. لا عيب أن تكون هناك مؤسسات تميزية، ولكن أن يكون معيار الالتحاق بها معيار الكفاءة والجدية.. في هذا السياق، اطلعتم على قانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين، هل ترى أن هذا المشروع يمكن أن يحقق التصور الذي جئت به حول مدرسة التميز؟ لكي أكون موضوعيا، أُتيح لي أن ألتقي بكثير ممن يشتغلون في قطاع التربية، واستفدت منهم وهم على معرفة عميقة بمشاكل التربية وإكراهاتها والعوائق القائمة، لكن هناك أشياء تتجاوز التقني أو المقاربة التقنية، وهي ذات طبيعة وجودية أو فلسفية. (مقاطعة) هذه الأسئلة مَن المفروض أن يجيب عنها؟ المفكرون هم المخولون أن يجيبوا عنها أو على الأصح أن يطرحوها. وفي هذا الصدد من الضروري أن نطرح السؤال التالي: من نحن؟ وما الذي نريده؟ هل نريد أن نكون على شاكلة دول نشاركها العقيدة وقد تبعد عنا بآلاف الكيلومترات، أم أن نكون على شاكلة دول قريبة منا جغرافيا قد نكون نختلف معها عقديا، لكن نقترب منها من الناحية الجغرافية ونتداخل معها تاريخيا وثقافيا؟ مَن الأقرب بالنسبة إلينا، سلطة عمان أم إسبانيا؟ الجواب طبعا يحدد طبيعة المنظومة التربوية التي نريدها. اختُزلتْ قضية التربية في قضايا تقنية (العرض المدرسي، الهدر..) ولم نفكر في طبيعة ما نُدرّس وكيفية تدريسه. ليست لنا أدوات لتقييم النتاج التربوي، أي علماء اجتماع التربية. ثم كيف نتشبث بمصطلح “مفتش” مع التطورات التي حدثت في ميدان التربية. هذه الكلمة تستثيرني. لمَ لا نغيرها بمرشد تربوي مثلا. نحن لسنا في معمل كي يكون مفتش تربوي على غرار مفتش شغل. ومن الجوانب المعيبة التي سقطنا فيها أيضا، خطابات هوياتية فيما يخص برامجنا وخطبنا، والحال أنه يجب أن نعانق العالمية ونكون جزءا من التجربة الكونية، بتعبير آخر، حينما يتخرج طبيب مغربي أو باحث في السوسيولوجيا ينبغي أن تكون لهما المواصفات نفسها لأي سوسيولوجي أو طبيب آخر في العالم. ليس معنى ذلك أن نتنكر لعمقنا التاريخي، وشخصيتنا الأثيلة. قبل قليل تكلمتم عن تشرذم النخبة المثقفة واعتبرتم أنها لم تعد فاعلة في المجتمع الآن، من سيقوم بهذا الدور الذي تحدثت عنه؟ لم تعد فاعلة لأنه كان هناك منحى عالمي قائم. بعد سقوط حائط برلين، أصبح التقني والتقنوقراطي بديلا عن المثقف والمفكر، حتى لدى الغربيين أنفسهم. أصبحوا يستحبون خبراء مختصين في قضايا معينة على من يطرح قضايا شمولية. لا يمكن أن نجعل الأشخاص غرضا لانتقادنا ونقول لا يوجد مثقفون، هكذا جزافا. هناك منظومة تتجاوز الأشخاص. فليس لدينا ما يسمى “الكتلة الحرجة”. عدد القراء محدود جدا، والكتاب يكاد يكون تأثيره منعدما، وهذا يحد من دور المثقف. والأمر ليس قصرا على المغرب. وآسف أن أقول إن الإصلاح الذي كان قبل زهاء 20 سنة عمّق من الأزمة، واكتفى بإجراءات تجميلية. يمكن أن تسألين أي أستاذ جامعي هل الإصلاح الجامعي الذي تم تبنيه قبل عشرين سنة، انعكس إيجابا على مردودية الأستاذ وتحصيل الطالب، وحكامة الإدارة ؟ وأعتقد بأن ما أثير حول قضية “الماستر” بفاس هو الجانب الظاهر من جبل الثلج لأن الأمور أعمق، ولذلك عوض أن نقتفي آثار دول أخرى في التقنيات وبعض التدابير التجميلية، ينبغي أولا، أن نفكر مليا انطلاقا من واقعنا ومن هدف نرسمه وسبل نترسمها. نعم، لدينا أشخاص قادرون على إنتاج أفكار ناجعة.. ما رأيكم في أعضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين الذين وضعوا الاستراتيجية الوطنية للتربية والتكوين؟ أعرف بعضا منهم. (مقاطعة) هم تقنيون أم مفكرون؟ هم تقنيون وأعرف بعضا منهم ولديهم معرفة عميقة وكفاءة عالية ، لكن هل يستطيعون أن يشتغلوا في إطار جماعي، وهل هم راضون عن طريقة العمل؟ هناك أشياء تتجاوز التوافق. إذا أخدنا بعضا منهم بصفتهم الفردية فهم متميزون، لكن هل يستطيعون أن يُكوّنوا جميعهم سمفونية ؟ أتمنى ذلك.. وقعنا عمليا في ظاهرة اجتماعية تحدث عنها عالم اجتماع كبير بيير بورديو وسمها ب “طقوس الإصلاح”، خصوصا وأننا نكرر كل سنة مشاريع الإصلاح، وهذا يفرغه من جوهره. بالنسبة إلى هؤلاء الأعضاء هل ترى أن خلفياتهم الإيديولوجية هي التي تشكل عائقا أمام الاشتغال كفريق؟ من الصعب عمليا وأنا لم أشارك في أشغال المجلس أن أصدر حُكما موضوعيا، لكن يمكن عموما أن أقول إن هناك أشياء لا يمكن أن تدبر بالتوافق، ومنها القضايا الاستراتيجية. نعم، يسبقها تفكير، ولكن لا يمكن الارتكان فيها إلى حلول وسطى وتسويات. لا يمكن أن أتبنى منظومة دينية ومدنية، في الوقت ذاته. نحن لسنا بصدد بيع الطماطم لكي يمكن أن نلتقي حول سعر وسط، لا ضرر فيه ولا ضِرار. هذا المنطق لا يوجد في القضايا الاستراتيجية. فإما أننا نختار تعليما دينيا أو تعليما يركز على الهوية أو تعليما مدنيا. في رأيكم، أي تعليم يجب أن يتبناه المغرب لينقذ منظومته التعليمية؟ قلت بوضوح في كتابي إن خياري هو التربية المدنية، وليس معنى ذلك أنها تعادي الدين، بل تجعله شأنا مرتبطا بالأسر. ومن واجب الدولة أن توفر الإطار المادي والبشري، مثلما يقع في فرنسا من أجل تلقين تكوين ديني لمن يريد. والحال أنه أحيانا تقع أشياء مزعجة، حيث يكون التعليم الذي يركز على الهوية مخالفا لقناعات بعض الأسر.. نحن نعرف بالأساس أن معيار الحرية هو مدى احترامها للأقليات أيا كان حجمها وعددها. لذلك أنا مع تربية مدنية. قد لا يروق ذلك البعض. لذلك لا يمكن أن نعانق العالمية بدون تربية مدنية. في هذا الصدد، لماذا في نظركم الدولة تتشبث بالتعليم الديني؟ لست أنا من ينبغي أن يُستفسر في الأمر. رغم أني أصدر من تعليم مدني، اعتبرت أنه من حق الأسر أن تختار تعليما دينيا بشكل اختياري، يقع تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية، أو الرابطة اليهودية، أو جمعيات خيرية، لكن الدولة هي من ترعى تعليما مدنيا. تحدث في الكتاب عن اللغة الأمازيغية والإنجازات التي حققتها كلغة ثانية للبلاد، واليوم، هناك نقاش مفتعل بين اللغة الأمازيغية والعربية، في نظركم من المستفيد منه اليوم؟ طبعا، حين ينتفي طموح جماعي يتم الاختلاف حول قضايا ثانوية أو يتم تضخيمها، أو الاختباء وراءها من أجل عدم طرح القضايا الجوهرية، وتبرز من ثمة الاهتمامات الهوياتية وما يصاحبها من هوس، والحال أنه في مسار المغرب الحديث والقديم التفّ المغاربة حول قيم مشتركة وأهداف سامية، وتجاوزوا الاختلافات الجغرافية والعرقية واللسانية. طبعا هناك واقع، ذلك أن الأمازيغية هُمشت وتعرض كل شخص حامل لمطلب الاعتراف بها إلى مضايقات. ومن دون شك هناك إنجازات، وهناك طابو سقط. لكن تدبير هذه المرحلة ليس بالأمر الهين، ومع هذا التشنج الذي قد يبدو هنا وهناك، إما من الذين يصدرون من صورة منمطة وفكرة مسبقة عن الأمازيغية، أو من لدن بعض الفاعلين الأمازيغيين الذين يريدون حلولا هنا والآن. ينبغي أن نعي أن الارتقاء بالأمازيغية ليس مسألة قرار، بل هو مسار لأنها انتقلت من الشفوي إلى الكتابة في غضون سنوات معدودة ولا يمكن أن تتدارك العجز الذي يعود لقرون، في سنوات معدودة. ينبغي أن نقر بذلك. الإرادة السياسية حينما تكون صادقة، وتدرك أبعاد مشكل، يمكن أن تُسرع عملية التعلم والتقعيد والاستعمال في الإعلام. وحتى في هذا الحالة لا يمكن أن تقفز على السيرورة التاريخية ومسار المجتمعات. ومن وجهتي أرى أنه لكي نرتقي بالأمازيغية أن تُكتب بالحرف اللاتيني. وهذا موقف شخصي ولا أريد أن أزعج المؤسسات الرسمية. لكن ألفت إلى أن اختيار الحرف اللاتيني لا يتضارب مع الإسلام. الأتراك مسلمون، ويكتبون بحرف لاتيني، والشيء ذاته عن الأندونسيين والمالزيين الذين يكتبون لغاتهم بالحرف اللاتيني. وما يسمى بالحرف العربي هو أرامي بالأساس، أدخلت عليه تعديلات. وللأسف هذه قضايا تطرح إلى الآن بمنظور إيديولوجي. وأعتقد بأنه إذا لم نحدد طموحا جماعيا فسنبقى في إطار المناوشات التي نعيشها والتي يمكن أن تتفاقم و تنفلت، لأنه لا يمكن أن نذهل عن مخاطر الخطابات الهوياتية، فالخطاب الهوياتي ممكن أن يفضي إلى الإحن والبغضاء. في الكتاب تحدثتم عن الذين يدافعون عن الدارجة كلغة تدريس وقلتم عبارة: “لست أرى أن نفرط في اللغة العربية، لكن أعي وضعها الاعتباري، لكن هذا الوضع لا يمكن أن يحجب عللها”. ماذا تقصد بهذه العبارة؟ للعربية رسوخ تاريخي وقاعدة اجتماعية. لا عيب أن نقول إن طريقة تدرسيها سيئة، أو إن الغالبية تلحن بها، ونتساءل عن أسباب ذلك. ومنها عدم ضبطها بالشكل، مما يفترض من الشخص أن يفهم كي يقرأ، والحال أنه في اللغات الحالية نقرأ كي نفهم. لا عيب أن نقول بأنها لم تستطع أن تواكب التطورات فيما يخص الترجمة أو المصطلح. فما الذي تفضلين، من يقف على أدوائها من أجل الارتقاء بها، أو من يتغاضى عن عللها، عن جهل، أو عاطفة. يقول المثل العربي “رُبّ شانئة أحفى من أم”. لغات مثل الصينية واليابانية كانت في مثل وضع العربية وتداركت قصورها. ينبغي أن نطرح السؤال، هل المشكل في اللغة ذاتها أم في طريقة تدريسها؟ تعليم اللغة قديما كان يركز على شيء اندثر الآن وهو المَلكة أو السليقة، أي أن يمتلك الإنسان بنية اللغة عن طريق استبطان قواعدها، وهو الأمر الذي لم يعد ممكنا بالنظر إلى واقع اللغة العربية الآن، ولهذا يجد كثيرون صعوبة في تعلمها. ولا يمكن، كذلك، أن أدرّسها كما تدرس اللغات الحالية. لا بد من طريقة جديدة. إلى ذلك فوضع العالم العربي انعكس على واقع اللغة العربية. هل معنى أن نفرط في اللغة العربية؟ لا، لم أقل قط بذلك. لكن لا يمكن أن ندافع عنها انطلاقا من الشعارات، وأعتقد أن التستر عن أدوائها، هو الذي جعل الكثيرين يتجرؤون عليها، ويقولون عنها إنها لغة ميتة وشبه ميتة وإنها لغة مثل اللاتينية ينبغي أسوة بأوروبا أن نطور لغات تخاطب. اليوم، هل أنتم مع استمرار التدريس باللغة العربية أم التدريس بلغات أجنبية عالمية مثل “الإنجليزية”؟ أنا مع الانفتاح، انطلاقا من واقعنا. الفرنسية أداة لا ينبغي أن نفرط فيها، والإنجليزية أفق لا منتدح عنه. ينبغي أن تعرفي أنه في اليابان في القرن التاسع عشر، كانت كل العلوم الأجنبية تدرس باللغات الأجنبية. اعتبر البعض أن الانفتاح على اللغات الأجنبية يسيء للغة العربية والحال أن التعريب بالطريقة التي انتهج بها، أدى إلى معرفة مهلهلةبالعربية، وعدم دقة في العلوم، في حين عندما كان تعليمنا منفتحا استطاع التلميذ المغربي أن يمتلك ناصية اللغة العربية مع الانفتاح على اللغة الفرنسية. في الكتاب، أيضا، انتقدتم البعثات الأجنبية وقلتم إنها لا تنتج لنا “مواطنين”.. هل هذا يعني أنك ضد تعليم الأطفال في البعثات الأجنبية؟ لا يمكن أن أكون ضد توجه عالمي، ولكن البعثات بالأساس وجدت لاعتبارات سياسية وقد تكون تبشيرية، وهو الأمر الذي يرتبط بكلمة بعثة. لا يمكن أن ننكر أحقية الأجانب في تعليم أبنائهم وفق مرجعية معينة، والحال أن هذه البعثات انفتحت على أبناء الوطن. هذه البعثات هي مصالح خارجية تابعة لدولها ولا يمكن أن تقدم تعليما يرتبط بمكونات الشخصية المغربية مثلا. هو تعليم لا يهيئ لتكوين مغربي مشبع بقيم بلده. وهذه أشياء وقفت عليها، قد تؤثر سلبا لاحقا على المتعلمين في البعثات، تجعلهم منسلخين عن واقعهم إن لم تسعَ الأسَر لتدارك الأمر. هناك جهود فيما يخص تدريس التاريخ المغربي واللغة العربية والانفتاح على الأمازيغية، لكنها تبقى مصالح خارجية تابعة لبلدان أجنبية. في الكتاب اعتبرتم أن التعليم الديني غير المؤسس تتهدده مخاطر الحركات السياسية.. ماذا تقصد بهذه الحركات؟ لا يمكن أن يترك الحبل على الغارب في هذه القضية. أول شيء يهمني في التعليم الديني سواء ما سُمي بالأصيل أو العتيق هو الإطار المادي للذين يدرسون في هذا التعليم. ثم هناك حالات لدول معروفة كانت تمول جمعيات معينة. ولا أعتقد أن هناك دولة كاملة السيادة يمكن أن تقبل أن توظَّف فعاليات منها في قضية حيوية، وحتى إذا كان هناك دعم أو مساعدات ينبغي أن يمر عن طريق الدولة، لذلك قلت ينبغي أن يقع تحت رقابة الدولة. الطلبة يعيشون تحت رحمة المحسنين. إذا كنا نريد من هذا التعليم أن يكون مفيدا، فلا ينبغي أن نكتفي بأن يتعلم الطالب الذي اختار هذا المسلك بحفظ القرآن والعلوم الشرعية. ينبغي أن يعرف قضايا مرتبطة بالعالم الحديث ومنها ما قد يفيده في مساره ومنها التكوين المهني.