ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطاب الإسلاميين والحريات الفردية (2)
نشر في هسبريس يوم 12 - 11 - 2019

في هذا المقال الثاني من سلسلة مقالات (جدل الحريات الفردية.. نقطة نظام!)، نواصل مقاربة الإجابة عن سؤال: لماذا يضطرب خطاب الإسلاميين حين يتعلق الأمر بالحريات الفردية؟ مع النموذج الثاني المقترح لتوضيح ذلك الاضطراب، وهو جديد حركة التوحيد والإصلاح في قضية الحريات الفردية.
في المقال الأول من هذه السلسلة، والذي كان تحت عنوان فرعي هو "سؤال السياق"، وضعنا ثلاثة مستجدات في خطاب الحركة في سياق الجدل حول الحريات الفردية: أولها نشر كتاب "الحريات الفردية تأصيلا وتنزيلا" لعضو مكتبها التنفيذي الدكتور الحسين الموس، وثانيها تنظيم ندوة "جدل الحريات الفردية في المجتمعات الإسلامية" يوم الجمعة 10 أكتوبر 2019 حول ذلك الكتاب، وثالثها الموقف الذي عبر عنه رئيس الحركة الأستاذ عبد الرحيم شيخي في تلك الندوة والبيان التوضيحي الذي أصدره بعد ذلك على إثر التعاطي الإعلامي مع موقفه وردود الأفعال التي أثارها في مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي هذا المقال، سنعود إلى هذه المستجدات من زاوية مخالفة تتعلق بالوقوف على ظاهرة الاضطراب كما يشير إليها العنوان، على ضوء مستجد رابع هو بلاغ مجلس شورى الحركة المنعقد يومي السبت والأحد 26 و27 أكتوبر 2019 بالرباط.
فيما يخص كتاب "الحريات الفردية تأصيلا وتنزيلا":
يقدم الكتاب جهدا علميا كبيرا في موضوعه، خاصة مع تأكيده أنه أول عمل من نوعه. يحاول الكتاب، كما جاء في مقدمته، توضيح موقع "الحريات الفردية" في الإسلام بانتقاد توجهين "متطرفين": الأول يتهم الإسلام بكونه حجّر على تلك الحريات وتشدد في تقييده لها، والثاني يتعلق ب(وجود بعض الفقهاء الذين يرفضون الحريات الفردية جملة وتفصيلا، ويظنونها سببا مباشرا في انتشار الموبقات والمحرمات، وفي تدمير القيم الأسرية النبيلة القائمة على الترابط والمودة). وفي هذا المقال، سوف نكتفي باقتطاف ما يناسب موضوعه وعنوانه، على أن نرجع إليه مستقبلا في قضاياه المختلفة.
في مقدمة كتابه، يقول الكاتب: (وحري بالذكر أن الكتاب يتتبع الحريات الفردية في مجتمع غالبية أفراده يدينون بدين الاسلام ويحتكمون إلى قيمه وشرائعه، وإذا وجدت أقلية غير مسلمة، أو أفراد دخلوا بلد الإسلام وهم غير مسلمين فلهم أحكامهم الخاصة، وهم غير مخاطبين بفروع الشريعة،...). بمعنى أننا، كما نجده فعلا في باقي محاور الكتاب، أمام الحديث عن "حريات الأفراد المسلمين في مجتمع إسلامي". ولسنا أمام "الحريات الفردية" التي تخاطب الإنسان أينما كان وكيفما كانت عقيدته ودينه وما إلى ذلك من الاختيارات والاعتبارات، كما يوحي به عنوان الكتاب، وكما هي مطروحة في ساحة الجدل الفكري والإيديولوجي والسياسي في المجتمع، والتي تجد مرجعيتها في القيم الكونية وفي المواثيق الدولية التي تقارب الفرد ككيان مستقل مَحْمِي ضد أي تمييز باي اعتبار كان بما فيه الاعتبارات الدينية. وعدم التمييز بين مفهوم "الحريات الفردية" و"حريات الأفراد المسلمين في مجتمع إسلامي"، التي تناولها الكتاب، هو الذي أوقعه في الاضطراب.
وللوقوف على ذلك الاضطراب، نسوق نصين من الكتاب. النص الأول من مقدمة الكتاب، حيث يقول الكاتب: (إن إشكالية هذا الكتاب هي بيان موقع الحريات الفردية في النسق الإسلامي العام، وعلاقة ذلك بقيم المجتمع الإسلامي وآدابه، وهو محاولة للتأصيل الشرعي لريادة الشريعة في تمكين الفرد من حقه في اختيار ما يشاء دون إكراه من أحد، وبالتوازي مع ذلك فإنه محاولة لتتبع جزئيات الحريات الفردية ومساحتها وأبعادها في التصور الإسلامي في تناغم مع حق الجماعة في الحفاظ على قيمها وآدابها. فإذا كان الفرد المسلم ملزم- بحكم إيمانه بمجموعة من التكاليف والواجبات- فإن ذلك شأن بينه وبين ربه، وقد يعينه المجتمع على الامتثال الطوعي للواجبات من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى إلزام قسري للفرد أو إكراه له على الامتثال).
في هذا النص، نجد الكاتب منسجم مع "حريات الأفراد المسلمين في مجتمع إسلامي"، على الرغم من أن الحديث عن (ريادة الشريعة في تمكين الفرد من حقه في اختيار ما يشاء دون إكراه من أحد... فإذا كان الفرد المسلم ملزم- بحكم إيمانه بمجموعة من التكاليف والواجبات- فإن ذلك شأن بينه وبين ربه) غير حقيقي، وينقضه الكاتب نفسه حين تحدث عن (حق الجماعة في الحفاظ على قيمها وآدابها) اعتمادا على (فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حيث الاختلاف الفقهي شاسع حول حق الأفراد والجماعات في ممارسة تلك الفريضة، مما يجعل الحريات الفردية لا تواجه فقط بالقانون الذي لم يكن حاضرا في مقاربة الكاتب لموضوع الحريات الفردية بالقدر الكافي، بل في مواجهة أفراد من المجتمع يعتقدون أن لهم سلطة تمثيل الشريعة. واستدراك الكاتب بالقول (لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى إلزام قسري للفرد أو إكراه له على الامتثال) غير ذي أهمية لأنه مجرد موعظة لا يمكنها أن تصمد أمام عقيدة "فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وما سبق يعني أن حريات الأفراد المسلمين في المجتمع المسلم ستواجه أولا بمقتضيات الدين التي تضع له الحدود في كل مناحي الحياة، ثانيا بحق المجتمع في ممارسة "فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وثالثا بموانع القانون، وهو أمر نجده أيضا خارج المجتمعات الإسلامية. لكن باختيار الفرد المسلم الإيمان بالله وبدين الإسلام سوف يعتبر كل ذلك مقبولا؛ لكن ذلك لا تتسع له "الحريات الفردية" حيث الاعتبارات الدينية وباقي الاعتبارات التمييزية تسقط، لتبقى الاعتبارات القانونية وحدها هي من تحد من تلك الحريات. وهذه الاعتبارات الأخيرة يناضل دعاة الحريات الفردية باستمرار من أجل تضييق دائرتها أو حتى إسقاطها نهائيا؛ وهو ما يجعل "الحريات الفردية" تختلف بشكل كبير عن "حريات المسلمين في مجتمع مسلم" وهو ما لا يميزه الخطاب الإسلامي.
وإذا انتقلنا إلى النص الثاني الذي جاء في المحور الأول من الكتاب تحت عنوان "تأصيل الحريات الفردية"، سنجد لغة أخرى لا تتسع لها هذه المرة "حريات الفرد المسلم في مجتمع إسلامي" التي هي موضوع الكتاب، حيث يقول الكاتب: (واعتبارا لما سبق حول المعاني اللغوية لكلمتي "حرية" و"فردية" فإننا في كتابنا هذا نطلق الحريات الفردية ونريد بها حق الإنسان في التصرف بناء على قناعته الفردية، وعلى ما ارتآه بمحض إرادته، ودون خوف من أحد، ويتضمن ذلك حرية الجانب الجسماني الظاهري، كما يتضمن حرية الجانب النفسي الباطني المرتبط بالاعتقادات والأفكار، فالحريات الفردية لها صلة بالأفكار والقناعات، كما أن لها صلة بالسلوك اليومي للفرد في لباسه، وهيئته، واكله، وشربه، وفي طريقة عبادته، وأشكال تلبيته لغرائزه، وفي سفره وتنقله).
ونلاحظ بسرعة تناقض الكاتب مع ما سبق أن أعلنه، من كون كتابه (يتتبع الحريات الفردية في مجتمع غالبية أفراده يدينون بدين الاسلام ويحتكمون إلى قيمه وشرائعه،...)، حيث يتحدث المفهوم الذي أعطاه للحريات الفردية عن الإنسان بإطلاق وليس عن المسلم في مجتمع إسلامي. وإذا كان ذلك التعريف يناسب الإنسان، مع تسجيل أنه لم يأت فيه الكاتب بجديد مقارنة مع ما جاء في المواثيق الدولية، وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنه حتما لا يمكن تنزيله في حالة المسلم في مجتمع إسلامي كما قدمه الكاتب سابقا، حيث لن يجد ذلك التعريف الذي أعطاه الكاتب للحريات الفردية مجالا للتطبيق، حيث ستحاصره الاعتبارات الدينية والمجتمعية من كل جانب، كما تم في الكتاب نفسه مع أشكال الحريات التي عالجها. وهذه هي الإشكالية الكبرى التي عانى منها الكتاب، وعانى منها الفكر الإسلامي المعاصر، ومصدرها كما سبقت الإشارة هي عدم التمييز بين "الحريات الفردية" بإطلاقها ومرجعياتها، وبين "حريات المسلمين في مجتمع إسلامي". وهو ما سنعود لبيانه لاحقا.
فيما يتعلق بتصريحات رئيس حركة التوحيد والإصلاح:
الموقف الذي عبر عنه رئيس الحركة في الندوة المشار إليها سابقا، ومع استحضار عدم تدقيق مفهوم "الحريات الفردية" ومحاولة إقحامه في المنظومة الإسلامية، لا يُتوقع منه إلا أن يثير ردود أفعال قوية من الإسلاميين أنفسهم، حيث إن محاولته التدقيق في ما هي الجريمة بالضبط في العلاقات خارج إطار الزوجية؟ وحصرها في الممارسة الجنسية التي دققها بأدبيات الدين وهي "الزنا" و"الجماع"، فهي وإن كانت من الناحية الفقهية لا إشكال فيها، لكنها من زاوية "الحريات الفردية" فذلك التدقيق لا يفهم منه إلا الحرية في ممارسة ما دون الزنا علنا وفي الفضاء العام دون اعتبار ذلك أمرا مرفوضا قانونا ومجتمعا. وهذا هو ما أثار ردود الأفعال، وكان خلف إصدار رئيس الحركة لبيان توضيحي بتاريخ 12 أكتوبر 2019.
ومما جاء في بيان رئيس الحركة قوله: "فيما يخص العلاقات بين الجنسين من الشباب التي تحدثتُ عنها والتي قد يفهم منها إباحتي لما دون جريمة الزنا المحددة شرعا، كالملامسة والقبل، فأؤكد أن اعتقادي فيها هو ما قرره علماؤنا من كونها ذنوبا ومعاصٍ وجب على المكلف تجنبها والابتعاد عنها. وقد قصدت في مداخلتي تمييز الزنا أو ما يصطلح عليه قانونا بجريمة الفساد عن غيره من التصرفات التي قد تقترب أو تبتعد منه شرعا وقانونا".
وهذا المقطع الأول من كلام رئيس الحركة يضعنا أمام نوعين من السلوك: النوع الأول سلوك يعتبر جريمة قانونا وشرعا، ويتعلق الأمر بالزنا أو جريمة الفساد؛ غير أنه، وما دمنا نتحدث عن ظاهرة الاضطراب، نجد أن الجماع خارج نطاق الزواج الذي يعتبره رئيس الحركة لا يدخل في نطاق الحريات الفردية فالعكس هو الصحيح إذا كان على أساس رضائي.. لذلك، يناضل نشطاء تلك الحريات من أجل رفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية خارج نطاق الزوجية في المغرب. والنوع الثاني من السلوك يتعلق بسلوكات لا تعتبر جريمة من الناحية القانونية؛ لكنها "ذنوب ومعاصٍ وجب على المكلف تجنبها والابتعاد عنها". وهنا، تطرح أسئلة مهمة؛ منها: هذا "الوجوب" هل هو ديني فقط، أي يتعلق بما بين العبد وربه ولا دخل لأحد به سواء كان سلطات أو مجتمع، أم وجوب قانوني ومجتمعي أيضا تترتب عن جزاءات أخرى أقل من عقوبة جريمة الفساد؟ أو بمعنى آخر هل هو مقبول ولا يؤاخذ الناس عليه؟
المقطع السابق من كلام رئيس الحركة كاف في بيان الاضطراب في التعاطي مع مفهوم "الحريات الفردية"؛ لكن مقاطع أخرى من كلامه تزيد من توضيح ذلك الاضطراب. ففي المقطع الثاني الموالي في بيان رئيس الحركة، يقول: (إننا نحتاج اليوم، حيث رقة التدين، إلى تحرير الأفهام والعقول من آفة التعميم والتهويل، ومن الإيغال في الحكم على الناس وتضخيم حجم الأخطاء وتوسيع دائرة تجريم الأفعال واعتبارها في مكانة واحدة رغم اختلاف مستوياتها. ونعلم مما قرره علماؤنا أن المعاصي فيها أكْبَرُ الكبائر، وفيها الكبائر التي تحتاج إلى توبة، وفيها الصغائر التي تكفرها الصلاة والصوم. إن الأفعال المشار إليها وإن كانت كلها غير جائزة وغير مشروعة فإن هناك اختلافا بينها وتفاوتا واضحا في الحكم عليها، ولا يمكن الحكم عليها بحكم واحد، ولا النظرة إلى مرتكبيها نظرة واحدة، وأنه إن كانت الجريمة تقتضي العقوبة المترتبة عليها شرعا وقانونا فإنَّ ما دونها ذنوبٌ ومعاصي عالجها الشرع الحنيف بمقاربة تربوية تُعلي من استحضار رقابة الله عز وجل والحث على التوبة والأعمال الصالحة الكفيلة بتحصين الأفراد والمجتمعات).
في هذا المقطع، وبالرجوع إلى السؤالين الأخيرين اللذين أثرناهما سابقا، هل نفهم من كلام رئيس الحركة أن العلاقات ما دون الزنا مجال حصري لأعمال "عالجها الشرع الحنيف بمقاربة تربوية تُعلي من استحضار رقابة الله عز وجل والحث على التوبة والأعمال الصالحة الكفيلة بتحصين الأفراد والمجتمعات". فهل نفهم أن مجال تلك الأعمال لا دخل فيه للمنع من أي جهة كانت، ويكون بذلك مجالا للحريات الفردية الحقيقية؟
في المقاطع السابقة، يقابل رئيس الحركة في منظومة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج من زاوية بين ما هو جريمة وما هو دون ذلك. وفي هذا المقطع الثالث من نفس البيان، يعطي رئيس الحركة توضيحات إضافية من زاوية التفريق بين ما يقع في الفضاءات الخاصة وما يقع في الفضاء العام وعلنا، فيقول: (يعتقد البعض أن التوسع في التجريم وفي العقوبات المترتبة قانونا على عدد من القضايا المرتبطة بتصرفات الأفراد في فضاءاتهم الخاصة التي يصعب ويتعذر أحيانا إثباتها، والتي يجب التفريق فيها بين ما يقع مجاهرة في الفضاء العام وما يقع في الفضاء الخاص؛ سيسهم في الحدِّ منها وردْع المخالفِين؛ وهذا وإن كان فيه قدر من الصحة فإنه يبقى قاصرا دون إعمال مقاربة شمولية مندمجة تنطلق من المرجعية الإسلامية بأبعادها الاجتهادية وترتكز أساسا على المداخل التربوية والتعليمية والتثقيفية وغيرها الموكولة إلى مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومسجد ومدرسة ووسائل إعلام، وتسهم فيه بقسط مقدر مؤسسات المجتمع المدني والحركات الإصلاحية، كحركة التوحيد والإصلاح من خلال حملاتها وبرامجها الدعوية والتربوية وأنشطتها المختلفة).
وأهم الملاحظات حول هذا المقطع هي: أولا، ينتقد رئيس الحركة المراهنة على (التوسع في التجريم وفي العقوبات المترتبة قانونا على عدد من القضايا المرتبطة بتصرفات الأفراد في فضاءاتهم الخاصة) ل(الحدِّ منها وردْع المخالفِين). ثانيا، في سياق كلامه يفهم من قوله (يجب التفريق فيها بين ما يقع مجاهرة في الفضاء العام وما يقع في الفضاء الخاص) أن تشديد الردع ينبغي أن يكون في الممارسات العلنية أكثر من التي تقع في الفضاءات الخاصة. ثالثا، يرى الحل في (إعمال مقاربة شمولية مندمجة تنطلق من المرجعية الإسلامية بأبعادها الاجتهادية وترتكز أساسا على المداخل التربوية والتعليمية والتثقيفية وغيرها). وهنا لا نكون نهائيا أمام حديث عن حريات فردية، بل أمام مقاربة بيداغوجية ودعوية غير صريحة لمعالجة مظاهر من الحريات الفردية في المجتمع، أي أننا أمام رفض مغلف لتلك الحريات بمفهومها المتعارف عليه سواء تعلق الأمر بالزنى أو ما دونه، سواء في الخفاء أو العلن.
إنه في العمق لا جديد نهائيا في الموقف من العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج إلا في كيفية مقاربتها. وهنا لا نكون أمام حريات فردية، بل أمام تقبل وضعية في أفق "الارتقاء" بها إلى وضعية تكون فيها جميع العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج مرفوضة.
وحين أكد رئيس الحركة أن اعتقاده في العلاقات الجنسية ما دون الزنا خارج إطار الزواج (هو ما قرره علماؤنا من كونها ذنوبا ومعاصٍ وجب على المكلف تجنبها والابتعاد عنها)، فإنه حين نكون أمام سياسات عمومية فلابد أن نتوقع أن تردع تلك الممارسات بعقوبات تقل عن عقوبة الزنا، مع التمييز فيها بين ما يقع في الفضاء الخاص وما يقع في الفضاء العام.
والخلاصة أن رئيس الحركة، على الرغم من حديثه عن الحريات الفردية فهو في الأخير يتحدث هو أيضا عن "حريات الأفراد المسلمين في مجتمع مسلم".
فيما يتعلق ببلاغ مجلس شورى الحركة:
بلاغ مجلس شورى الحركة، المنعقد يومي السبت والأحد 26 و27 أكتوبر 2019، تطرق إلى الجدل الدائر حول "الحريات الفردية"، فأوضح موقف الحركة، ومما جاء فيه: (إن حركة التوحيد والإصلاح باعتبارها حركة دعوية وتربوية وفاعلا مدنيا إصلاحيا إذ تؤكد على أهمية القانون الجنائي لحماية المجتمع والأفراد ومحاربة الجريمة ومعالجة الاختلالات الاجتماعية والتربوية، إلا أنها تعتبر أن هذه المقاربة القانونية تظل قاصرة في غياب اعتماد مقاربة وقائية مندمجة تنطلق من التربية على الأخلاق الفاضلة ونشر قيم العفة والإعلاء من دور مؤسسة الأسرة لمواجهة دعوات الحرية الجنسية، التي لم تُخلِّف سوى الآثار الوخيمة على النظام القيمي والتماسك المجتمعي، وفي غياب تفعيل الأدوار التربوية لباقي مؤسسات التنشئة على القيم، مثل المدرسة والمسجد والإعلام).
ونرى أن بلاغ مجلس شورى الحركة واضح فيما يتعلق ب"مواجهة دعوات الحرية الجنسية" بالاعتبارات التي ذكرها، والتي هي الاعتبارات نفسها التي يزعم كتاب "الحريات الفردية تأصيلا وممارسة" أنه جاء ليحرر موضوع الحريات الفردية من توجهين: توجه يتهم الإسلام بكونه ضد الحريات الفردية، وتوجه يحارب الحريات الفردية. وهذا التوجه الأخير لخصه في (وجود بعض الفقهاء الذين يرفضون الحريات الفردية جملة وتفصيلا، ويظنونها سببا مباشرا في انتشار الموبقات والمحرمات، وفي تدمير القيم الأسرية النبيلة القائمة على الترابط والمودة)، فأين يختلف هذا مع ما جاء في بلاغ الحركة الذي يتهم الحريات الجنسية (التي لم تُخلِّف سوى الآثار الوخيمة على النظام القيمي والتماسك المجتمعي). وهنا ينتهي الكلام، ولا مجال للحديث عن "الحريات الفردية" في المنظومة الإسلامية والدعوية. وهذا ما سنوضحه لاحقا.
إن الاضطراب الذي سجلناه في النماذج السابقة لا يعني انحصار ظاهرة الاضطراب في المدرسة الدعوية التي تمثلها؛ بل لأنها فقط أثارت جدلا جديدا حول الحريات الفردية بالمغرب، وإلا فسمة الخطاب الإسلامي عموما يعرف الاضطراب في هذه المسألة كما في مسائل وقضايا أخرى غيرها. وهذا ما يفرض العمل على تحريره من ذلك الاضطراب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.