في هذا المقال الثالث من سلسلة مقالات (جدل الحريات الفردية .. نقطة نظام !) نواصل مقاربة الإجابة عن سؤال: لماذا يضطرب خطاب الاسلاميين حين يتعلق الأمر بالحريات الفردية؟مع النموذج الثاني المقترح لتوضيح ذلك الاضطراب، وهو جديد حركة التوحيد والاصلاح في قضية الحريات الفردية. في المقال الأول من هذه السلسلة، والذي كان تحت عنوان فرعي هو “سؤال السياق”، حيث وضعنا ثلاث مستجدات في خطاب الحركة في سياق الجدل حول الحريات الفردية، أولهانشر كتاب “الحريات الفردية تأصيلا وتنزيلا” لعضو مكتبها التنفيذيالدكتور الحسين الموس. وثانيها تنظيم ندوة “جدل الحريات الفردية في المجتمعات الاسلامية”يوم الجمعة 10 أكتوبر 2019 حول ذلك الكتاب.وثالثها الموقف الذي عبر عنه رئيس الحركة الأستاذ عبد الرحيم شيخي في تلك الندوة والبيان التوضيحي الذي أصدره بعد ذلك على إثر التعاطي الإعلامي مع موقفه وردود الفعل التي أثارها في مواقع التواصل الاجتماعي. وفيهذا المقال سنعود إلى هذه المستجدات من زاوية مخالفة تتعلق بالوقوف على ظاهرة الاضطراب كما يشير إليها العنوان، وذلك على ضوء مستجد رابع هو بلاغ مجلس شورى الحركة المنعقد يومي السبت والأحد 26 و 27 أكتوبر 2019 بالرباط. فيما يخص كتاب “الحريات الفردية تأصيلا وتنزيلا”: يقدمالكتاب جهدا علميا كبيرا في موضوعه، خاصة مع تأكيده أنه أول عمل من نوعه. والكتاب، كما جاء في مقدمته، يحاول توضيح موقع “الحريات الفردية” في الإسلام بانتقاد توجهين “متطرفين”، الأول يتهم الاسلام بكونه حجّر على تلك الحريات وتشدد في تقييده لها، والثاني يتعلق ب(وجود بعض الفقهاء الذين يرفضون الحريات الفردية جملة وتفصيلا، ويظنونها سببا مباشرا في انتشار الموبقات والمحرمات، وفي تدمير القيم الأسرية النبيلة القائمة على الترابط والمودة).وفي هذا المقال سوف نكتفي باقتطاف ما يناسب موضوعه وعنوانه، على أن نرجع إليه مستقبلا في قضاياه المختلفة. وفي مقدمة كتابه يقول الكاتب: (وحري بالذكر أن الكتاب يتتبع الحريات الفردية في مجتمع غالبية أفراده يدينون بدين الاسلام ويحتكمون إلى قيمه وشرائعه، وإذا وجدت أقلية غير مسلمة، أو أفراد دخلوا بلد الإسلام وهم غير مسلمين فلهم أحكامهم الخاصة، وهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، …). بمعنى أننا، كما نجده فعلا في باقي محاور الكتاب،أمام الحديث عن “حريات الأفراد المسلمين في مجتمع إسلامي”، ولسنا أمام “الحريات الفردية” التي تخاطب الإنسان أينما كان وكيفما كانت عقيدته ودينه وما إلى ذلك من الاختيارات والاعتبارات، كما يوحي به عنوان الكتاب، وكما هي مطروحة في ساحة الجدل الفكري والإيديولوجي والسياسي في المجتمع، والتي تجد مرجعيتها في القيم الكونية وفي المواثيق الدولية التي تقارب الفرد ككيان مستقل مَحْمِي ضد أي تمييز باي اعتبار كان بما فيه الاعتبارات الدينية. وعدم التمييز بين مفهوم “الحريات الفردية” و”وحريات الأفراد المسلمين في مجتمع إسلامي”، التي تناولها الكتاب، هو الذي أوقعه في الاضطراب. وللوقوف على ذلك الاضطراب نسوق نصين من الكتاب. النص الأول من مقدمة الكتاب، حيث يقول الكاتب: (إن إشكالية هذا الكتاب هي بيان موقع الحريات الفردية في النسق الإسلامي العام، وعلاقة ذلك بقيم المجتمع الإسلامي وآدابه، وهو محاولة للتأصيل الشرعي لريادة الشريعة في تمكين الفرد من حقه في اختيار ما يشاء دون إكراه من أحد، وبالتوازي مع ذلك فإنه محاولة لتتبع جزئيات الحريات الفردية ومساحتها وأبعادها في التصور الاسلامي في تناغم مع حق الجماعة في الحفاظ على قيمها وآدابها. فإذا كان الفرد المسلم ملزم- بحكمإيمانه بمجموعة من التكاليف والواجبات- فإن ذلك شأن بينه وبين ربه، وقد يعينه المجتمع على الامتثال الطوعي للواجبات من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى إلزام قسري للفرد أو إكراه له على الامتثال).في هذا النص نجد الكاتب منسجم مع “حريات الأفراد المسلمين في مجتمع إسلامي”، رغم أن الحديث عن (ريادة الشريعة في تمكين الفرد من حقه في اختيار ما يشاء دون إكراه من أحد … فإذا كان الفرد المسلم ملزم- بحكم إيمانه بمجموعة من التكاليف والواجبات- فإن ذلك شأن بينه وبين ربه) غير حقيقي، وينقضه الكاتب نفسه حين تحدث عن (حق الجماعة في الحفاظ على قيمها وآدابها) اعتمادا على (فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حيث الاختلاف الفقهي شاسع حول حق الأفراد والجماعات في ممارسة تلك الفريضة، مما يجعل الحريات الفردية لا تواجه فقط بالقانون الذي لم يكن حاضرا في مقاربة الكاتب لموضوع الحريات الفردية بالقدر الكافي، بل في مواجهة أفراد من المجتمع يعتقدون أن لهم سلطة تمثيل الشريعة. واستدراك الكاتب بالقول (لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى إلزام قسري للفرد أو إكراه له على الامتثال) غير ذي أهمية لأنه مجرد موعظة لا يمكنها أن تصمد أمام عقيدة “فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وما سبق يعني أن حريات الأفراد المسلمين في المجتمع المسلم ستواجه أولا بمقتضيات الدين التي تضع له الحدود في كل مناحي الحياة، ثانيا، بحق المجتمع في ممارسة “فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وثالثا، بموانع القانون، وهو أمر نجده أيضا خارج المجتمعات الاسلامية.لكن باختيار الفرد المسلم الإيمان بالله وبدين الاسلام سوف يعتبر كل ذلك مقبولا، لكن ذلك لا تتسع له “الحريات الفردية” حيث الاعتبارات الدينية وباقي الاعتبارات التمييزية تسقط، لتبقى الاعتبارات القانونية وحدها هي من تحد من تلك الحريات. وهذه الاعتبارات الأخيرة يناضل دعاة الحريات الفردية باستمرار من أجل تضييق دائرتها أو حتى إسقاطها نهائيا. مما يجعل “الحريات الفردية” تختلف بشكل كبير عن “حريات المسلمين في مجتمع مسلم” وهو ما لا يميزه الخطاب الإسلامي. وإذا انتقلنا إلى النص الثاني الذي جاء في المحور الأول من الكتاب تحت عنوان”تأصيل الحريات الفردية”، سنجد لغة أخرى لا تتسع لها هذه المرة “حريات الفرد المسلم في مجتمع إسلامي” التي هي موضوع الكتاب، حيث يقول الكاتب: (واعتبارا لما سبق حول المعاني اللغوية لكلمتي “حرية” و “فردية” فإننا في كتابنا هذا نطلق الحريات الفردية ونريد بها حق الانسان في التصرف بناء على قناعته الفردية، وعلى ما ارتآه بمحض إرادته، ودون خوف من أحد، ويتضمن ذلك حرية الجانب الجسماني الظاهري، كما يتضمن حرية الجانب النفسي الباطني المرتبط بالاعتقادات والأفكار، فالحريات الفردية لها صلة بالأفكار والقناعات، كما أن لها صلة بالسلوك اليومي للفرد في لباسه، وهيئته، واكله، وشربه، وفي طريقة عبادته، وأشكال تلبيته لغرائزه، وفي سفره وتنقله).ونلاحظ بسرعة تناقض الكاتب مع ما سبق أن أعلنه، من كون كتابه ( يتتبع الحريات الفردية في مجتمع غالبية أفراده يدينون بدين الاسلام ويحتكمون إلى قيمه وشرائعه،…)، حيث يتحدث المفهوم الذي أعطاه للحريات الفردية عن الانسان بإطلاق وليس عن المسلم في مجتمع إسلامي. وإذا كان ذلك التعريف يناسب الانسان، مع تسجيل أنه لم يأت فيه الكاتب بجديد مقارنة مع ما جاء في المواثيق الدولية، وخاصة الاعلان العالمي لحقوق الانسان، فإنه حتما لا يمكن تنزيله في حالة المسلم في مجتمع إسلامي كما قدمه الكاتب سابقا، حيث لن يجد ذلك التعريف الذي أعطاه الكاتب للحريات الفردية مجالا للتطبيق، حيث ستحاصره الاعتبارات الدينية والمجتمعية من كل جانب، كما تم في الكتاب نفسه مع أشكال الحريات التي عالجها. وهذه هي الاشكالية الكبرى التي عانى منها الكتاب، وعانى منها الفكر الاسلامي المعاصر، ومصدرها كما سبقت الاشارة هي عدم التمييز بين “الحريات الفردية” بإطلاقها ومرجعياتها، وبين “حريات المسلمين في مجتمع إسلامي”. وهو ما سنعود لبيانه لاحقا. فيما يتعلق بتصريحات رئيس حركة التوحيد والاصلاح: الموقف الذي عبر عنه رئيس الحركة في الندوة المشار إليها سابقا، ومع استحضار عدم تدقيق مفهوم “الحريات الفردية” ومحاولة إقحامه في المنظومة الاسلامية، لا يُتوقع منه إلا أن يثير ردود فعل قوية من الاسلاميين أنفسهم، حيث أن محاولته التدقيق في ما هي الجريمة بالضبط في العلاقات خارج إطار الزوجية؟ وحصرها في الممارسة الجنسية التي دققها بأدبيات الدين وهي “الزنى” و”الجماع”، فهي وإن كانت من الناحية الفقهية لا إشكال فيها، لكنها من زاوية “الحريات الفردية” فذلك التدقيق لا يفهم منه إلا الحرية في ممارسة ما دون الزنى علنا وفي الفضاء العام دون اعتبار ذلك أمرا مرفوضا قانونا ومجتمعا.وهذا هو ما أثار ردود الفعل وكان خلف إصدار رئيس الحركة لبيان توضيحي بتاريخ 12 أكتوبر 2019. ومما جاء في بيان رئيس الحركة قوله: “فيما يخص العلاقات بين الجنسين من الشباب التي تحدثتُ عنها والتي قد يفهم منها إباحتي لما دون جريمة الزنا المحددة شرعا، كالملامسة والقبل، فأؤكد أن اعتقادي فيها هو ما قرره علماؤنا من كونها ذنوبا ومعاصي وجب على المكلف تجنبها والابتعاد عنها. وقد قصدت في مداخلتي تمييز الزنا أو ما يصطلح عليه قانونا بجريمة الفساد عن غيره من التصرفات التي قد تقترب أو تبتعد منه شرعا وقانونا”. وهذا المقطع الأول من كلام رئيس الحركة يضعنا أمام نوعين من السلوك. النوع الأول سلوك يعتبر جريمة قانونا وشرعا، ويتعلق الأمر بالزنى أو جريمة الفساد. غير أنه، وما دمنا نتحدث عن ظاهرة الاضطراب، نجد أن الجماع خارج نطاق الزواج الذي يعتبره رئيس الحركة لا يدخل في نطاق الحريات الفردية فالعكس هو الصحيح إذا كان على أساس رضائي، لذلك يناضل نشطاء تلك الحريات من أجل رفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية خارج نطاق الزوجية في المغرب. والنوع الثاني من السلوك يتعلق بسلوكات لا تعتبر جريمة من الناحية القانونية لكنها “ذنوبومعاصي وجب على المكلف تجنبها والابتعاد عنها”. وهنا تطرح أسئلة مهمة، منها: هذا “الوجوب” هل هو ديني فقط، أي يتعلق بما بين العبد وربه ولا دخل لأحد به سواء كان سلطات أو مجتمع، أم وجوب قانوني ومجتمعي أيضا تترتب عن جزاءات أخرى أقل من عقوبة جريمة الفساد؟ أو بمعنى آخر هل هو مقبول ولا يؤاخذ الناس عليه؟ المقطع السابق من كلام رئيس الحركة كاف في بيان الاضطراب في التعاطي مع مفهوم “الحريات الفردية”، لكن مقاطع أخرى من كلامه تزيد من توضيح ذلك الاضطراب. ففي المقطع الثاني الموالي في بيان رئيس الحركة يقول: (إننا نحتاج اليوم، حيث رقة التدين، إلى تحرير الأفهام والعقول من آفة التعميم والتهويل، ومن الإيغال في الحكم على الناس وتضخيم حجم الأخطاء وتوسيع دائرة تجريم الأفعال واعتبارها في مكانة واحدة رغم اختلاف مستوياتها. ونعلم مما قرره علماؤنا أن المعاصي فيها أكْبَرُ الكبائر، وفيها الكبائر التي تحتاج إلى توبة، وفيها الصغائر التي تكفرها الصلاة والصوم. إن الأفعال المشار إليها وإن كانت كلها غير جائزة وغير مشروعة فإن هناك اختلافا بينها وتفاوتا واضحا في الحكم عليها، ولا يمكن الحكم عليها بحكم واحد، ولا النظرة إلى مرتكبيها نظرة واحدة، وأنه إن كانت الجريمة تقتضي العقوبة المترتبة عليها شرعا وقانونا فإنَّ ما دونها ذنوبٌ ومعاصي عالجها الشرع الحنيف بمقاربة تربوية تُعلي من استحضار رقابة الله عز وجل والحث على التوبة والأعمال الصالحة الكفيلة بتحصين الأفراد والمجتمعات). في هذا المقطع، وبالرجوع إلى السؤالين الأخيرين اللذان أثرناهما سابقا، هل نفهم من كلام رئيس الحركة أن العلاقات ما دون الزنى مجال حصري لأعمال “عالجها الشرع الحنيف بمقاربة تربوية تُعلي من استحضار رقابة الله عز وجل والحث على التوبة والأعمال الصالحة الكفيلة بتحصين الأفراد والمجتمعات.” فهل نفهم أن مجال تلك الأعمال لادخل فيه للمنع من أي جهة كانت، ويكون بذلك مجالا للحريات الفردية الحقيقية؟ في المقاطع السابقة يقابل رئيس الحركة في منظومة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج من زاوية بين ما هو جريمة وما هو دون ذلك. وفي هذا المقطع الثالث من نفس البيان يعطي رئيس الحركة توضيحات إضافية من زاوية التفريق بين ما يقع في الفضاءات الخاصة وما يقع في الفضاء العام وعلنا، فيقول: (يعتقد البعض أن التوسع في التجريم وفي العقوبات المترتبة قانونا على عدد من القضايا المرتبطة بتصرفات الأفراد في فضاءاتهم الخاصة التي يصعب ويتعذر أحيانا إثباتها، والتي يجب التفريق فيها بين ما يقع مجاهرة في الفضاء العام وما يقع في الفضاء الخاص؛ سيسهم في الحدِّ منها وردْع المخالفِين؛ وهذا وإن كان فيه قدر من الصحة فإنه يبقى قاصرا دون إعمال مقاربة شمولية مندمجة تنطلق من المرجعية الإسلامية بأبعادها الاجتهادية وترتكز أساسا على المداخل التربوية والتعليمية والتثقيفية وغيرها الموكولة إلى مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومسجد ومدرسة ووسائل إعلام، وتسهم فيه بقسط مقدر مؤسسات المجتمع المدني والحركات الإصلاحية، كحركة التوحيد والإصلاح من خلال حملاتها وبرامجها الدعوية والتربوية وأنشطتها المختلفة). وأهم الملاحظات حول هذا المقطع هي: أولا، ينتقد رئيس الحركة المراهنة على(التوسع في التجريم وفي العقوبات المترتبة قانونا على عدد من القضايا المرتبطة بتصرفات الأفراد في فضاءاتهم الخاصة)ل (الحدِّ منها وردْع المخالفِين).ثانيا، في سياق كلامه يفهم من قوله (يجب التفريق فيها بين ما يقع مجاهرة في الفضاء العام وما يقع في الفضاء الخاص) أن تشديد الردع ينبغي أن يكون في الممارسات العلنية أكثر من التي تقع في الفضاءات الخاصة. ثالثا، يرى الحل في (إعمال مقاربة شمولية مندمجة تنطلق من المرجعية الإسلامية بأبعادها الاجتهادية وترتكز أساسا على المداخل التربوية والتعليمية والتثقيفية وغيرها). وهنا لا نكون نهائيا أمام حديث عن حريات فردية، بل أمام مقاربة بيداغوجية ودعوية غير صريحة لمعالجة مظاهر من الحريات الفردية في المجتمع، أي أننا أمام رفض مغلف لتلك الحريات بمفهومها المتعارف عليه سواء تعلق الأمر بالزنى أو ما دونه، سواء في الخفاء أو العلن. إنه في العمق لا جديد نهائيا في الموقف من العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج إلا في كيفية مقاربتها. وهنا لا نكون أمام حريات فردية، بل أمام تقبل وضعية في أفق “الارتقاء” بها إلى وضعية تكون فيها جميع العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج مرفوضة. وحين أكد رئيس الحركة أن اعتقاده في العلاقات الجنسية ما دون الزنى خارج إطار الزواج (هو ما قرره علماؤنا من كونها ذنوبا ومعاصي وجب على المكلف تجنبها والابتعاد عنها)، فإنه حين نكون أمام سياسات عمومية فلابد أن نتوقع أن تردع تلك الممارسات بعقوبات تقل عن عقوبة الزنى، مع التمييز فيها بين ما يقع في الفضاء الخاص وما يقع في الفضاء العام.والخلاصة أن رئيس الحركة رغم حديثه عن الحريات الفردية فهو في الأخير يتحدث هو أيضا عن “حريات الأفراد المسلمين في مجتمع مسلم”. فيما يتعلق ببلاغ مجلس شورى الحركة: بلاغ مجلس شورى الحركة المنعقد يومي السبت والأحد 26 و 27 أكتوبر 2019، تتطرق إلى الجدل الدائر حول “الحريات الفردية”، فأوضح موقف الحركة، ومما جاء فيه: (إن حركة التوحيد والإصلاح باعتبارها حركة دعوية وتربوية وفاعلا مدنيا إصلاحيا إذ تؤكد على أهمية القانون الجنائي لحماية المجتمع والأفراد ومحاربة الجريمة ومعالجة الاختلالات الاجتماعية والتربوية، إلا أنها تعتبر أن هذه المقاربة القانونية تظل قاصرة في غياب اعتماد مقاربة وقائية مندمجة تنطلق من التربية على الأخلاق الفاضلة ونشر قيم العفة والإعلاء من دور مؤسسة الأسرة لمواجهة دعوات الحرية الجنسية، التي لم تُخلِّف سوى الآثار الوخيمة على النظام القيمي والتماسك المجتمعي، وفي غياب تفعيل الأدوار التربوية لباقي مؤسسات التنشئة على القيم، مثل المدرسة والمسجد والإعلام…). ونرى أن بلاغ مجلس شورى الحركة واضح فيما يتعلق ب”مواجهة دعوات الحرية الجنسية” بالاعتبارات التي ذكرها، والتي هي نفس الاعتبارات التي يزعم كتاب “الحريات الفردية تأصيلا وممارسة” أنه جاء ليحرر موضوع الحريات الفردية من توجهين، توجه يتهم الاسلام بكونه ضد الحريات الفردية، وتوجه يحارب الحريات الفردية. وهذا التوجه الأخير لخصه في (وجود بعض الفقهاء الذين يرفضون الحريات الفردية جملة وتفصيلا، ويظنونها سببا مباشرا في انتشار الموبقات والمحرمات، وفي تدمير القيم الأسرية النبيلة القائمة على الترابط والمودة)، فأين يختلف هذا مع ما جاء في بلاغ الحركة الذي يتهم الحريات الجنسية (التي لم تُخلِّف سوى الآثار الوخيمة على النظام القيمي والتماسك المجتمعي).وهنا ينتهي الكلام، ولا مجال للحديث عن “الحريات الفردية” في المنظومة الاسلامية والدعوية. وهذا ما سنوضحه لاحقا. إن الاضطراب الذي سجلناه في النماذج السابقة لا تعني انحصار ظاهرة الاضطراب في المدرسة الدعوية التي تمثلها، بل لأنها فقط أثارت جدلا جديدا حول الحريات الفردية بالمغرب، وإلا فسمة الخطاب الاسلامي عموما يعرف الاضطراب في هذه المسألة كما في مسائل وقضايا أخرى غيرها. وهذا ما يفرض العمل على تحريره من ذلك الاضطراب.