الريع الإيديولوجي هو الآخر صار مفهوما سياسيا مروجا تحت يافطة المحاصصة الحزبوية الضيقة. يكفي أن تكون في الصف الأغلبي دون منطق إيديولوجي أو تفكير واع بالظرفية السياسية والاجتماعية التي تمر منها البلاد، حتى تحصل على قطعتك من كعكة التسويم والمناوشة. الريع الإيديولوجي والديني ضريبة مأسورة بردة ديمقراطية حافية القدمين، إلا من إسار يعقد مخها من التفكير والمحاججة.. كانت هناك مفاهيم تقليدية تشكل فيها نظرية الإيديولوجيا قاعدة أساسية ضمن وظائف قال عنها بول ريكور إنها تنتج صورة معكوسة عن الواقع الاجتماعي، بمعنى أن تقوم بعملية تشويه وتقويض. كما أنها تعمد إلى تبرير الأوضاع القائمة، عن طريق التدليس وإخفاء الحقيقة. ثم إدماج الأفراد في هوية الجماعة، بما يحقق مساحة من داخل الهوية الجماعية، بحيث يتم تكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية دون الحاجة إلى تأطيرها. أما اليوم فإن للإيديولوجيا أسواقا وغنائم وقطعانا من أبناء آوى ودوغمائيي الحروب القيمية.. لن يكون بوسعك تحليل الخطاب الإيديولوجي اليوم ما دمت لا تتوفر على أجهزة مفاهيمية صلبة في التفكيك والمراوغة وآليات الأدلوجة السياسية. وإذا استعرت مفاهيم نقدانية ذات أبعاد فكرية وسياسية فإنك ولا بد ستتماهى وحجم الذهول الذي يصيبك وأنت تقفز فوق حاجز النظرية العربية الخاصة باستبلاد العباد وتحويل عقولهم إلى مطبات إيديولوجية مجردة من أحاسيس وتوقعات العقل؛ وهو الأمر الذي يستدعي إعادة التأسيس لعلم المجتمع كما سماه عبد الله العروي في كتابه "نقد المفاهيم"، من خلال استنباته في حقل الثقافة العربية ومحاولة إعمال وتشغيل مفهومي المقارنة والتأويل. إن ما يستدعي هذا التشابك غير المنسجم مع الفعل الإيديولوجي ورديفه الديني التغييب القسري لقيم التسامح والارتقاء بالممارسة السياسية؛ فالإيديولوجيا الدينية تقصر عن الجدل السياسي العقلاني وتحتمي بالتقديس النصي الظاهري كحقيقة مطلقة، بينما الإيديولوجيا الأرضية قابلة للنقد والدحض والتغيير والمواجهة. ولهذا، كانت الإيديولوجيا ولا تزال مادة مسلعة، محشورة في قالب ديماغوجي مقنع، تخفي خلفها صنائع من التناقض والاستهواء. ولا تخرج من ربقة الريع، كما لو أنها خلقت لتفرض أحكامها على القابليات المجتمعية المتواطئة. تلك المجتمعات التي تقرضها الأفكار وحرائق المعتقدات، ثم تصنع منها أدوات لحلق رؤوس الأتباع وتسويغهم بالبطلان والترويض، حتى يصيروا جزءا من قائمة المرددين الببغاويين، الذين يحيقون بالهوى التلبسي والغرام الكفيف المسوق.