رغم أن الشعب الفلسطيني يعلم ومن خلال تجارب سابقة أن الانتخابات لوحدها لن تحل المشاكل المتراكمة، سواء الداخلية أو مع الاحتلال، إن لم تكن جزءاً من عملية شاملة لإعادة بناء النظام السياسي ليصبح أكثر قدرة على مواجهة الاحتلال- وقد رأى الفلسطينيون كيف أن الانتخابات في أكثر من بلد عربي كلبنان والعراق لم تحل مشاكل البلد- ومع تلمسه ما أدى إليه الصراع على السلطة من تغيير طبيعة الصراع من صراع الكل الفلسطيني ضد الاحتلال إلى صراع داخلي على سلطة وحكومة في ظل الاحتلال، وبالرغم من الشكوك في أن تحريك موضوع الانتخابات قد يعود لرغبة أمريكية ودولية تمهيداً لتسوية قادمة تحتاج لعنوان فلسطيني مُنتخب، إلا أن الانتخابات أصبحت مطلباً شعبياً، عسى ولعل أن تشكل طوق نجاة وتحرك المياه الراكدة وتُحدث تغييراً يفتح باب الأمل. إن توق ونشدان الشعب الفلسطيني للانتخابات ليس ترفاً ديمقراطياً أو يندرج في سياق آلية روتينية لممارسة السلطة في إطار قوانين جارية محل توافق ورضى الجميع، أو تعبيراً عن إرادة شعبية خالصة تجسد استقلالية القرار الوطني وسيادة الأمة.. الخ؛ كما أن الشعب يعرف أن مخرجات الانتخابات ستُلزم الفائزين بالتعامل مع واقع الاحتلال وشروط الجهات المانحة لأنها انتخابات لمجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي ولرئيس سلطة الحكم الذاتي؛ ناهيك عن أنه ومن خلال الممارسة فإن الأشخاص الذين سيفوزون بالانتخابات التشريعية ويشكلوا الأغلبية في المجلس لن يكونوا بالضرورة الحكام الفعليين للبلد . إذن، بعد عشرة سنوات من المراهنة دون نتيجة على نجاح حوارات المصالحة والتوافق على أسس ومرتكزات وثوابت النظام السياسي والمشروع الوطني، بل تكرس الانقسام خلال هذه السنوات، لم يَعُد أمام الشعب المتواجد داخل الضفة وغزة إلا المراهنة على الانتخابات ولو كانت مغامرة سياسية؛ وذلك للأسباب التالية: 1- لأنه توجد سلطة فلسطينية، والسلطة في جميع الحالات تحتاج إلى نخبة حاكمة ومسيِرة. ولا يبدو في القريب مؤشرات أن السلطة ستزول، فقد لاحظنا كيف تم إنعاش السلطة الوطنية مالياً بقدرة قادر بعدما شارفت على الإفلاس وكَثرُت التكهنات حول سقوطها. الأمر نفسه جري مع سلطة حركة حماس في غزة التي كانت على وشك السقوط بعد سقوط أو إسقاط حكم الإخوان في مصر 2013 وفشل الحركة في إدارة غزة، ليتم مد يد الإنقاذ لها من جهات متعددة، ولم تَعُد تستمد قوة بقائها من التفاف الشعب حولها، بل لأنها تؤدي دوراً وظيفياً وأطراف متعددة تريد استمرارها حتى يستمر الانقسام . 2- لأن الطبقة السياسية في مناطق السلطة مأزومة ووصلت في خياراتها إلى طريق مسدود، سواء تعلق الأمر بمشروع السلام الفلسطيني الذي يراهن على المفاوضات والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية والمؤتمرات الدولية الخ، أو مشروع المقاومة المسلحة.. وحتى المقاومة السلمية كمسيرات العودة وكسر الحصار وصلت إلى طريق مسدود. 3- لأنه يوجد انقسام في طريقه ليتحول إلى فصل نهائي بين غزة والضفة، ومشاريع تسوية قادمة ستؤسَس على واقع الفصل. 4- لأنه يوجد صراع على السلطة سواء في غزة أو الضفة وصراع على تمثيل الشعب وصراع على الاستحواذ على ما تتيحه السلطة من منافع وامتيازات. 5- لأن الشعب يبحث عن طريقة للتخلص من عجز الطبقة السياسية في الضفة وغزة دون أن يضطر إلى تمرد أو ثورة داخلية قد تؤدي إلى حرب أهلية يستفيد منها الاحتلال. 6- لأن بقاء الأمور على حالها لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور على كافة الصُعد، ومنح إسرائيل مزيد من الوقت لاستكمال مخططها الاستيطاني. 7- لأن الأمور الحياتية المعيشية لم تعد تُطاق، وخصوصاً في قطاع غزة. ومن هنا نلمس أن المسألة الانتخابية مُثارة أكثر وتشغل الشارع في القطاع أكثر مما هو الحال عند أهلنا في الضفة الغربية وبقية أماكن تواجد الشعب الفلسطيني. لا نريد إثارة الإحباط أو التهويل والتخويف من الانتخابات، بل وضع الشعب أمام الواقع وأهمية الاستعداد للأمر قبل الإقدام عليه لأن الحالة الفلسطينية لا تقبل مزيداً من المغامرات. وبصراحة فإن الشعب يريد الانتخابات ليس لأنه يريد تداول السلطة بين نفس الحزبين المُجربين – حماس وفتح- أو أن تحل حماس بدلا من فتح في الضفة وتحل فتح محل حماس في غزة، بل لإنهاء المحاصصة الجغرافية بين الحزبين وتجديد الطبقة السياسية كلها وتجاوز الأحزاب التي رغم مسايرتها اللفظية لمطلب الجماهير إلا أنها تتهرب من استحقاق انتخابي سيكشف عوراتها وحجمها الحقيقي، وقد ينزع منها سلطة عاشت في نعيمها لسنوات. إن لم يحدث التجديد والإزاحة للطبقة السياسية، وإن انساق الشعب واستسلم لثنائية فتح وحماس، فإنه سيرتكب جريمة في حق نفسه وفي حق القضية الوطنية. الانتخابات التي لا تُجدد الطبقة السياسية والبرامج السياسية هي انتخابات شكلية ستُعيد إنتاج الأزمة وستشرعن أحزاباً وشخصيات تمت تجربتها، وبان فشلها وعجزها وفساد بعضها، وهنا تقع المسؤولية على الشعب أن يُنتج قيادات جديدة ونخبا سياسية جديدة. وإن كانت الأحزاب القائمة صادقة في انتمائها الوطني، وإن كانت حريصة على البقاء في المشهد السياسي، فعليها أن تلتقي سوياً وسط الطريق في إطار برنامج وطني وأن تساعد على تجديد النخب السياسية من خلال دعم شخصيات جديدة وطنية ومستقلة وغير ملوثة، أو على الأقل لا تقف عقبة أمامها وتتآمر عليها. [email protected]