! لم أعد أذكر إن كانت تلك لحظات حلم أم يقظة طافت بمخيلتي حول جنباتٍ من شوارع العاصمة الرباط ونحن نجول دون إحراج أو تكليف. حينها كان يلازمني شعور بالرغبة في أن أعاتبك عتابا دون ملامة، وأن أسألك سؤالا دون إلزام. كنتَ قد أشرتَ لي بكلّ فخر واعتزاز إلى نقاوة شارع النخيل وجماليته، وما كِدتَ لتُتمّ كلامك حتّى خانتني عفويتي لأذكّرك دون هوادة بالحال البئيس والوضع الاجتماعي المزري لحيّي المعاضيد والتقدّم المجاورين للشارع بقليل من الكيلومترات. وتلك لحظة أدركنا خلالها نحن-معاليكم والعبد الضعيف-أنه لا جدوى من الخوض في هذا النوع من النقاش، خصوصا إذا ما كنّا نسعى إلى أن ننعم بجلسة مسائية مريحة على رشفات فنجانَي "قهوة عربية" من على سطح أحد الفنادق في الشارع نفسه. لكن سيدي! كيف لي ولكم أن نتشارك الحديث دون الخوض في جديد السياسة وما يربط ذلك من مواضيع الساعة. كنتم حينها معالي الوزير شديد الذكاء، ولكي تُخرجني من مسار الأسئلة المُحرجة، استبقتَ الفكرة وطلبتَ رأيي حول معايير الكفاءة في قيادة الإدارة ومهنية التسيير! سؤال تطلّب منّي التأمّل لهُنيهات مُصوّبا نظري حول فنجان قهوتي لأخذ رشفتين متتاليتين وأُعيد الفنجان في غاية من المهل إلى مكانه كي أجيبك بعدها بصوت خافت هادئ إلى حدّ ما قائلا: "إن سؤالك في غاية الأهمية سيدي". كانت نظراتك توحي إليّ برغبتك الأكيدة في الخوض في الموضوع وجعل تحليل مصطلح الكفاءة عنوان لجلستنا تلك. استأنفتُ الحديث مشيرا إلى أن مصطلح الكفاءة تشمله تعاريف ومعاني دلالاتها تهم جوانب المعرفة والمهارة ومدى المهنية في مجال ما، خصوصا على مستوى ممارسة عمل ما، أو على مستوى المسؤولية على الممارسة، مع العلم أنّ ضمان استمرارية المعرفة وتطويرها رهين بجودة التعليم بصفة عامّة وكذا بقدرة الجامعات والمعاهد على خلق المهارات اللازمة كمُعطى أساسيّ للنهوض بالتنمية الاجتماعية البشرية ولمواجهة تحدّيات اقتصاد مُعولَم ومواكبة تحولات ديمقراطية قوامها الفكر والمعرفة على وجه الخصوص. قاطعني معالي الوزير وطرح سؤالا يهمّ وصف الكفاءة أو الشخص الكفء. فإذا بي أرتجل في الكلام لكن سرعان ما أخذت في انتقاء الكلمات لأُشير إلى أن الشخص الكفء (أو الكفاءة) يشمل المعرفة والممارسة والمهارة؛ حيث المهارة تستوجب على الأقلّ حدّا أدنى من المعرفة والمؤهلات حسب مجال العمل المطلوب، مع ضرورة استمرارية تطوير هذه المؤهلات خلال الممارسة دون تحديد سقف نهائي لمعيار الكفاءة. كما يشترط في الكفاءة القدرة على وصف المهمة أو العمل الواجب القيام به، بذلك يصبح العمل مرئيا ويشهد لصاحبه بالأهلية والاستحقاق. كنت قد توقفت عن الكلام لِبُرهة أنتظر تعقيب معالي الوزير، لكن نظراته وعينيه على عينيَّ ظلّتا ثابتتين وشفتيه تتراقصان بنصف ابتسامة وكأنها تطلب منّي الاسترسال في الحديث مجدّدا؛ فارتأيت أن أركز أكثر على جانب الكفاءة في فنّ الإدارة والتسيير إذا ما أردنا ربط ذلك بالخصاص والأعطاب التي يعرفها التدبير الإداري في البلاد، خصوصا بعد الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى ال20 لتربعه على العرش والذي دعا فيه إلى ضرورة إشراك الكفاءة في مختلف مناصب المسؤولية الحكومية والإدارية للوقوف على مشاريع المرحلة الجديدة، وكذلك كنخب قادرة على النهوض بالتنمية البشرية وتطوير تدبير القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم وتشجيع خلق مناصب الشغل. إذا، نظرات السيد الوزير كانت كافية لأجيبه بصوت فيه نبرة من الحدّة، وأذكّره بأن المرحلة اليوم تتطلّب نُخبا تعي جيدا المفهوم الحقيقي للإدارة، وتُدرك أسس التسيير والتدبير الناجحَين. على هذا الأساس نرى أنه من الضروري الاستناد إلى معايير محددة في اختيار الكفاءة في المجال الإداري، نذكر منها: أولا: الإدراك الجيّد لمفهوم الإدارة إن إدراك الشخص لوصف عمله هو إشارة إلى أهلية الشخص نفسه. ومفهوم الإدارة هنا يشمل القيام بوظائف محدّدة من أجل تحقيق هدف أو أهداف محددة تمّ التخطيط لها مسبقا. أهداف ووظائف وجب على المدير الكفء معرفتها وفهمها بشكل جيّد مع القدرة على التنظيم والقيادة وتوجيهه لأعضاء التسيير ومنه للعاملين، وذلك باتباع أنجع الطرق وبأقلّ تكلُفة. والقائد أو المدير الكفء هو من يملك القدرة على توجيه فريق عمله إلى تحديد الأهداف ودراستها وتقييم ظروف قابلية تحقيقها مع الأخذ بعين الاعتبار كلّ العوامل التي من شأنها أن تؤثر سلبا أو إيجابا على تحقيق هذا الهدف. ولعلّ أهم عامل إيجابي يمكنه الإسهام في إنجاح أي هدف أو مشروع هو قدرة المدير على تشجيع فريق عمله عن طريق توفير ظروف حرية التمييز والإبداع والاستقلالية في طرح الأفكار والمقترحات مع مراعاة رقابة الانضباط والنزاهة في العمل. ثانيا: الخبرة المُكتسبة ما من قائد أو مدير ناجح في وظيفته إلاّ وكان جامعا لخبرات مهنية ومهارات بمثابة سندٍ متين يضمن له القدرة على مواجهة التحديات الوظيفية ورصد آليات بلوغ الهدف. ولعلّ تحلّي القائد بمهنية التعامل داخل الإدارة أيّا كان نوعها يظل قائما كشرط أساسي لترك الانطباع الإيجابي اللاّزم والفوز بحظ القَبول من طرف جميع زملائه ومنه التمكن من بناء جسر الثقة بين هذا القائد ومن حوله داخل الإدارة. ونستدرج في هذا الإطار مهارة إسناد الواجبات والمهام، والقدرة على توجيه فريق العمل، وإخماد التوترات عند الخلاف وإنصاف أهل الحق. أمّا قابلية التعاون والقدرة على الإصغاء وكذا ميزة مهارة التقديم وعرض المواضيع كلّها مُكتسبات مهنية تشهد لأهلية القائد الإداري ولكفاءته. ثالثا: المكسب المعرفي والفكري مكسب يتمثل في ما جناه المتعلّم من علم وتكوين أكاديمي على أساسه يتم التعامل مع المواضيع المطروحة والتحديات الشائكة، وذلك باعتماد التحليل العلمي وتجميع حصيلة النتائج والفرز بينها بهدف اختيار الحلّ الأمثل وبأقلّ تكاليف. وتلك واحدة من الأسباب التي تستوجب أهمية الحفاظ على التعبئة الفكرية وعلى إيجاد قاعدة نخبة تحتضن هذا الفكر من أجل الخوض في إحداث بنية متراصة لثورة فكرية بأدوات وميكانزمات تساير تطورات الأحداث، وتشمل كل شرائح المجتمع لنشر التوعية والقيام بالتوجيه في الاتجاه الصحيح. رابعا: مكسب مهنية التسيير ومهارة الإدارة القدرة على ترتيب الأفكار بعد تجميعها وتنقية الأولويات والحسم في النتائج تعتبر شرطا أساسيا وجزء لا يتجزأ من وظائف الإدارة والتسيير. كما أن ميزة التنسيق بين الزمن المحدد لعمل أو مشروع ما والواردات البشرية وبرنامج إتمام العمل لا يمكنها أن تفضي إلاّ إلى بلوغ الهدف بنتائج مقنعة ومرضية لجميع المعنيين. وختاما، فكل تلك المهارات المذكورة أعلاه لا يمكنها أن تتحقق إن لم يكن الشخص الكفء له قناعات ومبادئ مبنية على النزاهة والتفاني في العمل وحب المُكلّف للوظيفة المسندة إليه. أتمنى لمعالي الوزير التوفيق، كما أتمنى له أن يكون مُدركا جيدا لأهمية المعرفة والفكر والأهلية والمهارة والإبداع ودور ذلك كله في إدراك الأهداف. وما أحوج مؤسسته لتسييرٍ وتدبيرٍ عمادهما التجربة المهنية والكفاءة الأكاديمية. *أكاديمي خبير مقيم بألمانيا