مقدمة: بدأت بيانات أكتوبر السنوية المتعقبة للتلاعب بنتائج الامتحانات المهنية في مغرب الألفية الثالثة بعد الميلاد مع إعلان نتائج أول امتحان مهني فتح في وجه أساتذة عهد استقلال المغرب للترقي للسلم 11 في شهر أكتوبر سنة 2004 تحت عنوان “نتائج امتحانات بنكهة كوطا الانتخابات” ثم تلاه البيان الثاني في أكتوبر من السنة الموالية، 2005، مطالبا ب”المصداقية أو لا شيء” ثم أعقبه البيان الثالث في السنة الثالثة، 2006، متعقبا “تاريخ التلاعب بنتائج الامتحانات المهنية في المغرب” ثم بيان أكتوبر السنوي الرابع سنة 2007 مركزا عدسته على “ملف التعليم وملفات هيأة الإنصاف والمصالحة“ثم بيان أكتوبر السنوي الخامس الراهن... الشهادات الأكاديمية ومحك إرادة تطوير التعليم الوطني: مند مطلع الاستقلال، تعاقب على التدريس في المدرسة المغربية أجيال متباينة من رجال التعليم من حيث المستوى العلمي والثقافي. ففي الخمسينيات من القرن الماضي كان باب التعليم مفتوح للمتطوعين والمتعلمين من المواطنين؛ وفي الستينيات من القرن العشرين، سُنَتِ الشهادة الابتدائية كشرط ضروري لولوج عالم التعليم؛ وفي منتصف السبعينيات (75/74)أ استبدلت الشهادة الابتدائية بالشهادة الإعدادية؛ وفي بداية الثمانينيات (80/81) أعلنت الشهادة الثانوية، الباكالوريا، شهادة ملزمة لكل مترشح راغب في ولوج عالم التربية في البلاد؛ وفي منتصف الثمانينيات (86/87) اعتبرت شهادة الإجازة الجامعية شهادة وحيدة لدخول قطاع التعليم بالمغرب؛ أما في بداية التسعينيات (91/92) فقد وقعت الردة وتمت العودة إلى الشهادة الثانوية، الباكالوريا؛ من جديد؛ وفي بداية الألفية الثالثة، اعتبرت شهادة الدراسة الجامعية العامة DEUG شهادة بديلة لدخول سلك التعليم في المغرب... التدبدب الإداري في التعامل مع الشهادة كشرط لاختيار المترشح لمهنة التعليم أولا وكمؤشر لإرادة الرفع من مستوى التعليم ميزة ثابتة وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الأهم في التعليم لا يتحقق عبر “كفاءة المدرسين” وإنما عبر “أقدمية المتعلم في المدرسة“... إنه منطق “الصنعة” الدي ينضج فيها “المتعلم/الصنايعي” مع الزمن، وهو ما يسمى في المعجم الإداري التعليمي ب“الترقية بالأقدمية”. الأقدمية والكفاءة: يخضع رجال التعليم في تقييم عملهم من طرف المؤطر التربوي لنظام تنقيط صارم: “سلم التنقيط لرجال التعليم“. وهدا النظام التنقيطي يرقي الأساتذة بنقطة الامتياز أو يعرضهم للمجلس التأديبي بغيرها. لكن نقطة “الامتياز” هده لا تدل على الكفاءة أو النبوغ بل هي وجه آخر من أوجه “الترقية والترقي بالأقدمية” التي تكتسح التعليم المغربي من أقصاه إلى أقصاه. ف”نقطة امتياز” لأستاذ في سنته الأولى بمهنة التعليم تعادل 13/20 ولو كان هدا الأستاذ هو “كزافيي روجييه” Xavier Roegiers مبدع “بيداغوجيا التكيف“، Une pédagogie de l'intégration ... أما نقطة 20/20 ، التي تبقى أعلى النقط الممنوحة على طول المشوار التعليمي، فلا تعادل نبوغ الأستاذ الحاصل عليها وإنما تعادل أقدميته لحظة زيارة “المفتش” له. وهدا ليس سرا يراد به غير دلك، فالأساتذة يعرفون مسبقا النقطة التي سيحصلون عليها “قبل زيارة المفتش، من خلال حساب أقدميتهم في السلم والرتبة مع تغييب مطلق لعنصر التثقف والتكوين والمواكبة للمستجدات التربوية... أين محل الكفاءة في التعليم المغربي من الإعراب؟ إن العقلية المسيرة للإدارة التعليمية في البلاد تثق في القديم أكثر مما تثق في الكفء، على خلفية ثنائية “أهل الثقة“و”أهل الخبرة“... أهل الثقة وأهل الخبرة: “أهل الثقة” هم أفراد الأسرة الصغيرة أو العائلة الممتدة. إنهم أبناء القبيلة وأصدقاء الطفولة والأقارب والأحباب والجيران والمعارف ممن تتميز العلاقة البينية بينهم بالقرب الشديد. أما “أهل الخبرة” فهم خريجو الجامعات والمعاهد ومراكز التكوين من دوي الاختصاص والعلمية حيث ترتقي العلاقة البينية بينهم من الطور العاطفي إلى الطور المؤسسي. سياسة توظيف “أهل الثقة” هي سياسة ارتبطت ببدايات تكوين الدولة وتكونها مع هاجس الحاجة للحراس مع خوف ظاهر من “الآخر“، الدخيل غير المتعاون الخائن العميل المعرقل... أما توظيف “أهل الخبرة” فتبقى سياسة ترتبط بالمؤسسية والتنمية وسلطة الكفاءة ودولة الحق والقانون والديمقراطية... لدلك، كان “أهل الثقة” يدخلون عالم الشغل من بابه الضيق ويرقون على إيقاع الفصول الأربعة للسنة الواحدة... بينما أهل الخبرة يعتصمون أمام البرلمان من أجل انتزاع “الحق في الشغل” ويهددون ب”الانتحار الجماعي” أمام “مجلس الأمة” أو “برلمان الشعب” أو غير دلك من التسميات التي تبحث عن مسمى... “أهل الثقة” الجدد في المغرب يؤرخون لميلادهم بسنة التناوب والتوافق عام 1998. ولأن التشغيل في قطاع التعليم شبه موقف في المغرب، فإن تجديد الثقة فيهم يتم عبر “الترقية“، خاصة “الترقية بالامتحان” لأن إمكانية المتابعة والتشكيك تبقى فردية ما دام الاطلاع على أوراق الامتحانات جميعها من قبل المحتجين أو المراقبين يبقى ضربا من المستحيل... الكفاءة والترقية: قبيل إجراء أول امتحان مهني للترقي للسلم 11 في المغرب في 18 دجنبر 2003، حاولت إحدى النقابات في المدينة التي تصدر منها هده البيانات مغالطة المتبارين المحتملين من الشغيلة التعليمية وتنويم الحذرين منهم بإعداد “أوراش” أريد لها تحويل الانتباه إلى أهداف تنويمية ك”المراجعة والحفظ والاستظهار” داخل مقر النقابة استعدادا للامتحان المهني الأول من نوعه في تاريخ المغرب في “تمثيلية مفضوحة” اكتملت حلقاتها بتعليق شخصيات المسرحية “جميعها” ضمن لائحة “المنعم عليهم بالنجاح والترقي“. وبعد صدور أول بيان أكتوبري عام 2004، لم تتكرر “المسرحية المفضوحة” لا داخل النقابة ولا خارجها: أولا، لأن الهدف تحقق وهو “تهجير المناضلين سريا نحو السلالم العليا”، وثانيا للتفرغ لمطاردة البيانات الأكتوبرية التي حرمت عليهم غنائمهم ووزعت خدعهم في مناشير على القريب والبعيد... التباري المفترى عليه: النكتة العامية تتندر بأشكال المباريات في بعض القطاعات الخدماتية العمومية: فالذي يقدم أجوبة جادة وتحليلا معمقا يصفى نهائيا من الامتحان في أطواره الكتابية الأولى، أما من لا يفهم ولا يعرف لا من أين يبدأ ولا من أين يخرج يقبل بالأحضان... الذي يضحك على هده النكتة يخفي وراءه قناعة بان “القاعدة هي الكفاءة والنزاهة ومبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب” وأن هده النكتة تستمد طرافتها من “قلب” المعطيات و“قلب” العالم بهدف “قلب” المزاج وإنتاج المرح... لكن الذي يضحك على هده النكتة بهده القناعة ومن هدا المنظور، يجد نفسه قد التحق على حين غرة بشخوص النكتة ذاتها وأصبح “مسخرة” في عيون غيره ممن يصنعون النكث والأحداث والقناعات للأقزام مثله... قبل أن يفهم ويرى رأي العين بان القاعدة هي النكتة التي أضحكته وان الاستثناء هو المطلب الاجتماعي العام: “الرجل المناسب في المكان المناسب”... لقد صارتالترقية بالاختيار “هبة خاصة بالأهالي والزبناء” ولدلك فقد فاق عدد “المهربين” من خلالها تحت يافطة “الامتحان المهني” عدد الكوطا المحددة له على حساب المناصب المخصصة للمترقين عبر البوابة الثاني: “بوابة الأقدمية“.. سلطة “الأقدمية” في التسيير الإداري المغربي: حيثما وليت وجهك فثمة “الأقدمية” النقطة التي يفترض أن تكافئ الأستاذ الكفء لا تكافئ غير الأستاذ المتقادم للأسباب التالية: السبب الأول يتجلى عند الوقوف على الدعامات الثلاثة المكونة لنقطة “الكفاءة” وهي : المواظبة والسلوك والمردودية... السبب الثاني، الأقدمية العامة هي المحدد الرئيس للنقطة المفترض أن تدل على الكفاءة: فلا يستوي عند التنقيط الأستاذ الكفء الحديث العهد بالتدريس بالأستاذ القديم المفرط في الأقدمية، حتى ولو كان هدا الأستاذ الحديث العهد بالتدريس هو جان بياجي Jean Piaget. السبب الثالث، محنة الشهادة التي لم تكن في يوم من الأيام مطلبا نقابيا كما لم تكن الامتحانات المهنية والزيادة في التعويضات أو المساهمة في الرقي بالتربية مطلبا نقابيا. المطالب التقابية كانت تعبر دوما عن ضحالة فكر ” نخبتها“: الزيادة في الأجور ورفع الكوطا لمرور “الأقدمين“... ما بين الترقية بالامتحان والترقية بالأقدمية: الترقية بالامتحان، رغم الدلالة السطحية التي قد تعتريها، فهي رافد من روافد الترقية المضادة لكل الأعراف الإنسانية في كل دول العالم: فلا كفاءة ولا امتحان ولا مهنية ولا تصحيح أوراق الامتحان ولا هم يحزنون... الترقية بالأقدمية تعرف شفافية “نسبية” في العرض والاختيار مقارنة مع الترقية بالامتحان المهني. فالنقط المحصل عليها تعرض بالتفصيل وبكل شفافية على الإنترنت: النقطة الإدارية (مدير المؤسسة، نائب الوزير على الإقليم، مدير الأكاديمية)، نقطة الأقدمية العامة في الخدمة، نقطة الأقدمية في السلم الراهن. تعرض النتائج مبررة ومرتبة من أعلى نقطة إلى آخر نقطة... حسب ما تسمح به الكوطا. لكن السؤال المدهش حقا والمثير للاسغراب يبقى: لمادا تخرج الترقية بالامتحان المهني عن هده الصرامة وعن هده الشفافية؟ كوطا الترقية بالأقدمية وصمت النقابات: لقد أظهرت الوزارة الوصية عدم قدرتها على احترام التزامها إزاء نسبة 11* الخاصة بالترقي بالأقدمية و11* الخاصة بالترقي بالامتحانات المهنية من أصل 22* من مجموع الكوطا المخصصة للترقية إلى السلم 11. فقد بلغت الحصة المخصصة لامتحان الترقي لسلم 11 لسنة 2007 سبعة في المائة فقط 7* بدل الحصة الأصلية 11*. وهو ما يطرح باستغراب السؤال التالي: لمادا هدا الانتصار للكفة الثانية، كفة الامتحان المهني الذي لا تصحح أوراقه ولا يتصف بأي شكل من أشكال المصداقية أو الشرعية أو الشفافية لدى عموم الشغيلة التعليمية؟ لمادا في الوقت الذي تتصف فيه الترقية بالأقدمية بالشفافية والوضوح “تقلص” حصتها بينما تكتسح الترقية بالامتحانات المشبوهة مزيدا من المناصب مضاعفة حصتها على حساب قدماء الأساتذة المنتظرين في الطوابير الطويلة الممتدة على مدى السنين الطويلة؟ هل لان الأقدمين ألفوا الانتظار وتملكتهم الانتظارية أم لأن استشراء “الغموض” صار فلسفة في التسيير الإداري الجديد لقطاع التعليم بالمغرب؟ الترقية بالأقدمية والنقطة الإدارية للترقي للسلم الموالي: التشريع الإداري يمنح لكل موظف قضى 15 سنة في الخدمة الفعلية منها 10 سنوات في السلم الحالي الحق في الترقي للسلم الموالي. لكن الكوطا تتدخل لترعى “فلسفة الانتظار” فتراكم من سنة إلى أخرى أعدادا من “المنتظرين” أو المتقادمين ... الحقيقة أن الكوطا وتقنية التنقيط ليسا أكثر من أداة لصرف الانتباه عن الأهم وهو الحق في الترقية “الفورية” للسلم الموالي مباشرة بعد استكمال الشروط وتلقي المستحقات المالية في الآن داته. أحد الأساتذة، لجهله بالفلسفة العامة للترقية بالاختيار، حاول، باستعمال السلاح الأبيض ، قتل مدير مؤسسته في شهر يناير 2008 إيمانا منه بان المدير هو السبب في عدم ترقيته وهو لا يدري أن السبب هو “ظلم الكوطا” و”ظلم من لا يلتزم بالكوطا“... إن أزمة الأساتذة هي “أزمة رؤية شمولية“. إن رؤيتهم لقضيتهم هي رؤية “مدرسية” ضيقة لا تتجاوز سقف القسم الدي يشتغلون بين جدرانه. إنهم لا يستطيعون توسيع رؤيتهم لقضيتهم ولا أدل على دلك من عجزهم على توحيد نقاباتهم المهنية التي تعدى عددها حاجز “الثلاثين“ إطارا حصرت كل مبررات وجوده في الدعوة إلى الإضراب في الأشهر القليلة السابقة لإجراء الانتخابات التشريعية أو الجماعية... وضعية الأستاذ: من مفهوم “المثقف” إلى مفهوم “الموظف” يحلو للبعض أن يرسم للأستاذ صورة خيالية ل”مثقف” الماضي الذي “مُسِخَ” في الزمن الحاضر إلى مجرد “موظف“. الحقيقة، أن الأستاذ لم يكن في يوم من الأيام “مثقفا” ولا توقعت منه المدرسة أن يكون “مثقفا” ولا تكَوَنَ في مراكز التكوين ليتخرج “مثقفا” ولا نال دبلوما ليكون “مثقفا“... إن إنتاج المثقف ليس أولوية المدارس والمعاهد ومراكز التكوين. الأولوية الحقيقية للمدارس والمعاهد ومراكز التكوين هي تخريج “الموظف” (في حالة الجامعات والمعاهد) أو “العامل” (في حالة التكوين المهني). أما الثقافة، فوفاء لطبيعتها المتوحشة، لا يمكنها النمو والتفتح إلا في الفضاءات الحرة كفضاءات العزلة أو إطارات المجتمع المدني... أما التسليم بأن مُمْتهِن التعليم هو بالضرورة “مثقف” فهو يشبه إلى حد بعيد سذاجة الإيمان بأن موظف مكتب الضبط في وزارة الثقافة هو أيضا مثقف، والكتبي مثقف، وصاحب المطبعة مثقف، وموزع الكتب مثقف، ومتصفح الجرائد مثقف... الأستاذ “موظف” في مؤسسة تعليمية يخضع بين أسوارها لشروط قارة ومراقبة دورية قد تشتد وتقسو فتتغلب كفة الواجبات على كفة الحقوق كما قد تغيب وتتلاشى فتعم الفوضى المكان وتدمر الإنسان... هده الرؤية العارية للأستاذ المغربي، النواة الصلبة للعمل النقابي، قد تساعد في فهم “أزمة العمل النقابي الراهن” وتعقب مكامن خلله. أزمة العمل النقابي: تدرج القوى الفاعلة من المناضلين إلى الأعضاء إلى المنخرطين يمكن التمييز بين ثلاث وجوه داخل كل تنظيم نقابي: المنخرط والعضو والمناضل. المنخرط: يسجل اسمه في القائمة، يؤدي ثمن بطاقة العضوية وينسحب للخلف. العضو: يُفعَل انخراطه ويسجل حضوره، يفصل الشعار عن الممارسة، يرفع الشعارات ويميز بين مصلحتين: مصلحة منظمته النقابية ومصلحته الشخصية. المناضل: يوحد الشعار بالممارسة، يعطي ويضحي ولا يفصل بين حدود مصلحته وحدود مصلحة النقابة، إشعاع، تجديد، غيرة... التطور الطبيعي لهده الوجوه إنضاجا لتجربة الفعل النقابي هو “التطور“ من المنخرط إلى العضو إلى المناضل. لكن أن يحدث العكس فيمسخ المناضل إلى مجرد عضو ثم إلى مجرد منخرط فهده هي الكارثة. العمل النقابي: الوظيفة الحاضرة والوظائف الغابرة بعد سنة إعلان “التوافق“، سنة 1998، صار العمل النقابي شكلا من أشكال “تجميد الفكر” وأداة من أدوات “ضبط الخطاب العام“. كما انحصرت مهمة العمل النقابي في “التحاقات الأزواج” بعضهم ببعض، و”الانتقالات“، و”الانتخابات“... فبالرغم من أن عمر العمل النقابي في المغرب يزيد عن الستين عاما، وبالرغم من جحافل المنخرطين من الأطر التعليمية في العمل النقابي، لم تستطع أي نقابة مغربية من النقابات الثلاثين أن تفرض نفسها كقوة اقتراحيه في “الشأن التربوي” وتضغط لتوصل قراراتها التربوية والإدارية كما تضغط في “الملف الاجتماعي“؟ أليس للنقابة، ما عدا تظاهرة فاتح ماي، دور في تنشيط الندوات والمحاضرات والمناظرات والموائد المستديرة في حدود اختصاصاتها واختصاصات أطرها التعليمية؟ لمن تترك النقابات أمور تقرير “الاختيارات التربوية” التي ينفذها منخرطوها من رجال ونساء التعليم؟ عشرية “التوافق” والعمل النقابي المفترى عليه: “اقتصاد النضال” الحقيقة أن الوهن الذي أدرك الجسد النقابي أدرك المخيلة والوجدان النقابي أيضا. فلم تعد النقابات قادرة حتى على إنتاج شعاراتها ومفاهيمها بل صارت تستوردها من مجالات أخرى كالأدب والرياضة وغيرهما. ولعل أغرب هده المفاهيم المستوردة هو مفهوم “اقتصاد اللغة” الشائع التداول في الأدب ويعادله في الرياضة “اقتصاد الجهد” ولكن الأمر يصبح أغرب وأمرَ حين نسمع في المجال النقابي ب “اقتصاد النضال“... لم تعد النقابات تتخذ القرارات في حينها وتعلن المعارك في وقتها وتعبئ الشغيلة على طول السنة بل صارت تتحرك على “دورات أولمبية” ، مع بداية السنة الخامسة، موعد الانتخابات الجماعية او التشريعية في حركات تسخينية استعدادا لحصد الأصوات... ولا يقتصر الأمر على “اقتصاد النضال النقابي“، بل يتعداه، سيرا على نهج الأحزاب السياسية، إلى سرقة “المطالب النقابية” وسرقة “تواريخ الوقفات الاحتجاجية” والتهافت على إعلان “نفس المطالب النقابية” و”نفس الشكل الاحتجاجي” في “نفس التاريخ بالساعة واليوم والشهر والسنة” دون تنسيق مع النقابات الأخرى، تماما كما حدث مع مطلع هده السنة، 2008. فمباشرة بعد تقرير البنك الدولي للتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لسنة 2007 الصادر في فبراير من هده السنة، 2008 المصنف للمغرب في ذيل الترتيب الدولي، شنت ثمان 8 نقابات مغربية إضرابات دون تنسيق مع بعضها من 13 فبراير إلى 21 من نفس الشهر 2008... من العمل النقابي إلى العمل المقاولاتي: تتأسس النقابات في المغرب مند فجر الاستقلال على صورة وهيكلية الشركات الاقتصادية. وربما كان لهدا التشابه التنظيمي بين المقاولة والنقابة الأثر الواضح في التحول الجاري سريانه في دم العمل النقابي الذي لم يعد يقبل ب”الخسارة” أو حتى ب”الرهان“: فقط “الربح” ومراكمة “المكتسبات” و”الحفاظ عليها“. بهده الطريقة، صار “المنخرطون” (أو “المناضلون“) “عمالا” داخل “الشركة النقابية” وفي نفس الآن “موظفين” داخل “مؤسسات عملهم اليومي“... وربما لهدا السبب، بقي المناضلون عمالا سواء داخل النقابة أو داخل الشركة، أما السياسيون فقد ترقوا ليصبحوا أرباب عمل... ما بين رجل التربية ورجل السياسة: يبدأ التقاعد عند الوزراء والبرلمانيين مباشرة بعد السنة الخامسة من دخول قبة البرلمان أو الحكومة، وهو بالمناسبة تقاعد مريح يعمر مدى الحياة وهو يعادل، عند صرفه من قبل البرلماني، راتب أستاذ مصنف في السلم 11، أما لدى الوزير فهو يعادل رواتب ستة أساتذة مصنفين في السلم 11 مجتمعين. أما الأستاذ فتقاعده رهين بوصوله سن الستين من العمر مع وجود جهود حثيثة لرفع سن التقاعد إلى أعلى من سن الستين، إلى أرذل العمر... الامتحانات المهنية ومنطق المكافآت: على مدى خمس سنوات، كانت “بيانات أكتوبر السنوية (2004-2008)” بالمرصاد لنهج التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب. ولقد فضحت هده البيانات السنوية المسخ الذي حل بقطاع التعليم المغربي بعد سنة التناوب التوافقي عام 1998 حيث صار قطاع التعليم قطاعا للمكافأة بعدما كان قطاعا للعقاب في الثمانينيات من القرن العشرين مع الخريجين الجامعيين الذين زج بهم في قطاع التعليم بعدما سدت في وجوههم أبواب كل القطاعات. لقد صار التعليم اليوم مجالا للمكافأة على عدة مستويات: - مكافأة معارضي الأمس المحسوبين اليوم “نقايبية” على خلفية فلسفة الإنصاف والمصالحة. - مكافأة قدماء الأساتذة على الانخراط وكسر مقاطعة الامتحانات التي قادتها بعض الدوائر في السنوات الأولى لانطلاقها. - مكافأة الإقليم الوحيد الذي دعم انتخابيا الحزب السياسي الوليد... كما ظهرت للسطح ظاهرة “المدينة المدللة لدى معالي الوزير” وهي مدينة تتغير عند كل ولاية جديدة. فقد بدأت الظاهرة، ظاهرة “المدينة المدللة لدى معالي الوزير“، مع “وزارة الدفاع” في الستينيات والسبعينيات، ثم انتقلت على “وزارة الداخلية” في الثمانينيات والتسعينيات، ثم انتقلت بعد سنة التناوب التوافقي إلى “وزارة التعليم” مقدمة نموذجين: النموذج الأول هو نموذج “مدينة مسقط رأس معالي الوزير“، وأما النموذج الثاني فهو نموذج “مدينة انطلاق حزب معالي الوزير” . مكافآت تلو المكافآت على طريقة سلاطين الأمس الدين كانوا يكافئون شعراء المدح والمهرجين بأكياس الدنانير الذهبية من “بيت مال المسلمين“. للكاتب محمد سعيد الريحاني