مائة برلماني دون شهادة الباكلوريا ناقشوا القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وصادقوا عليه، وعدد آخر ممن ليس لهم إلا هذه "الشهادة أو شوية أكثر" فعلوا مثلهم. فيا سيبويه ويا المتنبي ويا ابن أجروم ويا اليوسي والسوسي والأخضر غزال، كيف لا نستغيث بأرواحهم وأرواح أعلام مسلمين آخرين من فرس وترك وعرب وبربر، وكلهم كانوا مستعربين ثقافيا ولسانيا وكتابةً وتأليفا؟ وكيف لا نجهر في وجوه أولئك القوم البور بما أمر به عمر ابن الخطاب الفاروق: «تفقهوا قبل أن تسودوا». ولمن أراد من غير الأميين وأشباه المتعلمين أن يتفقهوا فعليهم بقراءة الكتب التي أحللها ضمن هذه المقالة ويضيفوا إليها ما يلي: "التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي" من تأليف الجامعيين عبد الرحمان الطيبي والحسين الإدريسي؛ وعليهم إن اتسعت صدورهم بالاطلاع على كتابي "صمود وسط الإعصار" و"بالذكاء وقوة الكلمة" للراحل عبد الله إبراهيم، وإن تكرموا أوصيتهم خيرا بكتابي "الذات بين الوجود والإيجاد"، الفائز بجائزة الشيخ زايد العالمية في الآداب لهذه السنة؛ وقد يكون لي إن شاء الله لقاء مع بعض نواب الأمة تحت قبة البرلمان أو في إحدى غرفه، ولمَ لا!... لمَ لا نحاول معا رأب الصدع بينهم وبين المثقفين العارفين؟ فلو أن السي الداودي الوزير اطلع على شيءٍ من كتابي عبد الله إبراهيم أو كتابي لأضحى خجلا مما تفوه به وسُجل عليه بأحرف غليظة ولم يكذبه، وهو: «الأدبيين [كذا!] خطر على المغرب والمجازين عالة» (الأحداث المغربية عدد 6824). فكيف لا نستبشع هذا السخف ونمجه؟ ولو أن مسؤولا في بلد ديمقراطي صرح بمثل ذلك الكلام لأعفيَ من منصبه وحزبه، وطُرد بسبب ما اتسم به من جهالة وبداوة. 1 قاموس القرن الحادي والعشرين: هو كتاب مهم لجاك أطالي J. Attali، المفكر الفرنسي الشهير والبحاثة الذي تقلب في مناصب عليا أثناء ولايتيْ فرانسوا ميتران، وكان مستشار هذا الرئيس ومن مقربيه الأوفياء الناصحين. الكتاب، الذي بين أيدينا، يمكن اعتباره عصارة تجربة المؤلف وعلمه في الاقتصاد والسياسة والفكر الإستراتيجي. رتب مواده، كما الشأن في فن القواميس، أبجديا وذهب في انتقاء المفاهيم والكلمات بحسب تصوره لما قد يكون عليه القرن الذي نحن على عتبته، واضعا في بعض الحالات 2030 و2050 كأفق لمستقبل قريب أو منظور. والقاموس، الذي يمكننا قراءته من أي مدخل نشاء، يرصد أهم تركات القرن العشرين الماضي للقرن الراهن، ويتساءل عن قدرات نخب هذا الأخير في فهم أهم قضاياه الكبرى ومعالجتها؛ ومنها مثلا: التغذية والفقر، العلاقة بالألم وبالموت، التربية والترفيه، استطاعة العلوم في زحزحة أنماط الحياة، الحروب والكوارث البيئية الممكنة، الديني والسياسي وموضعهما، الولاياتالمتحدة هل بمقدورها أن تبقى باسطة على العالم هيمنتها الجيو-سياسية؟ أوروبا، فرنسا، الإسلام، إلخ. ومن الكلمات-المفاهيم التي يركز عليها جاك أطالي نظرا لجواز بروزها في قرننا هذا كتراييق لمساوئ شتى، نذكر منها للتمثيل: الإبداع: أول نشاط يُقيَّمُ أكثر فأكثر في جميع الميادين: الفن، المقاولة، التربية، إلخ، إلى أن يصير كل واحد مبدعا لحياته الخاصة ومستطيعا الإتيان بشيء جديد للعالم./ الأزمة: إنها، كما كانت دوما، فترة انتقال بين فترتين انتقاليتين./ الثقافة: أولّ منجم لخلق الثروات، وآخر حاجز أمام التساوي العام للسلع./ الأخوة: في أرقى معانيها هي اعتراف كل إنسان بإنسانية الآخر، وأن لا يلزمه بما يتأباه هو ويرفضه... وهذا التعريف يبدو كرجع صدى لأحاديث نبوية شريفة، أوجزها: "أَحِبَّ للناس ما تحب لنفسك". 2 قاموس الكلمات الفرنسية من أصل عربي: عمل معجمي جاد للباحث والروائي الجزائري صلاح ﭼرميش، يعرض فيه الأربعمائة كلمة عربية استعملت طوال عهود وما زالت تستعمل في اللغة الفرنسية، الشفوية منها والمكتوبة، في حقول عديدة؛ منها العلمية (الفلاحة والغراسة والفلك والطب والرياضيات والصيدلة وفن الطبخ)، ومنها المتعلقة بالحياة العامة واليومية. وفي جرد تلك الكلمات (الذي يظل طبعا مفتوحا على المزيد من البحث والتنقيب)، يقدم المعجمي حصيلة معتبرة مرتبة أبجديا (صادر في 2007 عن دار لوساي الباريسية)، وينهج في عمله الشاق والممتع عرض الكلمات الفرنسية وأصولها العربية، متوقفا عند معانيها اللغوية والاصطلاحية، مدللا على تلاحمها وتطابقها من خلال الأمثلة التداولية، كما في تضاعيف كمِّ هائل من المعاجم والقواميس والنصوص الأدبية من فرانسوا رابلي (القرن ال16) إلى الروائي المعاصر ميشل هولباك... إن هذا القاموس قد أُلفت من قبله قواميس، أهمها "قاموس الكلمات من أصل شرقي" لديفيك Devic (1878)، إلا أن الذي بين أيدينا (بمقدمة الروائية الراحلة أسية جبار) يتميز عما سواه بقيمته التربوية الاستثنائية، لكونه يُظهر بالحجة المادية، عبر قصة كلماتنا العربية المسافرة، أن العلاقات العميقة والخفية بين الثقافات لا تقوم حتما بالصدام والتنابذ والتنافر بل بالتلاقح والتناسل والتمازج، كما بالتأثر والتأثير بين الشركاء اللغويين. ولمن لا معرفة له بالموضوع، فلا شك في أنه في اطلاعه على القاموس سيمر من مفاجأة إلى أخرى عندما يرى، على سبيل المثال الموجز لا الحصر، أن كلمات عربية معرَّفة بألفٍ ولام توجد بكثرة في اللغة الإسبانية وبعضها في الفرنسية (القنطرة، القصر، الكحول، المقنطرة، الحنظل، الخوارزمية، الجبر، المناخ، المدجن، الخ)؛ أو حين يكتشف أن laquais أصلها لقيط وmascarade مسخرة، وmousseline موصلي، وnaffe نفحة، وrazzia غزوة وraid غارة وtarif تعريفة، وniquer ناك، وmatemore مطمورة، وorange نارنج، وغير ذلك كثير بسعة قاموس من 878 صفحة. لكن، هناك كلمات تدعوني إلى التحفظ على أصلها العربي، منها nuque نخاع، risque رزق، trafic ترويج... ملحوظة: إضافة إلى كثرة الكلمات الإسبانية ذات الأصل العربي وعددها في القشتالية 4000 كلمة، هناك كلمات فئات من المورسكيين و"المدجنين" المسلمين كانوا يكتبون العجمية aljamiado بالأبجدية العربية. وكذلك الأمر في اللغة الألمانية، إذ تحوي كلماتٍ عربيةً جدولتها المستشرقة زيغريد هونكه في خاتمة كتابها الشيق "شمس العرب تسطع على الغرب" في الترجمة العربية، فيما العنوان الأصلي هو "شمس الله تشرق على الغرب"، فليرجع القارئ إلى ذلك الجدول (ص 552-559). 3 أجدادنا العرب لجان بروفست (Jean Pruvost) أستاذ فرنسي متخصص في المعجميات وتاريخ اللغة الفرنسية...أدار مختبر المعاجم -القواميس- المعلوميات في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، وهو مؤلف العديد من المعاجم ضمن أعمال جماعية تزيد عن خمسين مجلدا في موضوع الكلمات. وقد بدأ البحاثة تآليفه بكتابه البكر "أنا والكلمات" (1981)... أما إنتاجه الجديد فهو بهذا العنوان المدهش "أجدادنا العرب" Nos ancêtres les arabes الصادر عن دار ( J-C Lattes باريس 2017)، مقابلا به القول المأثور Nos ancêtres les Gaulois، وفيه قام بروفست بإحصاء مفسر لأربعمائة كلمة عربية ولجت اللغة الفرنسية وما زالت سارية الاستعمال حتى عهدنا هذا، في شتى صنوف الآداب والعلوم؛ وهو ما يدل بالملموس وبالسفر الثقافي على مدى تأثير الحضارة العربية طوال القرون الوسطى. وقد استشهد البحاثة اللغوي في عمله الجديد بقولة لصلاح چرميس آنف الذكر، وهي: «هناك كلمات فرنسية من أصل عربي أكثر من مرتين بل ثلاث مما في الفرنسية من كلمات گالية (gauloise)» ومن أمثلته في ذلك الكتاب (317 صفحة): sucre سكر، safran الزعفران، Le Cid السيد (عنوان مسرحية كورناي)، Zadiq صديق (رواية لڤولتر) miroir مرآة، carafe غراف، chagrin شجن، chemise قميص، malade مريض، cave كهف، couffin قفة، tasse طاسة، coton قطن، الخ. 4 قريبا من ذلك السياق اللغوي والمعجمي، لما قرأتُ كتاب "ضد الفكر الأحادي" للبحاثة اللغوي كلود أجيج Cl. Hagège، وجّه فيه نقدا صارما وفي نظري محقا إلى هيمنة اللغة الأنچلو-أمريكية، فتفوّقَ في هذا الشأن على سلفه إيتيامبل صاحب كتاب "هل تتكلمون الفرنچلي؟" من حيث دقة المعلومات عنده وسعة الثقافة الألسنية ورصانة التحليل والمحاججة. ولم يكن في وسعي، وإنْ كقارئ مهتم بالموضوع، إلا أن أساير مرافعة المؤلف ضد اكتساح اللغة الإنجليزية عالميا وفي شتى المرافق والميادين، وأن أتعاطف مع دعوته إلى مقاومة الأضرار التي تمثلها هذه الظاهرة من تنميطات في حياة الناس وطرق تفكيرهم، ومن غلبة على لغات العالم الأخرى. إنما المؤسف في الكتاب، كما شعرت، هو نهجه الأحادي في الدفاع عن اللغة الفرنسية من حيث إنها -كما يزعم- «صوت حقوق الإنسان والحرية»، منذ ثورة فرنسا في 1789-1791؛ هذا مع أنها بسياستها الفرنكوفونية سعت هي بدورها إلى فرض هيمنة ووصاية لغوية وثقافية وحتى إعلامية واقتصادية على معظم بلدان منطقة نفوذها ممثلة في مستعمراتها القديمة، خصوصا في بلدان المغرب العربي وإفريقيا الغربية والوسطى... وهنا، تكمن المفارقة الحادة، التي لم يأبه بها كلود أجيج ويفكر فيها؛ بل إنه نزع إلى الإشادة بتلك السياسة وبالمنظمة العالمية للفرنكوفونية (OIF) ، مع أنه في مرافعته ضد الفكر الأحادي وهيجمونيا اللغة الإنجليزية لم يألُ جهدا في تبريز مبدأ التنوع وتسييد الحق فيه.