كنت أتمنى لو أن الأستاذ ياسر الحراق الحسني في رده على مقالتي: [مقاربة نقدية لأطروحة شيعية] و[أنظر إلى الأصول لا إلى الفروع والقشور] ، التزم صلب الموضوع ولم ينحرف عنه إلى الخوض في قضايا ليست من صلبه، وإنما هي تبع ثانوي له. مما جعله يفهم عني ما لم أقصده، ويُقولني ما لم أقله.. وتكون النتيجة التي حاول الوصول إليها في رده الأول والثاني، اتهامي بالمغالطة والتضليل. وإنما أوتي المسكين من جهة أحد أمرين: إما من جهة قراءته الناقصة وعدم التمييز بين قضايا أدلتي الجوهرية والقضايا العارضة في السياق. فيقف عند العارض ويغفل عن الجوهر، ويستطرد في الرد بعيدا عن صلب الموضوع. وإما أن قراءته مغرضة تقصد إلى تضليل المتلقي وتغليطه بتقويل المقالة ما لم تقله بالوقوف عند قضايا تبدو وكأنها المقصد الأساس لها، والواقع بخلاف ذلك. وهذا المسلك غالبا ما يستنجد به من انقطعت حجته ولم يعد عنده ما يدافع به عن رأيه في صلب الموضوع. فأنا لم أدع أن الأطروحة الشيعية التي أنتقدها هي الدليل القوي الوحيد الذي يعتمده نظارهم.. ولم أقل بأن كتاب [معالم المدرستين] بُني على هذه الأطروحة وحدها وأنها دليله المركزي. وإنما أشرت إلى أنها طريقة استدلالية موجودة في الكتاب، وهي عندهم من الطرق المعتمدة في إقناع المخالف السني. ولا يستطيع الأستاذ ياسر ولا غيره إنكارها، لكنه يستطيع الالتفاف عليها والتستر خلف الرد على جيرانها الأقربين والأبعدين. ولم أقل: لا يجوز محاججة المخالف من داخل مذهبه،كما حاول أن يفهم الأستاذ ياسر، القاريء. كيف يصح أن أنفي ما أومن به وأستعمله. ويشهد لهذا أنني رددت في مقالتي الثانية على الأستاذ ياسر من داخل مذهبه، وذلك عند إثباتي للتقوقع الشيعي الطائفي من خلال تعريفاتهم للحديث الصحيح والحسن والموثق. أرجو أن لا يثقل الأستاذ ياسر، علي وعلى القارئ، بالشرود مرة أخرى عن صلب الموضوع، وأن يكفيني مؤنة ملاحقة استطراداته الشاردة واضطراري لإخراجه من شروده.. أرجو أن يعود إلى مقالتي ويقف عند ما انتقدته على الشيعة، وهو ادعاؤهم: ((إن مذهباً يثبت نفسه من كتب مخالفيه أحق أن يُتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )) ويقف عند انتقادي الأصولي لأسس هذا الادعاء ويبطله بالرد عليه لا بالرد على أمور لم أقلها لا بالعبارة ولا بالإشارة. فأنا ناقشت الاستدلال بالرواية الخبرية عند السنة والشيعة من جهة انفتاح السنة العادل على كل الرواة مهما كان مذهب الراوي المسلم، وتقوقع الشيعة على عدول طائفتهم.. ولم أتعرض لطريقة استدلال الشيعة بالقرآن الكريم. وتحكيمهم للقرآن في الأخبار ومدى قوة هذا التحكيم وصوابيته في هذه القضية أو تلك ..! كما لم أتعرض لكثير من الأدلة العقلية والنقلية التي يساجلون بها المذهب السني. أرجو أن يعود الأستاذ إلى مقالتي مرة أخرى ويقرأهما قراءة متأنية، سليمة من الانفعال العاطفي الحاد لمذهبه، ويحكم عقله الذي دوره عقل الأهواء وتقييدها من التلاعب بعملية التدبر والتفكير ، وسيقف على مراد القول ومقصده لا على مراد القارئ وتوهمه. وأنا هذه المرة سأستسمح القارئ لأخرج به عن سياق سجالي مع الأخ ياسر وأقف به على هامش الموضوع عند كتاب المراجعات لصاحبه عبد الحسين شرف الدين، وأطلعه على ما يطعن في مصداقية الكتاب وصاحبه وأنه لا يوثق به، لكونه ادعى أمرا كبيرا من حيث قيمته وقريبا من حيث زمن حصوله، ومع ذلك لم يبق منه ولا أبهت أثر، اللهم إلا ما بقي في خاطر عبد الحسين الموسوي. وما كنت لأستطرد هذا الاستطراد لولا كلام ياسر عنه بما يجعل حجج العالم الشيعي تغلب علما من أعلام السنة وينساق وراءها خاضعا خانعا كأنه طويلب علم وليس بعالم.. وسيظهر للقارئ تساهل الشيعة قديما وحديثا في التحديث عن غيرهم والكلام بألسنتهم والزيادة عليهم أو النقصان دون تحرج. فالموسوي صاحب المراجعات، يدعي أنه التقى شيخ الأزهر سليم البشري رحمه الله واتفق معه على أن يسعيا لسد فجوة الخلاف بين السنة والشيعة، أو تصغيرها على الأقل. واتفقا على خطة بينهما وهي كما جاءت على لسان الموسوي في مقدمة مراجعاته: ((لذلك قررنا أن يتقدم هو بالسؤال خطا عما يريد، فأقدم أنا الجواب بخطي على الشروط الصحيحة، مؤيدا بالعقل أو النقل الصحيح عند الفريقين)) . فزعم أن الشيخ البشري كاتبه والموسوي راجعه حتى تجمع هذا السفر واكتمل بضم مائة مراجعة ويزيد. والغريب أن الشيخ الموسوي يعترف أن المكاتبات لم تبق على أصلها الأول وقد اضطر لإعمال قلمه فيها كلها وخصوصا مراجعات الشيخ سليم فلم يبق عنده منها جملة واحدة على تركيبها السليمي. وهاك اعترافه: ((وأنا لا أدعي أن هذه الصحف صحف تقتصر على النصوص التي تألفت يومئذ بيننا، ولا أن شيئا من هذه المراجعات خطه غير قلمي، فإن الحوادث التي أخرت طبعها فرقت وضعها أيضا كما قلنا غير أن المحاكمات في المسائل التي جرت بيننا موجودة بين هاتين الدفتين بحذافيرها بزيادات اقتضتها الحال، ودعا إليها النصح والإرشاد، وربما جر إليها السياق على نحو لا يخل بما كان بيننا من الاتفاق.)) . وإذا تركنا الموسوي إلى بيت الشيخ سليم البشري وسألنا أبناءه وأحفاده وأغلبهم من أهل العلم الشرعي والتاريخي واللغوي هل عندكم من علم بهذه المراجعات؟ هل وجدتم أثرا لها ولو باهتا في مكتبة الشيخ؟ وقد سئلوا وأجاب عنهم بالنيابة الحفيد الشيخ الدكتور طارق عبد الحليم البشري في رسالة مطولة لأهل السنة بالبحرين، نقتطف منها ما يلي: ((ولو كان لهذا الوهم المكذوب أثر لوجده أولاده وهم تسعة أولاد، وفيهم من هو في مقام من العلم لا يُضاهى كجدي الشيخ عبد العزيز البشرى إمام العربية وجاحظ العصر، أو لوجده من بعده أحفاده، كما وجد أخوالي حسين وعبد الحميد عبد العزيز البشري مسوّدات كتاب الشيخ عبد العزيز بعد وفاته فحقّقوها وطبعوها في كتاب "قطوف"، أو الأستاذ الجليل خالنا المستشار طارق عبد الفتاح البشري الذي نشأ في منزل الشيخ سليم ونقب فيما ترك من ورائه منذ طفولته، أو من بعد أولاد أحفاده ممن اهتم بالعلم الشرعيّ ونقب فيه عما خبئ من آثار. تعاقبت الأجيال الثلاثة ولم يسمع أحد لهذا الأثر من ركزٍ، إلا من طريق من شهدت عليه أحجار الأرض بالكذب والوضع.)) . ومن أمعن النظر في نص كتاب المراجعات سيجده مشحونا بلغة عاطفية تحف ما فيه من أفكار وتحاصرها، وهو دليل على الحضور القوي لذات الموسوي مع سبق الإصرار والترصد. وهذا مخالف للأعراف العلمية في عرض الآراء المذهبية وخصوصا مذاهب المخالفين. وقد تتاح لنا فرصة تفكيك لغة المراجعات على المستويين الإقناعي والإمتاعي والتوظيف المغرض للإمتاع فيه، عوض توظيفه ليساهم في الصبر على جفاف الأفكار المجردة وترويح الخاطر بطريقة تنجلي معها المعاني كما هي في حقيقتها الذاتية والسياقية.