"دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال الوحدة الإسلامية عند السيد شرف الدين الموسوي
نشر في هسبريس يوم 22 - 11 - 2010


لماذا السيد شرف الدين؟
لا ننوي هنا الحديث عن سيرة هذا العالم والعلم العاملي تفصيلا ، بقدر ما يهمنا الوقوف على رأيه في الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب . وهي الرسالة التي آمن بها ودافع عنها دفاعا مستميتا. يدرك ذلك من تفهم أسلوب السيد شرف الدين في تدبير مشكلات الخلاف بكثير من الواقعية والوعي والمعرفة قلّ أن تجد له نظيرا في زماننا الموسوم بالهشاشة في الوعي بحقيقة الخلاف وثقافة التواصل مع المختلفين. بعض الذين عاصروه لم يفهموا أسلوبه حينما جعل التعارف طريقا للوحدة بدل أن تستند الوحدة على أساس الجهل بالآخر أو ابتزازه بالتقريب مقابل إدانته بكل معالم الصورة النمطية التاريخية التي رسمتها له ريشة مؤرخي الملل والنحل بعناية أو إرشائه بالتقريب مقابل عدم توضيح آرائك وفضح تاريخ من العبثية والتجديف ضد المختلف. ومع أن الكثير ممن يزعم هذا الزعم ويتبنّى كل عبارات وشعارات المعجم التواصلي والحواري الحديث متحدثا عن التعارف وضرورة فهم الآخر ، إلاّ أننا نلاحظ انتهاكا سافرا للمزاعم نفسها من قبل أدعياءها الشعاراتيين الذين لا زالوا يتعاطون مع الآخر بأحكام القيمة وبمنطق الحيطة والحذر والمواجهة والتعسف. هذا التعسف الذي يبدأ بمخاطبة أبناء المذهب لأنفسهم لا مخاطبة الآخر المختلف. وهكذا ينطلق قطار التعسف في فهم الآخر حيث يكون المخاطب والمخاطب (بكسر الطاء الأولى وفتح الثانية) هو صاحب المذهب نفسه. يستقوي صاحب المذهب بالظروف القمعية والمنع المضروب على أصحاب المذهب الآخر في التعبير الحرّ والكامل عن رأيه ، ليخوضوا معركة تواصل من جانب واحد وحوار غير متكافئ ، لن يفيد شيئا ما دام النتيجة معروفة مسبقا ومهما تحدث البعض عن اعتقاد زائف بحرية الإنسان وترديد الآية الكريمة التي لا يؤمن بها معظمهم ولم يرقوا إلى مداركها الحضارية :" لا إكراه في الدين" ، حيث يعتبرون ذلك منّة يمنّون بها على الإنسان فيما الإنسان خلقه الله حرّا ، فالله وحده يمنّ على الناس. وفي هذا التواصل المزعوم من طرف واحد يتم اختزال التاريخ وتنميط الآخر وخلط اليابس بالأخضر واستعمال كل الوسائل الأيديولوجية الرخيصة لوضع الآخر في موقع المتهم. تبدأ الدروس الساذجة من قبل مختلفين أحيانا يلجؤون إلى حيلة التميّز بالموضوعية ومنطق الحوار والتواصل فيعلنون عن عدم خصومتهم للآخر ويهجون طريقة المتعصبين من قبيلتهم في التكفير والتضليل والتبديع، لكنهم في مورد التفصيل يستندون إلى أولئك الخصوم أنفسهم . الناقل منفتح والمصادر معادية تكفيرية. كيف تستقيم الموضوعية مع هذه الازدواجية التي لا يحصل فيها الاستنتاج الحرّ والعلمي خارج منطق تقليد التقليد؟! ثم هل وجب دائما أن نصور الآخر بصفات تخرجه من منطق وطبيعة الإنسان حتى ندينه؟! لقد فعل ذلك بالطائفة الشيعية وغار جرحها التاريخي حتى بدت على ما هي عليه بحزن دائم ودمعة رقيقة واحتجاج طويل، كلما تعصب المختلف وغلا في سياسة الإبعاد. ألم يتحدث خصوم الشيعة عن الشيعة يوما بأن لهم أذناب البقر؟! هيمنت هذه الصورة وتربّى عليها أجيال الغلب بوقاحة غير إنسانية تسمح للعدوانية والإساءة في إسراف لا حدود له. وتزداد قناعتنا بهشاشة التواصل كلمّا تأملنا في الطريقة التي يقترحها الكثيرون للتقريب. طريقة تحمل دائما الإدانة والإساءة بصورة مخاتلة وملتوية، حيث يظل المضمون والغاية واحدة. ندين الشيعة في ضروريات مذهبهم وإذا أردنا أن نتمسرح فوق ركح التسامح أمام العالم ، ندين خصومهم في الأسلوب والأعراض التي لا تؤثر في المبنى. حينما تصبح عملية التعريف والتعرف على الآخر صناعة أو بالأحرى لعبة في يد الانتهازيين والسطحيين والباحثين عن مكتسبات في هذا الخندق أو ذاك ، فلنطبع مع النفاق عنوة و لنكتب على هذا وحدة المسلمين السلام. إن رسالة التقريب والوحدة هي رسالة ثورية صريحة وواضحة وشجاعة وغير ملتبسة. هي تقريب في الحدّ الأدنى والتخلص من الزوائد التي لا تشكل ضرورات مذهب . تقريب مذاهب إسلامية ووحدة مسلمين. فالتقريب ممكن وضروري كلما زادت فرص الانفتاح والتواصل بينما الوحدة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم واجب تكليفي. وقد لمسنا ولا زلنا نلمس أن أي محاولة يقوم بها الشيعة لشرح آرائهم تثير الريبة والخواف عند الآخر الذي يعتبرها محاولة للتشييع أو ظاهرة للتبشير وكأنهم صمموا سلفا بأن لا حق للشيعة أن يتحدثوا عن أنفسهم كما يتحدث كل أصحاب المذاهب عن أنفسهم بالكثير من الابتهاج. وهكذا لا زلنا نرى أن هناك أعطابا حقيقية في مسألة التقريب من قبل حتى أولئك الذين ينظرون إليها بخطاب مخلوط ومشوب بالتناقض والهشاشة والتهافت ، لأنه خليط من الآراء المنقولة بالجملة وحشو من الأطروحة ونقيضها ، فتارة نريد التقريب وتارة نحاكم الشيعة وحدهم ونصورهم كما لو كانوا شياطين ولا نبالي ولا حتى نستحيي من هذا الموقف الذي لا تجد له مبررا شرعيا أو أخلاقيا أو عقليا سوى الكراهية والإسراف والجهل. إن معرفة الآخر لا تأتي بأن نحيل إلى مصادره بأي طريق اتفق؛ لأن عملية الإحالة نفسها ليست اعتباطية وغير منهجية. الإحالة تقتضي اجتهادا في هذا التراث لتدرك مسيرة قرون من الآخذ والرد داخل هذا التراث. كما أن معرفة الآخر لا تأتي باحتكاكات سطحية ملؤها المجاملات. إن بيننا وبين معرفة الآخر مسافة لا يخفف منها كل هذا التمثيل في تحشيد المقالات التي تزعم معرفة بالآخر وهي تعيش على الترديد والحطابة الليلية. وقد يتساءل البعض: لماذا دائما تتهم خصوم الشيعة لأنهم يبالغون في حملتهم ضد الشيعة ولماذا لا تقول العكس، فأنت تتحيّز للشيعة ضد خصومهم؟ ولا يحتاج الجواب منّي لكثير من الإطناب. فمن جهة أولى لا أريد من هذا القول حكما أو توصيفا بل دعوة لتغيير السلوك. ومن ناحية أخرى أنا أتحدث من داخل التجربة السنية ومن داخل العالم السنّي الذي أعرفه وأنا إبنه وخبير به خبرتي نفسها بالتشيع لا تحصل أبدا لمن يكتفي بالجولات الفضولية داخل المذاهب. ولأنني أدرك أن التعصب الذي يستولي على خصوم الشيعة يربك عملية الإصلاح داخل منظومتهم ويقوّي التعصب المعكوس. علينا أن نشغل أنفسنا بإصلاح أوضاعنا الداخلية وحتما سنجد الآخر يستأنس بنا ويغير سلوكه مع الزمان. علينا أن نستدل فقط على مصداقية آرائنا لا أن نتأستذ في التعريف بالآخر الذي لا زلنا نجهل عنه كل شيء. لقد بدا لي أن خصوم الشيعة على هشاشة كبيرة حتى أنهم لم يعودوا يطيقون أي جانب إيجابي للشيعة خشية الإغراء. ولكي نحقق ذلك الذي يسمي تحصين مجتمعاتنا من الغزو الشيعي ، علينا أن نتحرك في مشروع تشويهي؛ علينا أن ننكر منهم كل فضيلة ونكذبهم في ما صدقوا فيه ونزيد ونبالغ في ذلك قدر الوسع لعلنا ننصب أحزمة أمنية ضد هذا الشيء الذي تضخّم في وجداننا وتحول إلى أبشع ضروب الخواف؛ ذلك الخواف الذي لا تخفيه حتى تلك المحاولات التي تبدو واثقة من نفسها وهي تتأستذ في نقض الآخر تحت تصفيقات حارة من المعتقدين بنحلتها. لقد لاحظت أن خصوم الشيعة يحافظون على توازنهم حتى في محاججة فلول الشرك والكفر والإلحاد ، لكنهم فقط وفقط حينما يحاجّون الشيعة يفقدون أعصابهم وأخلاقهم وفقههم ودينهم . إنّنا لم ندخل زمن التسامح ولا زلنا حتى اليوم نراوغ حتى لا يظهر توحّشنا البدائي أمام عدسة الرقيب بصورته الحقيقية المخيفة والمنفرة. فالذي ينعت مذاهب الآخرين ببرودة قلب بأنها ضالة ومنحرفة وما شابه ، يؤكد على أنه يعيش في عصور الظلام وبأنه لا يستحق أن يكون له مكان محترم في عصر يقوم على احترام الآخر وعدم التعرض بالإساءة إلى ما يدين به من اعتقاد. أمام هذه الوحشية المقنعة اليوم ، يجب أن نفهم أن لا طريق إلى التقريب سوى بالعلم والمعرفة والدليل والحوار الحرّ والأخلاقي ، وليس الترديد والتسطيح ومنح صورة كاريكاتورية وانتقائية وشوهاء للآخر الذي نريد أن نحاوره لا كما يقدم نفسه بل كما نريده نحن أن يقدم نفسه. فالتراث الإسلامي بكل وجوهه ومدارسه هو شذر مدر وخليط من الحقائق والشذوذات . وإننا إن كنا سنعكف في حجاجاتنا على انتقاء وتجميع ما كان شاذا غير معتبر في المذاهب الغير لنجعله نقطة الارتكاز ، سنكون في أسوأ وضعية للحجاج.لأنّ هذه الصناعة سهلة تنطبق على جميع المذاهب الإسلامية.
تتحقق الوحدة بعد رفع الحيف ومراجعة التاريخ وتبديد آثار الغلب والتشويه ، لتخليص الوعي من شائبة التجديف والنفوس من لوثة الاحتقان. ولذا ما أن أصدر بعضا من أعماله حتى راح البعض يشكّك في نواياه تجاه الوحدة والتقريب؛ هو الذي عاش لها ودافع عنها من موقع الجد لا من موقع الهزل. فالسيد شرف الدين الموسوي دافع عن عقيدته ورجحان مذهبه بكل وضوح وصراحة ، وأيضا بكل أدب ولياقة. وهما الصراحة والوضوح نفسهما اللذان دافع بهما عن مسألة الوحدة بين المسلمين. وهي الرسالة التي تبنّاها قولا وعملا . ارتبط إسمه بكتاب المراجعات أحد أعماله التي قدم فيها نقاشا وحوارا مع شيخ الأزهر يومها ، وانتهى إلى ترجيح مذهبه وإقرار الشيخ الأزهري بقوّة حجته. وهو الكتاب الذي يجب أن نقرؤه كعلماء لا كعوام ؛ إذ ذاك سندرك أن مغزى إقرار الشيخ سليم البشري بقوة حجة السيد شرف الدين لا يعني تبنّيها بالضرورة ، بل يعني فهمها وتفهّمها بما يؤكد على أن للقوم أدلتهم التي يعذرون بها كما تبدو منجّزة بمقطوع قناعتهم بها والاطمئنان إليها. أي بعد الذي تمّ عرضه ، أصبح الشيخ سليم على قناعة بأن هذه المدرسة هي مدرسة إسلامية بامتياز؛ لا بل يمكننا من خلال هذه المراجعات أن نفهم سرّ فتوى شيخ الأزهر شلتوت الذي أفتى بجعل المذهب الجعفري مذهبا خامسا من مذاهب السنة. وحقّا ، لا يحتاج الشيعة أن يعترف لهم الآخرون بشرعية مدرستهم وإسلاميتها، فهم يتقاسمون الجغرافيا الإسلامية مع غيرهم من مذاهب الإسلام التي ينضوي بعضها تحت إطار السنة والجماعة التي يخطئ من يعتقد أنه مذهب بقدر ما هو إطار يتسع ويضيق بمذاهبه عند الضرورة . ندرك حينها أن الأمر أعمق من مسألة مناظرة يراد منها ترجيح مذهب مقابل آخر. ونزيد تخصيبا لما عزّ على الكثيرين استيعابه من مسألة فتوى الشيخ شلتوت التي جاءت في سياق هذا النقاش الكبير بين كبراء لم تحضر بينهم العصبية وأوزارها. هكذا ذهب البعض إلى اعتبار أن فتوى الشيخ شلتوت هي غير مجمع عليها أو لعله جهل بمواقع الخلاف بين المدرستين أو لعله قصد الجانب الفقهي دون العقدي وما شابه. وكلها تآويل من استثقل شجاعة شيخ أزهري يفترض أنه مدرك لحقائق تغيب عن العامة في هذا الموضوع. فالشيخ شلتوت عالم بالمذاهب واختلافها بين المسلمين ، حيث كان شيخا للأزهر ولم يكن عالما عاديا. ثم نقاشاته واحتكاكاته بالقوم لا يرقى إليها أي احتكاك لا سيما بالمقارنة مع من يتعاطى مع مسألة الخلاف والتقريب من بعيد وبالسماع وبما يقرأ لا بما يعيشه في يوميات المختلفين. فيصبح أي حديث عن الخلاف وغيره بين المدارس من خلال هذا التطواف البارد بين المذاهب أشبه بالأحجيات منه بالوقائع. ولا يحتاج مفتي كبير مثل الشيخ شلتوت أن يتشاور مع غيره لكي يقول ما يمليه عليه ضميره العلمي ، فتلك تعلّة ساذجة لا تنتمي لمنطق الاجتهاد. فالمجتهد متسلط على فتواه. كما أن الأمر عام لا يقف عند هذا التبعيض المتعسف والمتأوّل كما ذهب إليه الشيخ القرضاوي وغيره ، لأن لسان الفتوى جاء بالعموم ولا توجد قرينة لصرفه إلى خصوص الفقهي . ومن هنا بدا أن المعترضين على فتوى الشيخ شلتوت والمتعالمين عليه تنطلق من تعصب حار أو تعصب بارد وبواعث سياسية أو طائفية. ثم لا أخال فقيها دربا مدركا لأسرار قواعد الأحكام وعلاقة أصول الاستنباط بأصول الاعتقاد أن يقع في هذا الخطا. فلو تعبّد مسلم بالمذهب الجعفري فهذا معناه أنه يرجح بعض الأحكام بموجب ارتقائه بقول الإمام الصادق مثلا إلى مرتبة السنة القولية. وهذا لا يثبت إلا بعد التسليم بإمامته وما يترتب عليها. ومثل هذا سيظهر كثيرا عند التعارض بين أدلة الجعفرية وغيرهم، من حيث أنّ قول الإمام الصادق عليه السلام راجح على قول الصحابي . وهذا من آثار الاعتقاد الذي له مدخلية حاسمة في الفقه. وهكذا دواليك. وقس هذا على سائر الصناعات التي يتقوم به الاستنباط الفقهي مثل الأصول وعلم الدراية والرجال. فقد يكون الثقة هنا غير ثقة هناك. على أن الوثاقة هي مدار اعتبار الخبر الذي يرجع إليه في استنباط الحكم. وفي الأصول تتسع السنة لتشمل سنة الإمام قولا وفعلا وتقريرا، وهو كما تعلم من موجبات الاعتقاد. من هنا يتأكّد أن فتوى الشيخ شلتوت جاءت في مثل السياق الايجابي نفسه الذي جرت فيه تلك المراجعات بين السيد شرف الدين الموسوي والشيخ سليم البشري ، إنه سياق غلب عليه مناخ التسامح والتفاهم والعلم ؛ وقد بدا مؤسفا أننا أصبحنا اليوم دون مستوى هذا السياق حتى أننا رجعنا إلى ما بدر من هذا الرعيل من فتاوى ومشاريع للوحدة والتقريب ، لنتأوّلها بقلوب مريضة مسكونة بالطائفية الرعناء والنزعة المذهبية الجامحة والنفوس الملوّثة المسمومة، في تدارك متأخر وتأويل يهوي بنا في الضحالة. ليت المسلمين يواجهون بعضهم بعضا بالعلم والتحقيق بدل أن يلجئوا إلى أسلوب التشويه والإساءة. لأنّ مثل هذه المواجهة العالمة التحقيقية المتسامية على الحزازات الصغيرة ترضي حكماء الشيعة قبل غيرهم.
عود إلى السيد شرف الدين الموسوي
في سيرة هذا الرجل الكبير، ما يؤكد على أن طريق الوحدة والتقريب لا تعني عدم النظر والحوار. وأن الاختلاف بين السني والشيعي أشبه بالاختلاف بين عالمين مجتهدين؛ بما يعني وجوب بحثه من منظور اجتهادي ونظري بعيدا عن الاحتقان والكراهية والانفعال. وقد كان السيد شرف الدين الموسوي محل احترام من قبل علماء السنة والشيعة الكبار. فقد أجازه بعض كبراءهم في الرواية لا سيما في الصحيحين كما أجاز بعض كبرائهم بمثل ذلك في الرواية الشيعية. ولأن أدواره كانت واسعة، بدءا من التحقيق العلمي ومرورا بالعمل الاجتماعي وانتهاء بمقاومة الاستعمار الفرنسي، فرض احترامه حتى على شريعتي الذي اعتبره عينة من التشيع العلوي في زماننا. فالذين وجدوا في فكرة شريعتي ومبالغته أحيانا مبالغة مصلح لا مبالغة حاقد ما يصلح سهما مسموما في كنانة خصوم الشيعة ، لن يسعفهم ذلك دائما ، حيث إن كان السيد شرف الدين الموسوي الذي دافع عن كل مفردات مذهبه واعتبره خصوم الشيعة طليعة الرفض المعاصر ، هو عند شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي " من رموز التشيع العلوي . فالذين حملوا على السيد شرف الدين الموسوي حملوا عليه لأنه ناظر ليثبت بالأدلة رجحان مذهبه لا أنهم حملوا عليه لأنه ضد الوحدة. وهكذا بات من غير المفهوم أن بعض الأطراف تجيز لنفسها الدفاع عن آرائها وإثبات رجحان مذاهبها بينما تعتبر من يدافع عن معتقداته من الطرف الآخر مهددا للوحدة وعدوا لها. وأما الطريقة التي نافح بها السيد شرف الدين الموسوي عن معتقداته فليس محلها هنا ، فهي تطلب في أهم أعماله مثل كتاب "النص والاجتهاد" وكتاب "المراجعات" وغيرهما كثير. وهو أسلوب المناظرة والاحتجاج في إطار الأخوة والتسامح لا الاحتجاج في إطار الكراهية والتعصب. وهذا على نهج أسلافه ممن سبقوا غيرهم إلى هذا اللون من الاختلاف المتسامح. فكانوا هم المبادر إلى دعوى المناظرات بينما رفضها غيرهم ووجدوا في القمع بدلا ، وحينما أدركهم الحرج شغفوا بطلبها ادعاء لا حقيقة ، وزعما دون الصمود والمكث فيها حتى أن بعضهم ناظر من بعيد وليس من قريب ليكرس كل جهل بالآخر بدل أن يدلل المسافة بين الفرقاء. الإنهمام بسؤال الوحدة والتقريب
يعتبر السيد شرف الدين الموسوي أحد فرسان المناظرة الكلامية الحديثة في العالم الإسلامي ، بين مدرستين كبيرتين سبق ونعتهما بأنهما جدولان من نهر واحد[1] ، مما جعله يبدو في عيون أبناء المدرسة الإمامية ، بطلا لا يلوى له ذراع وعبقري لم يفر نظير له فريه، في الذود الكبير عن مقطوع عقائدها والاستدلال السديد على ما بدا شاذا في نظر مخالفيها. وقد عرف بأعمال كثيرة وتحقيقات جمّة ، اشتهر منها مناظرته التاريخية مع شيخ الأزهر : الشيخ سليم البشري ، التي ضمّها في كتابه المعروف بالمراجعات . وقد استنقذ الكثير من أعماله من الذّاكرة وبعضها ضاع بلا رجعة حينما أقدمت قوى الاحتلال على حرق بيته في جبل عامل ، مستهدفة إيّاه لدوره الريادي في مواجهة الاستعمار الفرنسي يومها. وقد صنّف كتابا تحت عنوان "النّص والاجتهاد" ، عالج فيه كل الخلافات بين الفريقين بأسلوب المحققين ، كما كان أوّل من صنّف عن إكثار أبي هريرة في الحديث ، وهو الكتاب الذي استند إليه بعد ذلك بسنوات عديدة الشيخ الأستاذ أبو ريّة في كتابه الشهير: " أبو هريرة شيخ المضيرة" ، هذا فضلا عن أعمال أخرى. لقد كان حريا بالمخالف متى ما بلغه مجمل الحجاج الذي قدمه السيد شرف الدين الموسوي في سبيل تبديد ما بدا غرابة في المعتقد الإمامي ببسط الدليل والبرهان على ثبوته، وأيضا تبديد الأراجيف التي حيكت ظلما وجهلا في حق الامامية ، أن يحاسب التجديف والحقائق الزائف على تراكمها المهول لا أن يستمر في تكريس ذلك. لكن هيهيات، فلقد ارتأى البعض أن يستمسك بعروة المكابرة ، والسير في تعرجات التجديف إلى منتهاه. ولا شك أن ما بدا شاذّا في مذهب الإمامية لم يعن الشيعة المتأخرين فحسب ، بل إن التهمة ذاتها كما عبر عنها ابن خلدون تطال أئمة أهل البيت أيضا ، حيث قال:" وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها". وليس أغرب من هذا قول ، لما يتهم الثقل الأصغر بما دلت عليه المتواترات، وبث بثا مكرورا في متن الصحاح ، بأنهم من أهل البدع . ومع أنك تجد ابن تيمية في غير ما مكان كردوده على المنطقيين ، يصنف أهل الحق والضلالة طبقات ، تتفاوت في المراتب ، حتى أنه ذكر بينها متشيعي السلف ، إلا أن هذه التراتبية دالة على أنهم وإن كانوا من السلف الصالح ، فهم في درجة دنيا ، حيث كلما انقرضت طبقة ممن رآهم أهل البدع ، ازداد شذوذ الأخرى. فالنيل من الشيعة لم يقتصر على المتأخرين ، بل مس أهل البيت والصحابة المتشيعين لهم. فلقد نال ابن خلدون من الصحابي الجليل عمار بن ياسر ، لما استصغر من شأن بصيرته ، وقال في حقه : (إلا عمار.. فلقد استماله قوم من السبئية). وحتى من كانوا يوصفون زيودا، كانوا في كتابات المتقدمين من المخالفين بمثابة روافض. وهو ما جعل بعض الأعلام من السنة يعبر عن فوضى الأسماء والتصنيفات بقوله: لو سئلوا ما معنى الرفض لما عرفوه. وقد عبر الشافعي عن هذه الفوضى بالأبيات الشهيرة:
ان كان الرفض حب آل محمد فليشهد الثقلان بأني رافض.
غير أن هذا جانب محدود من الفضاء الواسع الذي امتد إليه مشروع السيد شرف الدين، أو لنقل إن ذلك لم يكن يمثل سوى بعضا من تلك المقاصد . وحتى لو سلمنا بأنه كان يمثل المقصد والمطلوب بالذات فثمة مقصد آخر بالتبع ، يتعلق بإرساء قواعد للتفكير التواصلي بين المدرستين ، كمقدمة لخلق مناخ للتعايش والسلم المجتمعي الذي تكون فيه السلطة للعلم والعقل في تناول الخلاف. وهكذا نجدنا أمام لوحة غمرتها أطياف من اللون في دعة وسماحة ندية كان أحرى بها أن تعكس الجانب العبقري النموذجي لعلم قدم نفسه للعالم الإسلامي كلا ، وليس لطائفته فحسب. وإذا كان السيد شرف الدين قد عمل جهده للدفاع عن أصول وفروع مدرسته ، فإنه فعل ذلك كخطوة ضرورية ومقدمة الواجب في نشدان التقارب الصحيح والوحدة المبنية على الوضوح والاعتراف. لقد شاء السيد شرف الدين أن يقيم التقارب والوحدة على أرضية سواء ، تبدد النظرة الاستعلائية للاتجاه النظير ، على أساس أنها مدرسة ليس في وسعها تقديم أدلتها على ما انفردت به من فروع وأصول. لقد أحيى السيد شرف الدين طريقة من سبقوه ، وأحيانا بكثير من التبسيط والتنهيج والأضبطية لمطالبها مع نهج الانتقاء للإشكاليات، مورد الخلاف ومثار الجدل في راهنه، على أساس الاقتصاد في الاستشكال وعدم الغوص في متفرعات ما لا ضرورة لاستحضاره اليوم إما لدوس الزمان لزيف حقيقته أو لاندراسه بفعل النسيان وجولة التاريخ وسطوع ما كان مستحيلا بروزه والتفكير فيما كان مستحيلا التفكير فيه. فللأباطيل كغيرها من الظواهر الثقافية والبيولوجيا عمر محدود وفرصة للبقاء مستنفذة ، ونشوء وتطور واضمحلال. فليس كل الأباطيل تملك التعدي بالعمر أكثر مما يمنحها إياه التاريخ بمكره الخفي وسنن الله التي لا يبارزها مكر البتة. وليؤكد للمختلف ، أنه إذا لم يكن في الوسع تبني ما ظهر لك دليله بالأدلة المعتبرة ، فلك على الأقل أن تدرك بأن قطع أبناء هذه المدرسة بعقائدهم في الأصول وأحكامهم في الفروع ناشي عن قناعة في الجملة . ما يجعله قطعا تكاملت حجيته بعين العقل، بلا جعل من جاعل. ومعتبرا في عين الشرع الذي تعبدنا بالحجة والدليل. أي شاء السيد شرف الدين أن يعلم من لم يعلم أو من خانه عدم الاطلاع على آثار هذه المدرسة ، أنها ليست كما هي معروضة في ثقافة كتاب ومؤرخي الملل والنحل ، مدرسة مصنفة في خانة أهل الأهواء والعقائد الشاذة. بل هي مدرسة أهل النص والدليل كما دلت على ذلك كل آثاره وفي مقدمتها : "النص والاجتهاد".
فقد قدّم الكتاب المذكور ، الذي أظهر فيه السيد شرف الدين الموسوي براعة ناذرة في الفقه المقارن ، وقدرة فائقة على الاقتصاد في تتبع موارد الخلاف ، حججا شرعية ، تؤكد على أن ما من رأي أو اعتقاد لدى الإمامية إلا وقام على النص، بمدركيه القرآني والروائي ، وبأقرب التأويل وليس أبعده . بل لقد كان في وارد الموازنة بين المدرستين في مدى تشبث كليهما بالنص ، فأثبت بأن الإمامية كانوا مشدودين من الأعناق بدليل النص ، حيث أظهر أن أكثر الاجتهادات التي سلكت منحى غير النص ، كانت بمنزلة الرأي المنزوع الشرعية في المقام ، لأنه اجتهاد مع النص. وقد علمت أنه من مستقبح الاجتهاد.
***
تعكس اهتمامات السيد شرف الدين الموسوي كل هذه الأبعاد التي تبدو للكثير ممن لم يستوعب امتداد رؤيته الشمولية والاستراتيجية ، مختلف آثاره التي تبدو متناقضة الأهداف ، متى استسلمنا للنظرة المذكورة. ولعل ذلك ما جعل الكثير من خصومه أن ينعتوه بأنكر النعوت ، حيث لم يقفوا عند المحتوى العلمي لأعماله بقدر ما اكتفوا بخلع الصورة النمطية على نهجه باعتباره واحدا من الرافضة المخادعين ، وهي الصورة التي عمل حياته على أن يكسرها كسر الأصنام التي تحول بين العقل ورؤية الأشياء كما هي. فمن يقرأ النص والاجتهاد والمراجعات وما جرى مجراهما من أعمال تتصل بالخلاف ويظهر منها إصرار على الدفاع عن مدرسة أهل البيت ( ع ) ، مقارنة بكتاب الفصول المهمة في تأليف الأمة ، سيعتقد لا محالة أنه أمام ازدواجية في الخطاب.غير أن سبب هذه الرؤية النمطية التي ما انفكت بحال عن أعلام مدرسة أهل البيت ، إلا لماما، من قبل عقلاء ومنصفين من هذه الأمة ، هم شجعان بما فيه الكفاية لكسر تابو الرؤية النمطية المهجوسة بتبديع الآخر وأخذ اعتقاداته مأخذ استخفاف ، بسلب الدليلية عنها ونسبتها إلى آراء أهل البدع و الأهواء جملة وتفصيلا؛ أجل ، لعل السبب في استمرارية هذه النزعة هو استمرارية مفعول سكر المكابرة وهواجس الغلب ، التي تحول دون منح قليل من السماع لفكر المختلف وتأمله بعقل لا بانفعال. إن رجلا كالسيد شرف الدين يؤلف فيما يؤلف الأمة ويقاوم الاستعمار الفرنسي ويدعو إلى مشاريع وطنية وقومية رافضا الاحتلال والتجزئة، ورافعا شعار الوحدة العربية على أساس توحيد برامج التعليم العربية ورفع الحواجز الجمركية والدعوة إلى الجيش العربي الموحد ، لا يمكن إلا أن يكون شخصية تتطلع إلى ما وراء الأحياز الضيقة للطائفة . فالذي ضاق عليه القطر على تنوعه يومها ، ستكون الطائفة في وجدانه أضيق. ولذا كان السيد شرف الدين ينزع إلى المدى الأوسع الذي تكون فيه الأمة برمتها هي طائفته والإسلام كلا هو مذهبه. إن منشأ هذا التحامل الذي بدا من بعض الخصوم الذين أزعجتهم القوة الاستدلالية للسيد شرف الدين وإصراره على الدفاع عن مدرسته الفقهية والكلامية ، لم يلتفتوا إلى أن أمر التقارب والوحدة ليس نزهة سهلة أو التفافا يسيرا على حكاية بالية ، بل هو واقع تاريخي واجتماعي ثقيل يجب التعامل معه بهمة وشجاعة، والتقيد بشروط المرحلية ومقدمات العمل. وفي مقدمة هذه الأسس ، أن يدرك المختلف ما أحرزت هذه المدرسة من صنوف الأدلة المعتبرة على آرائها ، حيث لو كان التقارب يجب أن يبنى على أساس الصمت وعدم الاستدلال على صدق مدعى المدرسة ، لكانت وحدة غير جادة ، صورتها التقريب ومضمونها الاعتراف بعدم حجية ما تدعو إليه هذه المدرسة أو تلك .
ولعل هذا من الآفات التي تواجه رسالة التقريب اليوم ، حيث رأى البعض العمل على تجفيف منابع الخلاف بالتخلص من كل ما لا يرضي هذا الطرف أو ذاك. وسوف تكون الأمة لو سلكت ذلك الدرب ، الذي يبدو في الأصل مستحيل التحقق ، سابقة في تاريخ الأمم في التواطؤ على الحقائق والالتفاف على الدليل. ستكون أمة جبانة لأنها لا تستطيع مواجهة مصيرها بوعي وتصحيح منابعها على أساس الدليل لا على أساس التراضي . وقد تصبح تلك العملية مفيدة ومجدية فقط وفقط لما يتم التعارف بين المدارس الإسلامية والاستئناس المتبادل بما اختصت به هذه المدرسة أو تلك . لقد أراد السيد الموسوي أن يقول : إن مدار التوافق والاختلاف هو الدليل ، والاختلاف بدليل هو أشرف من الاتفاق بلا دليل. ومع ذلك فإن اختلاف الأمة القائم على الدليل يوجد شعورا عند المختلف بضرورة تفهم مواقف النظير . من هنا فقط يكون "اختلاف أمتي رحمة". والاختلاف إلى العلماء الحقيقيين الذين هم أعلام الفقه المقارن، بشقيه الفقه الأكبر والأصغر، حيث أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس . وهذا كناية عن أن الخلاف الذي يؤسس اعتباره على أرضية علمائية موضوعية مبنية على الحوار والتواصل ، هو ما يجعل الخلاف رحمة. بهذا المعنى يكون الاختلاف إلى العلماء أساس الاختلاف الرحيم . الاختلاف إلى العلماء بالقيد الاحترازي المذكور؛ أي العلماء العالمين بالاختلاف في المقام والمنصفين.
السيد شرف الدين الموسوي..وسياسة تدبير الخلاف
لقد أدرك قدس سره الشريف ، أن الخلاف الضارب الأطناب والممتد الجذور في تاريخ الأمة ، ليس اختلافا سطحيا معدوم الأسباب مبتور العلل. بل إنه أكثر غورا وأشد رسوخا مما تصور الطيبون الشغوفون بوحدة الأمة التي عملت عوامل مختلفة على تكريس خلافاتها إلى حد تمأسس الخلاف وتفرع مدياته وتنميط العقل الإسلامي على أساس شطط العصبية وجنوح الغلب ومستقبح عجره وبجره. ولقد وجد السيد شرف الدين نفسه أمام أخ إسلاميا كبيرا يتمير بآراء ويحمل عنه من جنس تلك الصور النمطية ما يحول دون الوصال السمح والتلاقي السعيد ، في طريق التوحد والتقارب والتعاون على البر والتقوى وطلب النجاة في صف واحد كأنه البنيان المرصوص؛ لا يكاد يدرك عنه شيئا في الأصول و الفروع ، سوى ما كان في حكم الممضوغ المتهافت من أوصاف ونعوت ، تتراوح بين الخرافي التافه نظير الروافض أصحاب أذناب بقر و التجديف الخطير نظير أن لهم قرآنا غير قرآن المسلمين . ولا شك بأن الموقف العقلائي حينئذ قاضي بأن ينبري أولا لتوضيح ما فات المختلف من حجج النظير ، من باب إلقاء الحجة الشرعية ليس على الاختلاف ، بل على استمرارية التجديف في حق مدرسة هكذا عمق استدلالها على آرائها. فإذا كان الآخر له الحق في الاحتفاظ بآرائه ومقارعة الدليل بالدليل ، فلن يكون له الحق البتة في الاستمرار على نعث هذه المدرسة بأنها دخيلة على الإسلام أو خارجة عن الدين ، متآمرة على أهله ، أو إلحاقها بالعقائد الفاسدة والضالة والكيل لها بمقتضى القاعدة:" ليس علينا في الأميين سبيل". لقد أردك قدس سره الشريف ، أن ثمة مساحة واسعة لعبث الجاهلين وظلام مكثف يخيم على عرصاتها ، ناتج عن أن حصارا فرض على هذه المدرسة، وأقيمت في وجه حقائقها حصون شامخة منيعة، لم يتح لها التعبير عن بديهي أصولها وفروعها وصادق أفكارها وآرائها كما كان متوقعا من أمة حثها دينها على حسن السماع وطول الإطراق والحراك بدليل جلي لا بهوى خفي . وبأن الآخر كان قد شط وماع في نسج ما لا يرضاه ذوق غرير أو متراهق ضليل حولها ، من هزيل أساطير ليس لها في الأولين ولا الآخرين نظير، لو أنه استمر ، لكان حقيقا بإيجاد جيل يجهل تماما أن الآخر ينتمي إلى أمته حقا ، ولكان كما كان أمر الشامي الذي زار الكوفة ، وفوجئ بوجود علي بن أبى طالب في المسجد ، حيث قال متسائلا: " أوعلي يصلي؟"..ولعمري إن علي بن أبي طالب لم يسب من على المنابر قرنا من زمن انحطاطنا الطائفي، إلا بسبب هذا التغليط وهذا التجهيل المسرفين الذين لم يجد لهما من يخرم جدارهما السميك. ولقد قام المحدث النسائي يوما بمثل ذلك الصنيع وكله ألم على ما رآه من تهوين وسباب أهل الشام لعلي بن أبى طالب يومها حيث وجد الناس تجهل من يكون الرجل الذي رباهم طغاة بني أمية على كرهه عن غيب ، فبادر بشجاعة إلى تأليف كتاب: "خصائص الإمام علي" حيث ذاق بسببه ما ذاق من صنوف التعذيب والبطش ، فكان النسائي صاحب أحد الصحاح في المدرسة السنية، شهيدا من أجل علي بن أبي طالب ، حيث لم يجد طريقا لكسر طوق التجهيل سوى بنهج التصريح والتفهيم والتعليم. ولم يكن السيد شرف الدين الموسوي سالكا غير هذا المسلك ، لأنه وجد لدى المخالف من المواقف المبنية على الجهل بهذه المدرسة ما لا يحصى. إن السيد شرف الدين بهذا المعنى كان في وارد الاستدلال والتعريف بمدرسة أهل البيت (ع) وآراء من وصفوا على طول الخط بأهل الأهواء من الرافضة دونما تمييز. وليس في وارد الدفاع عن الأفكار التي كان يؤمن بها إيمانا راسخا.
تكتيك من أجل استراتيجيا تقريبية كبرى
لقد أدرك السيد شرف الدين الموسوي أزمة هذا الواقع المر. كما استوعب معضلة المخالف ومأزقه المعرفي بخصوص موارد الخلاف ، حيث غاص أكثر في طبقات وعيه ، فكان على درجة عالية من النباهة مكنته من حسن التمييز بين أطياف ومستويات من الفهم والمواقف تترى. فبعضها يستند إلى موقف لا أبالي ، ليس له رصيد من المعرفة أصلا بوجود طائفة من المسلمين بهذا العنوان أو ذاك بله الوقوف على عمومات الخلاف وخصائصه. وهؤلاء على فرض أن خطرهم يسير وأنهم لا يمثلون تهديدا مباشرا للوحدة الإسلامية، إلا أنهم قابلين للاستغلال من قبل الذي يستقوي بهم من خصوم التقريب والوحدة الإسلامية ، حيث من لم يتسلح بالمعرفة الضرورية تعرض حتما للاستغلال.فإذا لم تعاقر دينك بوعي ، مورس عليك بجهل. وفي التاريخ الإسلامي كان هؤلاء هم الجيش الاحتياطي الذي يحركه خصوم كل فئة ضد أخرى، مرة ضد الفقهاء ومرة ضد الحكماء. ومن هنا كان لا بد للسيد شرف الدين أن لا يهمل هذه الشريحة وأن يجتهد لإخراجها من الجهل وتمكينها من الحد الأدنى من المعرفة بالآخر حماية لها من الاستغلال الطائفي البغيض وإنماء لوعيها بواقع الاختلاف. ففي تاريخ طويل من النقاش البيني بين العلماء لم يثمر شيئا، حيث إن إلجام العوام عن الحد الأدنى من معرفة موارد الخلاف وأدلته ، واحدة من أسباب اتساع الجهل وتكريس التجهيل. من هنا كانت طريقة السيد شرف الدين الموسوي تعمل على تبسيط المطالب والمقاصد وتيسير ها للمتلقي ، بحيث استطاع أن يوجد لدى الإنسان متوسط وبسيط الثقافة قدرة على استيعاب ما كان فقط من شأن العلماء الكبار. حتى تكاد تجد أن محتوى ما دار حول النقاش بين علمين ، هما الشريف المرتضى وعبد الجبار المعتزلي، حيث كتب القاضي عبد الجبار الهمداني كتاب" المغني في التوحيد والعدل" في عشرين جزء، وخصص الجزء العشرين للإمامة. وقد ألف السيد الشريف المرتضى كتاب الشافي في الإمامة ردا عليه ، وهو مؤلف من أربعة مجلدات ، حسب طبعة مؤسسة الصادق بطهران؛ أجل ، فإنك تجد محتوى هذا النقاش في المراجعات والنص والاجتهاد ، بنحو من التبسيط لكنه غير مخل بكمال المطلب، وهو على أي حال أسلوب برع فيه السيد قدس سره الشريف ، براعة فرسان البيان والتبيين وأرباب السهل الممتنع! لقد كانت هذه هي الفئة الأولى التي حاول السيد شرف الدين احتواءها وعزلها عن الاستغلال الطائفي ، حيث أدرك أن بعضا من العلماء أيضا استغل جهل هذه الفئة ليطعمها بمزيد من الأساطير ؛ حيث شاعت خرافة الروافض أصحاب أذناب البقر ، وعبارات سخيفة نظير تقويلهم في أعقاب الصلاة : "خان الأمين" ، وما إليها من خرافات على شدة شيوعها لم ينبر لها عالم واحد من المخالفين في زمن الانحطاط الطائفي ليكشف عن تفاهتها،بل ساهم أعلام كبار في تكريسها وإمضائها على الرغم من تهدل محتواها وعدم ثبوت أصل لها. إلا بعد أن انبرى السيد شرف الدين وأمثاله في العصر الحديث ، لينضم إليهم بعض المنصفين من المدرسة السنية، فصدحوا بالحق وكانوا بذلك حقيقين. وحيث فعل ذلك وكان نعم العون لهذه الطبقة حيث مكنها من الثورة على التجهيل ورفدها بعناصر المنعة والتحصن ضد سموم التجديف الذي كان يرسله بعض خصوم التقريب والوحدة إرسالا، ليتلقفه الدهماء وعامة الناس تارة بطيبة وجهل وتارة بعصبية وشطط ، فإنه أدرك بأن في الطبقة العالمة هي الأخرى ، مستويات مختلفة في منسوب الاستيعاب وصنوف المواقف. ففيها العالم المقيد بشروط المعرفة العلمية المذعن لصوت الضمير المنحني أمام جلال الحقيقة حيثما طار بها جناح أو رسا بها قدم. وثمة فئة مكابرة معاندة تستغل جمال العلم في جلال الطغيان وتستقوي بمقدمات النظر في تحقيق مقاصد فاسدة ، تعمق بها جذور الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة وتمارس التجهيل بألف ليلة وليلة من التحامل والخداع ، ولا يهمها أن تعرف عن الآخر إلا ما يساعد على استئصاله من لوح الوجود. وحيثما ذكر الآخر كان لسان حالها "لا مساس" . كأنها حقا صوت السامري يصدح خلف خوار عجله الفتان. ليصرف الأمة عن وحدتها المشدودة إليها من الأعناق. حاول السيد شرف الدين من خلال نشاطه الموسع ووصاله المكثف مع الأطراف العلمية المختلفة على امتداد العالم العربي والإسلامي ، ومن خلال ملحمته المناظراتية التي زفها زفا سمحا جميلا في كتاب "المراجعات" مع علم من أعلام مصر المنصفين ، ما جعله يعزل ويميز فئة المنصفين عن أهل المكابرة. نريد فقط التذكير ، بأن هذه المناظرة بين السيد شرف الدين والشيخ سليم البشري ، شيخ الأزهر المالكي، كانت قد تناولت كل ما هو مثار خلاف. وقد فعلت شرذمة من التكفيريين جهدها في التشكيك في حقيقة المناظرة. وما دروا أنهم بذلك قدموا دليلا آخر على عجزهم عن تناول مضمون المناظرة التي قدم فيها السيد شرف الدين ما يدعم معتقده ويجعله مقبولا من وجهة نظر الدليل. وهم إذ طعنوا في صحّة نقوله جهلوا أن السيد شرف الدين حاصل على إجازات في الحديث وتحديدا في البخاري ومسلم من كبار المحدثين السنة بمن فيهم سليم البشري وكذا عن شيوخ من الكتّانية وغيرهم. كما أجاز هو في الحديث السادة أبا الفيض أحمد وعبد الله المكنى بأبي المجد وعبد العزيز أبو اليسر ، وقد عبر عبد الله ابن الصديق في الرسالة التي بعث بها إلى السيد شرف الدين الموسوي طلبا للإجازة لأخويه أحمد وعبد العزيز ، بأنهم آل الصديق من سلالة الحسنيين الذين ينتهون بالنسب إلى المولى إدريس بن عبد الله الكامل. إن ما بدا من الشيخ سليم البشري استسلاما ، هو انتصار للحقيقة ، لأنه قدم لأول مرة نموذجا عن الرضوخ لسلطة البرهان. وإنما كان استسلامه المكرور ، إشارة أخرى إلى أن هذا القدر من الأدلة يجعل الرأي الفلاني أو الحكم الفلاني معتبرا ، ويجزي التعبد به لجهة ما حفّه من دليل يدفع عنه فرية كونه مجرد رأي مبني على هوى. ومع ذلك نقول ، إن الشيخ البشري هو نفسه أجاز السيد شرف الدين ، بعد أن وقف على قوة ملكته في الاجتهاد والتحقيق. هذا ناهيك عن أنهما صديقان وزميلان في مشروع التقريب. ولقد أوضحت في محل آخر كيف أن صاحب " البينات في الرد على أباطيل المراجعات" وهو أولى المحاولات التجديفية ضد المراجعات ألفت في زمن الحرب العراقية الإيرانية ، كان مغالطا ومحرفا لكلام السيد شرف الدين. بل كل هذه المحاولات التشكيكية الفاشلة ، إنما فيها من مظاهر الاحتقار والاستصغار والتسفيه لكل هؤلاء الأعلام من أهل السنة الذين أجازوه ومدحوه ، بل هو تطاول على الشيخ البشري نفسه الذي قدم كل الاستشكالات المطروحة على العقائد والأحكام الشيعية ، بأدب وعلم يليقان بمقامه ، ناهيك عن أنه تمت استضافته في المملكة السعودية وصلّى إماما بالمسلمين جماعة في الحرم المكّي[2]. حتى أن شريعتي في نيله مما أسماه بالتشيع الصفوي في كتاب التشيع الصفوي والتشيع العلوي، الذي يسعى البعض لاستغلاله في غير ما وضع له الكتاب استثنى أمثال السيد شرف الدين من هذا الوصف باعتباره من رواد التشيع العلوي. ولقد قدم السيد شرف الدين الموسوي بورتريه متكامل ومثير عن الشخصية المنصفة من المدرسة السنية بأعلامها الشجعان و المنصفين ، ما فضح المستوى العلمي والأخلاقي لأهل المكابرة والتجديف ، ليعلم العالم الشيعي قبل السني ، بأن أهل السنة ليسوا سواء ، بل إن جمهورهم الطيب غير العارف بمواطن الخلاف معذور. كما أن كثيرا من أعلامهم المنصفين الذين يتمتعون بسماحة وأخلاق وغزارة علم السيد سليم البشري شيخ الأزهر أنذاك ، لهم وجود بين ظهرانينا لا تأخذهم في التواضع أمام سير الأدلة والحجج لومة لائم. وبذلك ضيق السيد شرف الدين من دائرة أهل التجديف والمكابرة. حيث سيحاصرهم علم المنصفين ويقظة العوام الواقفين على الضروري من موارد الخلاف. وحيث أن أهواء المتطرفين والاستئصالين أينما كانوا ، لا أثر لهم لشذوذهم وانفضاح أمرهم وهزال وسائلهم ، إلا بأن يستغلوا علم المنصفين وجهل العوام. فإذا ما عزل المنصفون والعوام ، وبان عوار المجدفين وهم الأقلية القليلة ، والشرذمة الشاذة ، أمكن التوصل إلى طريق أمثل للتقريب بين المذاهب الإسلامية والوحدة الإسلامية. فمن هي هذه الفئة يا ترى؟
من تنزلت شريعة الوحدة والتقريب عندها منزلة المحذور
هذه الفئة هي أخطر عقبة ضد مشروع التقريب..فإذا ثبت أنها من التقريب وسياسته على قدر من الشدة والنفور ، فهي في أمر الوحدة لا محالة أشد. ومثل هذه الشرذمة لم تعدم وجودا في كل الحقب والطبقات، ولم يخل منها هذا المذهب أو ذاك. ولا تخلو جعبتها من مبررات تسوغ بها موقفها الرفضوي من أي تقارب أو وحدة تلم الشمل وتشد عرى الوصال. وهذا الموقف هو منتهى ما يصله متمذهب طائفي، وغاية ما يبلغه متشدد لا يرى ما يشغل ذمته من وحدة الأمة . ولا يكفي تعيير مثل هذه الفئة المتشددة ولا يجدي شيئا تصنيفها في خانة واحدة ، على الرغم من اشتراكها في الرفضوية المطلقة، حيث وراء هذا الاشتراك أسباب موضوعية يتعين على الباحث في شأن الوحدة وسائس التقريب أن ينزل إلى أغوارها ، ليدرك الدوافع الحقيقية وراء هذه المواقف،غير ما يظهر من مسوغاتها التبريرية. وكان أولى أن نطلق عنوان الرافضة على من وقف من الوحدة موقفا قاسيا أو متراخيا، ليشمل العنوان كل فئة من ذاك القبيل ، سواء أكانت من هذه المدرسة أو تلك. ولا داعي أن نسرد هاهنا مواقف سلبية من ذاك القبيل وردت على ألسنة الآحاد من الفريقين تجاه الوحدة، تفاديا لذكر الأسامي والتعرض للأشخاص. لكنها تصريحات تؤشر على واحدة من أكبر الآفات التي تواجهها أمتنا اليوم، ألا وهي شيوع ثقافة الفرقة والتشتت الطائفي والمذهبي. وهي ثقافة شائعة لا تنحصر فيما بين السنة والشيعة ، بل مثل هذا التغالب يجتاح المدرسة الواحدة والمذهب الواحد والحزب الواحد. ولا يخفى أن ثمة ظروفا زادت في تأجيج هذا الوضع. ولم تكن السياسة بعيدة عن هذا التأثير ، إن لم تكن هي الدافع الأكثر حيوية ونشاط وراء كل المشاريع التفريقية والتدميرية داخل الأمة. يعتقد بعض الرافضة للوحدة والتقريب ، بأن مشروع التقريب الذي احتضنته القاهرة في منتصف القرن المنصرم، وأحاط به جمع غفير من خيرة علماء الأمة ، بأنها مؤامرة ماسونية وصهيونية. ليس غريبا أن تسمع أمثال إحساني ظهير والجبهان وأضرابهم ، ينعثون دار التقريب بالقاهرة بأنها السفارة الصهيونية بالقاهرة ، ويتهمون من ساندها من أعلام السنة بالغباء والجهل وما شابه من صنوف السباب ..ليبقى السؤال: ألهذا الحد كانت مشاريع توحيد الأمة والتقريب بين مذاهبها عملا ماسونيا..وإذن ما البديل الإسلامي ؟ هل هو يا ترى العمل على الفرقة..يا للمفارقة! والحل أن لا أحد يلزمنا بالتنازل للوحدة مع فئة كافرة لم يثبت إسلامها على وفق ما تقرر من قواعدها في التفكير وأصولها في التكفير. وليس أمام تلك الفرقة التي اتهمت بالخروج عن الملة سوى مخرج واحد لا ثاني له، وهو أن تعلن توبتها وتدخل في الإسلام على نحو ما تقرر في هذه المدرسة أو ذاك المذهب، وإلا لن يتقبل منها شيء مما تدين به وتعتقد. أو أن تعترف بخروجها عن الإسلام ولا تعود إلى أن تصف نفسها به. وفي تلك الحالة فقط ، سيكف عنها ذاك الفريق ولن يذكرها بسوء ولن يحمل عليها حملاته المشهودة. وتلك لعمري قسمة ضيزى، لو استمرت فلن تفلح هذه الأمة أبدا. ولظلت الأمة على حالها ، يغشاها الخور ويستنزفها المرض ، وتستعبد للأمم المستكبرة، ويذهب ريحها ، دون أن تتراجع هذه الفكر ، ولا تتبصر طريقها القويم في لجة سبل الضلالة التي تتربص باجتماعها وتربك خطوها.هذا الموقف ليس فقط أنه على خلاف مذاق العقلاء فحسب ، بل إنه يؤكد على أن ثمة تراتبية في سلم الضلال عند هذه الشرذمة، ما أن تصفي حسابها مع طائفة من المسلمين حتى تأتي على الأخرى على الترتيب المذكور في كتب القوم.بهذا المعنى علينا أن لا ننسى عدد ضحايا هذا الفكر التكفيري من أعلام وأبناء السنة أيضا من موالك وشوافع وأحناف..بهذا نقول، إن التصعيد الذي نشاهده اليوم ليس هو السقف الذي سينتهي عنده هذا المشروع التكفيري ، بل إن الشيعة الإمامية اليوم هم بمثابة أكياس رمل ، يمنعون من وصول نار التكفير إلى أهل السنة . ومثل هذه المواقف على سذاجتها وظلمها الذي ما أنزل الله به من سلطان، لن تجعل هذا الفريق يتحرك قيد أنملة عما يدين به ويعتقد. بل من شأن مواقف كهذه أن تعمق الفرقة وتمدد المسافة بين الفرقاء، وربما أدت إلى ردود فعل لا يعلم منتهاها إلا الباري جل وعلا. إن الحل الذي يطرحه هذا الفريق على الفريق الآخر ، ليس في الواقع حلا. بل هو ظلم واستكبار، يستخف بأدلة الطرف الآخر ويهون من حجته، ويدين أفكاره قبل أن يقارع ما انتصب من صارم أدلته أو يفسخ ما انعقد من حججه. وأي عاقل من أي عصر من العصور، لاسيما في عصرنا الذي أمسى أكثر نضوجا في فهم واستيعاب قيمة الحرية والحقوق وأساليب المناظرة، لا يسعه إلا أن يمج هذا المقترح مجا ويستقبحه استقباحا، فأنى يذهبون. لكن ترى ما هو الحل ؟ وهل قدر على رافضة الوحدة والتقريب أن يستمروا على مواقفهم الانزوائية كما لو أن أمرا لم يحدث البتة؟َ!
من المؤكد أن ثمة رهاب قاتل لا يزال يتحكم بسيكولوجيا رافضة الوحدة والتقريب. فهم يعتقدون أن الإنخراط في سلك التقريب يوشك أن يجرف ما رسخ في اعتقادهم. وأن الدنو من فكرة الوحدة من شأنه تعطيل كل هذا التراث من الحجاج. لا سيما وأن بعض الفرق تضخمت عندها ثقافة التبديع والتكفير حد التخمة . وصارت تفوق ما تبقى من مقومات ذلك المذهب من تعاليم فقهية وكلامية وتعلن حروبا بلا موضوع ، ونزاعا بلا محل . وقد غاب عن هؤلاء جميعا أن للوحدة مداخل وللتقريب مراحل لا يستحسن تخطيها بالنسبة لأمة أدمنت عبر قرون خلت على أكثر أنواع المسكرات الطائفية حجبا للعقل وبعثا لسورة الاستئصال. ليست الوحدة والتقريب، قضية قرار يتحقق عبر اجتماع هنا أو هناك. بل هي مسار يستدمج مراحل عديدة ، وتربية وثقافة وجهاد واجتهاد. يكون التقريب مبتدأ له والوحدة خبرا له و غاية.وليس من شأن جيل في هذا المشوار الوحدوي والتقريبي إلا أن يكون ممهدا أو مؤسسا، حيث مراكمة هذا الفعل المستمر هي وحدها ما يمكن أن يثمر نتائج ظاهرة ومعتبرة. فما رسخ عبر قرون لا يمكن تطهيره من خلال مشاريع محدودة في الزمان والمكان. ولك أن تتأمل ، أن ما يكتب في التفريق يفوق أضعاف كثيرة ما يسطره أهل التقريب. إننا لا نبالغ لما نؤكد على أن الثقافة الغالبة على أمتنا اليوم هي ثقافة التفريق والكراهية واللاتسامح..وهذا يكفي أن نؤكد على أن ثمة غيابا فظيعا لخطاب العقل وسيرة العقلاء. وعليه نقول ، إن الحديث عن التقريب اليوم لا يعني أن تتنازل هذه الفرقة أو تلك على معتقداتها وأفكارها. بل غاية التقريب في مرحلة ما قبل الرسوخ في الثقافة والأذهان، أن يتفهم كل طرف الطرف الآخر ، وأن يفهم بأن لكل منهما أدلة حاكمة على معتقداته، وبأن مدار النقاش يجب أن يتجه نحو الدليل . إنما العوار كل العوار لما تدين كل فرقة بآراء لا تجد ما ينهض بها من حجية نص أو عقل. فإذا أدرك كل فريق أن نظيره يستند إلى أدلة ما، في حصول فهمه ورسو معتقداته ، أصبح حينئذ معيبا أن تتهم كل فرقة الأخرى إلا على أرضية حجاج علمي تتحقق شروطه وأخلاقة ومقاصده ورجالاته.ليس غاية التقريب استدماج فرقة لنظيرتها ، والخضوع لحركة أشبه ما تكون بالكون والفساد، بل المطلوب تفهم وتقدير ما عليه كل فرقة على أساس أنه منجبر بدليل، وأن لا تهمة إلا إذا انفسخ الدليل. وحيث لم يتحقق ذاك الانفساخ واستمر من الشبهات أكثره ، فلا حق لأحكام القيمة بله الاتهام والتعيير. وعلى هذه الشرذمة أن تدرك بأن موقفها غليظ لو أنها افترضته في غيرها وتأملت ما يرد من أمر السفهاء حين سوراتهم واستحكام القوة الغضبية تجاه الخصم ، لأدركت أنها على خطئ أخلاقي كبير، لا يصلح في دعوة أو حجاج .حيث للمناظرة آداب وأخلاق، لو أخل بها المناظر ، وقفت المناظرة وانتهت عند ذلك التراخي.
قد يقول قائل : إنكم تحملون شرذمة معينة كل المسؤولية في الخلاف، وهذا بعيد عن الإنصاف. ونقول ، بلا ، فمع أننا نعتبر الوحدة والتقريب مسؤولية الجميع تجاه الجميع ، إلا أننا نجد في هذه الشرذمة كل عناصر الفتنة وعوامل التفريق ، حيث ركبت رأسها ولم يرضها من تلك الشين ، شيئا. فليتها مدت الأيدي ، لتمتد لها الأذرع..وليتها خطت خطوة ، لتهرول إليها الخطى..فالامامية تمد يدها ، ولا زالت . ولو فعل خصمها التكفيري قليلا من ذلك ، لفعلت الامامية الكثير. ونحن نملك أن نمضي لهم على بياض، إلا أن نقبل بتكفيرهم لنا أو إرغامهم لنا بأن نكفر أنفسنا. لقد ركزت هذه الشرذمة بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة..فسوف ندافع ليس عنا فحسب ، بل على الأمة بكل أطيافها ، وسنقبل أن نكون أكياس رمل حتى لا تمتد يد التكفير إلى باقي أطياف الأمة من قبل شرذمة تورطت في الدماء البريئة والنفوس المحترمة من السنة والشيعة معا، أي ضد الأمة بجناحيها.
الوحدة ضرورة.. لكن بالتعايش لا بالاستئصال
إن ما يؤكد على أن السيد شرف الدين الموسوي كان يرى في الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية أم الضرورات ، وبأن كل ما قدمه من صنوف الحجاج لم يكن في وارد التغليب بقدر ما كان في وارد التعريف، هو انخراطه في مشروع دار التقريب ووقوفه إلى جانب أنصار الوحدة ، وأسلوبه الفريد في المناظرة. لقد كان هناك تراث كبير من المناظرة أمام سماحته، يغلب عليه طابعين: بعضه غلب عليه طابع التغليب، والثاني غلب عليه طابع التهريج.
فأما ما كان يغلب عليه طابع التغليب ، فكان على جديته وحماسته ، ينصب غاية بين عينيه : أن تثبت كل فرقة مدعاها ، وتهجم على الأخرى فتسلب منها مشروعيتها وتستخف بأدلتها على ما اطمأنت إليه ، قصد تغليب طرف على آخر : إما أنت أم أنا ، فلا متسع للتعايش ولا مندوحة للوصال. وحتى لو كان في تجارب بعض الإمامية ما كان يهدف الرد على هذا التغليب ، بالنفس نفسه والاعتبارات نفسها ، فكان رد فعل يمتح من نفس الغاية ويعاقر الأسلوب نفسه. غير أن في التراث الإمامي حالات شبيهة بالتجربة الموسوية ، وكانت تنتظر تكاملا وتنضيجا يبلغ بها ما كانت تطمح إليه ، كتلك التي ابتدرها الشيخ الطبرسي الذي صنف جامعا في الاحتجاج ، وثق به ملحمة احتجاجات أعلام مدرسة أهل البيت من سيد الخلق أجمعين ص مرورا بالأئمة الأطهار ع وانتهاء بشيعتهم الموالين ض ..ومثله ما قام به أيضا السيد المرتضى في ردوده على القاضي عبد الجبار ، من كتاب الشافي ، حيث قارع الرأي بالرأي ، وكان مع ذلك لا يرى مانعا من الانفتاح على مدرسة العامة فقها وأصولا ، بل لعله من أوائل من ألف في الفقه المقارن. وكذلك فعل الشيخ المفيد والحلي وأعلام كثيرون. غير أن طريقة السيد الموسوي(ق.س) دفعت بهذا الاتجاه إلى منتهاه ، فاستدخل عنصر التسامح في الحجاج ، وتقيد بفن التنهيج المقارناتي في محاوراته ومناظراته ، ونصب غاية نبيلة قطعت مع تراث التغليب ، وردود الفعل التي تجعل الإمامي في موضع المدافع دائما أو الواقع في رهانات التغليب التي يفرضها خصمه المناظر، فإذا بها طريقة تعيد طرح الأسئلة البديهية على التراث الإسلامي، وإعادة تشكيل الوعي بالخلاف على أسس علمية وأخلاقية سمحة ، تجعل الغاية ، التعارف ، وعدم التسامح في إصدار حكم القيمة على المخالف، حيث بعد إثبات ما في حوزته من أدلة ، لن يعود في وسع المخالف إلا أن يذعن أو يسلم بأن ثمة فهم آخر وتعبير مختلف ، ينهض على صارم الأدلة التي بها عبدنا الشارع المقدس وبها يتحقق القطع المعتبر حجة في المقام.
وأما من كان يغلب عليه طابع التهريج ، فهو هادف إلى الاستمتاع بالتجديف والتفنن في التكفير والاجتهاد في تلفيق الصورة الخاطئة عن المختلف واختراع ما لا يصح لأجل مزيد من التبشيع للآخر. وهذا الضرب من المناظرة ، ضرره كبير ومقصده ذميم. ضرره كبير على المعرفة لأنه يقزم العقل ويطلق العنان إلى شيطان الأهواء، فإذا بالمتناظرين يستسهلان من القدح ما لا يقوى على استيعابه عقل محكوم بسلطة النظر ، محفوف بقرائن الحكمة. فإذا بالمناظرات أو الكتابة في الخلاف ، تصبح مثوى للسفسطة والتصابي في الكيل الظالم والعبثي للحقائق، كأن يتم الحديث عن تخريفات من قبيل أن للشيعة أذنابا شبيهة بالبقر ، أو فرية تافهة من وزن الريشة في حلبة الحجاج ، نظير أعجوبة " خان الأمين"، وإذا ارتقى العقل التهريجي مقدارا يسيرا ، تم الحديث عن تهم لا تقل سخفا، نظير فرية القول بتحريف القرآن وإثبات الإفك على السيدة عائشة وإجازة الزواج بتسعة وهلم جرا من صنوف الإفك والتجديف الذي لا يؤطر بفقه أكبر أو أصغر ولا نظر أوسع أو أضيق .وهذا الضرب من الحديث في الخلاف والمناظرة حوله ، هي قاصمة ظهر الأمة ، وعلى نحو ذلك جاءت طريقة السيد الموسوي لتخفف من ثقل هذه الجبال من التهريج ، على الوجدان المسلم وتسهل على المنصفين من أبناء المدرسة السنية ،طريقا سالكا للوقوف على مصادر الحقيقة، ونفض ما علق في الذاكرة المرة من صورة نمطية على تهدل محتواها ، وليقيم جسورا جديدة على أساس الفهم العلمي الذي يستمد قيمته ومصداقيته من الأدلة المشروعة. ولك أن تتصور لو شاع في الأمة ما قدمه السيد الموسوي ، إذن لخف وزر الخطايا ولتقلص حجم البهتان ، ولعرفت الأمة طريقها إلى التعايش السمح والتفاهم الرضي. ففي مقابل هذا النوع من المناظرة ومعاقرة الخلاف تهريجا ، اجترح السيد الموسوي ما يمكن الاصطلاح عليه: المناظرة المسؤولة. وهي المناظرة التي تأخذ في الحسبان الغاية النبيلة التي تدفع باتجاه التعايش لا التنافر . إنها المناظرة الوحيدة التي يقرها الشرع وتستمد مشروعيتها من نبل الغاية، حيث ما دون ذلك من صنوف المناظرات التهريجية يدخل في باب الجدل العقيم الذي نهى عنه الشرع واستقبحه العقل، لأن غايته معكوسة ،ومردوده هزيل، يزيد من حجم الكراهية ويهدم ما تبقى من جسور الوصال.
أنقر هنا لتتمة المقالة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.