إذا كان ملك البلاد قد خصص خطاب ذكرى 20 غشت الأخير لأهمية التكوين المهني، ودوره في تأهيل الشباب للاندماج المُنتج والمساهمة في تنمية البلاد، وإذا كان وزير التربية الوطنية قال مؤكدا مضمون الخطاب الملكي: "لقد وضع الملك التكوين المهني في صلب النموذج التنموي الجديد للمغرب أكثرَ من أي وقت مضى، لأنه عامل أساسي لإغناء رأسمالنا البشري"، فإن وزارة هذا الوزير نفسه – يا للعجب – تستمر منذ خمسة مواسم تربوية متتالية في وأد تكوينِ التكوينات وسيدِها على الإطلاق، والمقصود تكوين هيئة التدريس (إذ لا يمكن الحديث عن تكوين التقنيين والحرفيين قبل تكوين مربي الأجيال!) وهو "التكوين" الذي لا يزال يتلقى الطعنة تلو الأخرى، سنة بعد سنة، حتى أصبح أبعد ما يكون عن التكوين، ولو من باب المجاز والمشابهة، وأوشك أن يصبح "تَكوَانًا" مُضحكا مُبكيا في آن! وإننا لنتساءل بحزن وغضب: إذا كان لا يغيب عن الحكومة ووزارتها المعنية أن الترتيب الحالي للمدرسة المغربية في ذيل الأمم هو محصلة نظام تربوي كان يخضع فيه المعلِّم لسنتيْ تكوينٍ تناوبيٍّ صارمتين، فأين سيكون يا ترى ترتيبُنا حين أصبح تكوين هيئة التدريس – منذ التعاقد المشؤوم - يتم أحيانا في أيام، وأحيانا في أسبوع، وعلى أقصى تقدير في خمسة أشهر، ثلثُها إضرابات؟؟ ففي شهر نونبر من سنة 2016، بُعيْد الاستياء العارم الذي خلَّفه إعلان وزارة التربية الوطنية عن توظيف 11 ألف أستاذ متعاقد دون تكوين، والزج بهم في الأقسام مباشرة، (مما يتناقض كليا والظاهرة الصوتية لرئيس الحكومة آنئذ عبد الإله بنكيران بصدد الحسم مع التوظيف المباشر!!) صرّح مسؤول من حكومة العدالة والتنمية الأولى بأن هذا التعاقد ليس إلا إجراء استثنائيا، جاء ليسُدَّ الخصاص الكبير الذي تركتْه إحالة 30 ألف أستاذ على التقاعد النسبي، ولمواجهة الاكتظاظ المهول في فصول الدراسة، وأن مباراة الولوج إلى مراكز التكوين لن تتوقف، وسيعلن عنها لاحقا. بعد سنة من هذا التصريح، ومع تعطيل مراكز التكوين، والإعلان عن مباراة تعاقدٍ جديدة تهمُّ 24 ألفا أستاذا، اتضح أن ذلك المسؤول كذاب أشِر لا يتحلى بأدنى أدبيات المسؤولية! وبعد أربعة أفواج من المتعاقدين في أربع سنين عجاف أقساها السنة الماضية حين طفح الكيل فعطَّلت إضرابات المتعاقدين المدرسة العمومية ل 60 يوما متتابعا، بعد أن وجدوا أنفسهم مهددين نفسيا واجتماعيا داخل "نظام وظيفة" يشبه السُّخرة، مع نكبة ملايين تلاميذ أولاد الشعب المسكين من البُسطاء في "الزناقي" (مما يناقض تماما توصية الملك بجعل المواطن في صلب التنمية، وبدعم التمدرس وتعميم التعليم ومحاربة الهشاشة)، ومع كل ذلك التشنج الذي لا يزال قائما بين المتعاقدين والحكومة خرج علينا الناطق الرسمي باسم الأخيرة ليؤكد كذبة زميله السابق بما لا يدع مجالا للشك في استحمار الحكومة للشعب المغربي، ولرجال تعليمه، ولأطر تكوينه، مصرحا بعد إزالة قناع الخداع – ووجهه أحمر، يا للعجب! - أن التعاقد خيار استراتيجي للحكومة لا رِجعة عنه، دون أن يرفَّ له جفن!!! وطبعا – وكالعادة - دون أن يكون هذا الإجراء الفوقيُّ مبنيا على أية دراسة علمية، ولا منبثقا عن أية مقاربة تشاركية وإدماجية (بحسب توصية الملك أيضا)، لأنه مجرد انصياع جبان أمام إملاءات الصناديق الدائنة الواضحة والحاسمة بخصوص فرْض تقليص النفقات الاجتماعية، دون أدنى حس وطني رجاليٍّ مُستقل ينظر في المآلات الكارثية التي تهم تكوين التكوينات هذا، وآثاره الوخيمة الممتدَّة عبر أجبال طويلة، مما يجعل أي حديثٍ رسميٍّ أو حزبي عن شعار "الجودة" مجرد سفسطة مكشوفة ودُغمائية قميئة تثير الشفقة والقرَف في آن. فطيلة المواسم الخمسة المنفرطة ظلت إبرة بوصلة الحكومة بخصوص تكوين هيئة التدريس تتأرجح كالسكران من النقيض إلى النقيض، دون أي منطق داخلي ينتظم فيه حتى التعاقد نفسُه على عِلّاته، (فوج 2016 دون تكوين، وفوج 17 بتكوين "كوكوت مينوت" في شهر غشت بعد تعطيل المراكز طيلة سنة من شتنبرها إلى يوليوزها!! والفوجان الأخيران بتكوين "نص – نص" يبدأ في فبراير (!!!) لينتهي في يوليوز). ومع هذا الهدر الفظيع لزمن التكوين الذي أصبح لا يساوي شيئا في عيون "المسؤولين" الذين لا يُسألون رغم نص الدستور على محاسبتهم التي تظل حلم المغاربة الوردي بغد أفضل، يستمر "تكوين" أفواج المتعاقدين دون نظام للتكوين ولا للتقويم، وباختزال فظيع وغير تربوي ولا علمي البتة لسلكي الإعدادي والتأهيلي في سلك واحد، وبمصوغات أغلبها نمطي مكرر، وبأربعة أسابيع فقط من التداريب، وبتساهل كبير من مكوني المراكز في تقويم أهلية المتعاقدين، لأنهم يعتبرون تكوينهم باعتبارهم موظفي الأكاديميات ليس من مهامهم، ولا تنظمه أية شراكة أو تنسيق مضبوط بين مراكزهم والأكاديميات كما تنص عليه المراسيم المؤسسة والمنظمة للمؤسستين، علاوة على استفراد الأكاديميات بمباريات الدخول وما يشوبها من شبهات وخروقات، وعلى التدخل السافر للإدارات الجهوية من أجل التغطية على كافة الاختلالات، ورفع تقارير "العام زين"، حفاظا على السلم الاجتماعي للحكومة، ودون أدنى حس تربوي، كما وقع في مركز جهة الشرق حيث َيشتغل كاتب هاته السطور، إذ عمدت إدارة المركز السنة الماضية إلى التستر على حالة غش جماعية فاضحة تهم عدة أقسام دفعة واحدة، كما عمدتْ من قبلُ إلى إنجاح متدربة راسبة في ثلاث دورات متتالية، مما راسلنا بشأنه الوزارة ومفتشيتها للشؤون التربوية دون أن نتلقى – وهذا ليس بغريب - أي جواب منهما معا!!! وفي هذا الوقت الذي يُوأد فيه تكوين هيئة التدريس وأدًا مع سبق الإصرار والترصد عمدت بعض الجهات الحكومية الدخيلة على التكوين، ومن أجل الحفاظ على امتيازاتها من ريع مراكز التكوين، إلى تمييع هوية المراكز باعتبارها مؤسسات تربوية لتكوين الأطر، أطر هيئة التدريس بصفة رئيسة، ثم باقي الهيئات إن دعت إلى ذلك الضرورة، إلى كائن آخر، تحت شعارات تفتقد إلى المصداقية أو إلى الضرورة، كالبحث العلمي التربوي وتكوين هيئة الإدارة، فلا البحث العلمي التربوي يتم باستقلالية تستجيب لحاجيات المدرسة المغربية، وتُدمِج نتائجه في سيرورتها ورؤى تطويرها، لأن الذين يضطلعون بهذا هم دائما "خبراء" أجانب شُقر البشرة!! وأفتح هنا قوسا لأقول إن هذا "البحث العلمي التربوي" لم يُستحدث إلا لترقية الأساتذة الباحثين الذين تم توظيفهم في المراكز بالمئات كحل ترقيعي لنضالاتهم من أجل استحقاق تغيير الإطار، دون أدنى تخطيط أو دراسة جدوى، مع العلم أن مكانهم الطبيعي للعطاء العلمي هو الجامعة، تماما كما فُعل مع الأساتذة المبرزين من قبلُ، إلى درجة – بل دركة – تعيين بعض خريجي سلك التبريز الجدد بالمراكز بصفر 00 سنوات من الخبرة الميدانية!! خبط عشواء ما بعده خبط، حتى بُلقنت هيئة التدريس بالمراكز، ومزقت شر ممزق، إذ هي المؤسسة التربوية الوحيدة التي تجد بها كل أطر وزارة التربية الوطنية، من أستاذ التعليم الابتدائي إلى أستاذ التعليم العالي، مرورا بأساتذة الإعدادي والتأهيلي والمبرزين، وحتى المتصرفين والمهندسين، صدق أو لا تصدق، هكذا هي الحال عشوائيةً، مما له انعكاس خطير على التكوين الذي تتناقض حول رؤى تلك الفئات الجمة وتصوراتهم وآليات اشتغالهم، لا سيما مع غياب كلي لشيء اسمه "تكوين المكوِّنين"!! أما تكوين هيئة الإدارة التربوية فلم يأت نتيجة مطالب تربوية أو علمية أو حتى نقابية، وإنما أُقحِم في المراكز إقحام الغريب لغاية استمرار الريع التي تحدثنا عنها آنفا، لذا لا يزال بها غريبا، وبأطر غير متخصصة، أغلبها متطوع!! مع العلم أن تكوينات أطر الإدارة ضمن أيام مغلقة – كما كان يتم من قبلُ – تفي بالغرض غاية الوفاء، كيف لا وهي يستهدف رجال ونساء تعليم ذوي خبرة ميدانية تصل أحيانا إلى عقدين من الزمن؟ ومن عجبٍ أن عبقرية الوزارة تفتقت عن تخصيص موسم تكويني كامل لهم يبدأ في شتنبر، بينما هيئة التدريس التي تأتي من الجامعة أو من الشارع مباشرة فيُعطَّل بدءُ تكوينها إلى فبراير دون أدنى مبرر، مع محاولات ترقيعية جوفاء تحت تسميات مختلفة: التكوين عن بعد، المسطحات، المصاحبة، الزيارات الميدانية، البحث التدخلي... وكلها تسميات تدخل ضمن التكوين المستمر أصلا، مما يجعلها ههنا جوفاء بلهاء لا يتورَّع الباحثون عن الريع عن المشاركة في حُبكتها المسرحية الرديئة، وكيف لا تكون كذلك والتكوين الأساس الذي عليه تُبنى أصلا معدوم!! أما "المدارس العليا للتربية" المحدَثة هذا العام، وهو التصور الذي فاجأتنا به الحكومة، ولم تشْرك فيه أحدا، فرغم أنه يبدو إنجازا، غير أنه عند التحقيق نكتشف أنه ليس سوى ذر للرماد في العيون، وذلك لأنه أتى متأخرا للغاية، أي بعد "تخرج" حوالي خمسة وسبعين ألف (75000) متعاقد، وستجيء أُولى مخرجاته أيضا بعد لأي، بعد أن توشك المدرسة العمومية أن تَغرق أو على الأصح أن تُغرق في بحر ظلمات عميق من المشاكل العويصة، إذ سيصير عدد موظفي الأكاديميات مع احتساب متوسط العدد المقرر للمواسم الثلاثة المتبقية قبل تخرج أول دفعة من هاته المدارس مائة وخمسة وثلاثين ألف (135000) متعاقد، وهو رقم مهول مخيف بالنظر إلى الشروط المهنية والموضوعية التي بسطنا فيها القول، والتي تجعل أي تدارك للأمر قريبا من المحال! هذا إذا لم يتم نسف هذه المؤسسة من طرف حكومة جديدة، كما عوَّدنا خبط الحكومات المتتالية التي كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها. ليس عندي أدنى شك في أن نظام التعاقد الذي بدأ "إجراء استثنائيا" – بحسب كذبة الحكومة - ثم أصبح "خيارا استراتيجيا" يهدف إلى إفقاد ثقة من تبقى من الشعب في المدرسة العمومية من زاوية ضعف تكوين أطرها، (وهي الأسطوانة التي بدأت تُلاك منذ فوج المتعاقدين الأول 2016)، بعد أن أُفقِدوا الثقةَ في برامجها ومناهجها وحياتها المدرسية، وذلك لتهيئة النفوس لما هو أفظع: بيع المدرسة العمومية للخواص، أو بتعبير أصدق: إطعام لحم قطاع التعليم لوحوش المستثمرين الخواص الفاغرين أفواههم لقمة لقمة، باعتباره مقاولة ربحية تبيع سلعة اسمها "التعليم" للقادرين على الدفع، مما يعد جريمة تمسُّ حق الشعب في التعليم (مع الجودة وتكافؤ الفرص)، لا باعتباره مِنَّة ولا خِدمة تفضُّلية، ولكن باعتباره حقًّا كما تنص على ذلك المقررات الأممية، وكما يقتضيه العقد الاجتماعي الضمني الذي بموجِبه ندفع الضرائب ونخوِّل الحكومة إدارة ثروات البلاد القومية المشتركة!