بعد تدخل ملك البلاد وإمهاله الحكومة ثلاثة أسابيع فقط للإسراع بإصلاح التكوين بمراكز التكوين المهني، هُرع رئيس الحكومة إلى التأكيد على أن حكومته ستقدم "وثيقة التكوين" في الأجل المحدَّد، وستضمِّنها رؤية شاملة، وأهدافا واضحة. هذا غريب للغاية، ووجه الغرابة أن الجميع يعلم أن التكوين المهني في المغرب يسير بشكل لا بأس به على العموم، إذ هو قطاع لا يشهد إضرابات أو تعطلات تُذكر، ومؤسساته منظمة بشكل مقبول، ومُخرَجاته حسنة الكفاءة، وتُعدُّ كل عام بالألوف، وعدد أيام التكوين فيه كافية، وفق جدولة زمنية مضبوطة مطَّردة، وعُدَّة تكوين لا بأس بها، وإن كانت تحتاج إلى المواكبة العلمية والتقنية والمعلوماتية للسوق الدولية والمحلية، ولعل هذا فقط ما نبه إليه الأمر الملكي، وهو تجددٌ مطلوب في كل حين. كل ما سبق يعني أن التكوين المهني بالمغرب لا يعاني من مشاكل هيكلية حقيقية بالمقارنة مع تكوين مهني آخر أهمَّ وأولى بالإصلاح العاجل، هو التكوين المهني لهيئة التعليم الذي أصيب في مقتل منذ 2011، التاريخ المشؤوم لإحداث ما سمي بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين؛ إذ منذئذ أُفرغت المراكز من رسالتها ومحتواها، بل وعطلت تعطيلا كليا طيلة موسمين، حيث تم تعيين عشرات الآلاف (34 ألفا) من الموظفين المتعاقدين مباشرة في المدرسة العمومية، دون أدنى تكوين، أو ب"تكوين" في طنجرة ضغط عجيبة مُدتها بضعة أيام، جعلت عموم الناس تتفكه على سياسة الدولة في التكوين وعلى المراكز بمثل قولهم هازئين: "كيف تصبح أستاذَ أجيالٍ في ثلاثة أيام؟!"، وهي المراكز التي كانت فعالة لعقود في تكوين الأطر بمختلف الأسلاك، فأصبحت – مأسوفا عليها - مسرحا هزليا لتغطية فشل السياسات الحكومية في التعليم والتكوين، وهيئةً رسمية لل"مصادقة" على وهْم ذلك "التكوين"، وزُور مُخرجاته.
سبق لإحدى الجرائد الوطنية أن وصفت المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين ب"المؤسسات الشبح"، وهو ما أثار حفيظة وحدة وهميةٍ بالوزارة تسمِّي نفسها بال"وحدة المركزية لتكوين الأطر"، رغم أنها لا وجود رسميا لها بالهياكل المؤسسية لأقسام ومصالح الوزارة، ورغم أنها – وهذا هو الأهمُّ – لا معنى لها، ولا جدوى منها، في ظل إيقاف مباريات الولوج إلى المراكز منذ سنين، حيث كان آخر فوج تكوَّن بالمراكز هو الفوج المتميز الذي أطلق على نفسه "فوج الكرامة"
سنة 2016، وبما أن الحكومة - في شخص رئيسها السابق عبد الإله بنكيران الذي حلف بالله ألا يتنازل عن مرسومين اتخذا بشكل انفرادي عمودي - خرجت شبه منهزمة أمام المعركة النضالية الطويلة التي خاضها ذلك الفوج ضد ذيْنك المرسوميْن من أجل عدم الفصل بين التكوين والتوظيف، فإنها سارعت إلى "الانتقام" منذ الموسم التالي مباشرة، (هذا إن لم نعتبر "رسوب" 150 أستاذا من ذلك الفوج انتقاما، رغم أن المساكين لا يزالون يناضلون إلى اليوم، ويتحدون الوزارة برؤية محاضر "رسوبهم" فقط!! وهو حق بدهي لهم)؛ حيث هرَّبت التكوين إلى الأكاديميات الجهوية للتربية التي أضيفت إلى تسميتها صفةُ "التكوين" لتعبث به كما تشاء، ودون أدنى تنسيق مع المراكز الجهوية كما تنص على ذلك المراسيم المعتمَدة. كما أقرت "التعاقد" الذي يهدد الأمن النفسي والاجتماعي للموظفين دون أي دراسة علمية تربوية واجتماعية سابقة! غير أن أقبح انتقام كان من التكوين نفسِه، حيث أوقِفت مباريات الولوج إلى المراكز، واستبدلت بها مباريات تعاقد مشبوهة، وبتكوين شكلي فارغ، رغم أن مسؤولا وزاريا صرَّح بعظم لسانه بأن التوظيف المباشر لأول فوج من المتعاقدين دون تكوين إنما جاء لسد الخصاص الطارئ، وأن مباريات المراكز لن تتوقف! عجبا من مسؤول أشرٍ كذاب!
ومن مظاهر العبث بتكوين أجيال أساتيذ المستقبل التي طفح بها الكيلُ اختزالُ السنة التكوينية – والسنة نفسُها غير كافية أصلا، وبالبت والمطلق – إلى خمسة أشهر هزيلة، تتضمن أربعة أسابيع للتداريب العملية، يُقاطع المتدربون اثنين منها بسبب تأخر صرف المِنح، ويبرمَج اثنان منها في مايو، أي حينما تكون المؤسسات التعليمية خاوية على عروشها!! ويبدو أن هذا هو السيناريو الذي ستنهجه الوزارة هذه السنة كذلك، حيث تبدأ السنة التكوينية بعد العطلة البينية الأولى، أي بعد انصرام خمسة أشهر من عمرها!!! ولك أن تضرب عدد أيام هذه الخمسة أشهر في عدد ساعات التكوين اليومية المقدرة بست 6 ساعات، لتعلم أي جريمة في حق التكوين هذه! ولك أيضا أن تضرب عددَ خمسة أشهر في الأُجَر الشهرية لألوف أساتذة التعليم العالي والمبرزين والثانوي والابتدائي العاملين بالمراكز ممن فُرضت العطالة عليهم فرضا، بعد تعطيل مراكزهم عن عملها الأساس المتمثل في التكوين – ومن بينهم كاتب هاته الأسطر – والذين تصل أُجَرُ بعضهم إلى مليونين ونصف مليون سنتيم شهريا، لتحصل على رقم فلكيٍّ من المال العمومي المُهدَر نهارا جهارا!!!
ودعْنا من تلك الأقنعة الفارغة التي تحاول "الوحدة المركزية" وبياذقها سترَ حقيقةِ عورة تعطيل المراكز بها، من قبيل الاجتماعات الشكلية المُملة التي لا تنتهي،
ولافتات "البحث العلمي والتربوي" التي أصبحت مستهلكة، ولا غاية منها إلا ترقية الأساتذة الباحثين، وهو حق لهم، دون أن يكون لذلك البحث أي أثر في تجويد منظومة التعليم والتكوين التي بها يشتغلون، ببساطة لأن الإدارة الطاعنة في الفساد والبيروقراطية حين تريد تجديدا أو تعديلا أو خبرة ما، فإنها لا تستدعي الذين أنجزوا بحوثا تخصصية في الميدان، ولكنها تستدعي الوجوه "اللحَّاسة" "الملَّاسة" المألوفة المقرَّبة، وهي وجوه مستعدة لتلميع أحذية الظلام الداكنة السواد، وللتوقيع على الوهم الساطع البياض، ما دامت هِبات الرِّيع المادي والاعتباري متاحة لها، أو تستدعي "خبراء" أجانب – لأن مطرب الحي لا يُطرب - مقابل ميزانية خيالية، يتضح مع مرور الزمن أنهم لا خبراء ولا هم يَخبُرون، وإنما مجردُ تجارِ مكاتب خبرة، لا غير!
أما ذريعةُ تكوين أطر "هيئة الإدارة" بالمراكز، فيكفي أن تعلم عنه أنه تكوين دخيل على المراكز رغمًا عنها، يشتغل فيه مكوِّنون متطوعون من خلال انطباعاتهم وتجاربهم التي راكموها خلال مَسايِرهم المهنية، لا من خلال التكوين الإداري والعلمي اللازم، وكلُّهم – باستثناء أساتذة أقلة تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة – أساتذة تخصصات علمية أو أدبية بعيدة كل البعد عن التسيير الإداري والمالي، وعن تدبير الموارد البشرية للإدارة، وعملهم مع هذا السلك إما تطوعيٌّ لدرء فشل هذا السلك، وإما مصلحيٌّ لاكتساب نقط للترقية... وهذا ما يطرح علامة استفهام كبرى حول إقحام هذا السلك بالمراكز: ألم يكن فقط تلميعَ واجهة لمحتوى فقير، أو بعبارة أخرى: لقد كان مجردَ تغطية لإفراغ المراكز من مهمتها الخالصة الأولى: مهمة التكوين الأساس لهيئة التعليم في الأسلاك الثلاثة؟ لذلك لا غرابة أن يكون هناك تذمر مستمر ودائم من هذا "التكوين"، من لدن مختلف متدربي أفواج هيئة الإدارة السابقة، والذي يرى كثير منهم أنه مجرد مضيعة للوقت، وأن الأمر لا يحتاج إلى إحداث سلك كامل، وإلى سنة كاملة من تكوين أساتذة مكوَّنين أصلا، مارسوا التعليم وخبروه سنين طوالا، أو ربما عقودا، وإنما هي خبرة مهنية يكفي لتحصيلها بضعةُ أيام تكوينية مثلما كان الشأن من قبل... وعلاوة على هذا العراء التكويني لسلك الإدراة هذا، هناك عَراءان آخران مستمران منذ سنين: أحدهما قانوني، والآخر بيداغوجي، إذ لم تَصدُر منذ الولادة اللقيطة له وإلى الآن لا مقررات الدراسة والتكوين، ولا مقررات التقويم، ولا مراسيم إحداث الإطار المناسب وتحديد المهام للخريجين! ففي أي دولة تحترم نفسَها يتمُّ إحداث سلكٍ، والزجُّ به في المراكز، "دغيا دغيا"، دون أي إعداد قانوني أو بشَري أو علمي أو تربوي أو لوجيستيكي يُذكر: دون أطر، ودون مراسيم تنظيمية، ودون مقررات بيداغوجية؟؟
في انتظار إقبال المراكز – كفئران المختبرات - على مرحلة تجريبية جديدة، هي مرحلة ما بعد المسالك الجامعية للتربية المُحدَثة هذا العام من دون أي تنسيق أو استشارة مع المراكز، يتذكر الأساتذة المكوِّنون بكل أسف نظامَ المراكز الثلاثة المغدورة: "مراكز تكوين أساتذة التعليم الابتدائي" و"المراكز التربوية الجهوية" و"المدارس العليا للأساتذة"، حيث كان الأداء التربوي والتكويني جيدا، ومنظَّما، ومنتظما. أما الآن فقد اختلطت الأسلاك الثلاثة من دون رؤية إلا رؤية تخفيف العبء الإداري، ولو على حساب الجودة التربوية، بل لقد أصبح المتدرب المتعاقد مجبرا على تلقِّي تكوين في السلكين الإعدادي والتأهيلي معا!!! وهذه بدعة مقززة لا تقل عشوائية عن بدعة الأقسام المشتركة، ولم تنْبنِ على أي مُعطى علمي أو بيداغوجي، رهانُها تقشفيٌّ محض. هذا دون أن نتحدث عن عُدَد التكوين المرقَّعة – وكل عام له رُقعُه المهلهَلة، ودليلُ تكوينه العشوائي – ومصوغاتها المضطربة، والمتداخلة بلا خيط ناظم إلى درجة التكرار، بل والمكررة فعلا تحت رقم 1 و2، لجميع الشعب والتخصصات، وجميع الأسلاك والمستويات، بشكل نمطيٍّ في الأسماء، والأغلفة الزمنية، والتوجيهات المستنسخة حرفيا، كأنَّ ما يحتاجه أستاذ الفيزياء في التأهيلي هو نفس ما يحتاجه أستاذ التربية الإسلامية في الإعدادي، وهو نفس حاجيات أستاذ الابتدائي أيضا؟؟؟ باختصار: إنه فقر مدقع في التصور، تصور بناء منهاج التكوين، ولا أزِيد... وهذا ما أوقع المراكز في كثير من التخبط واللامعنى، حتى وصل اليأس ببعض المكونين منا إلى أن يردِّد بلا اهتمام البتة، أو بامتعاض شديد متنفسا الصعداء: "غِيرْ سلّكْ عليَّ... ياكْ الدُّولة اللي بغاتْ هادْ الشِّي"! في حين ينظر كثيرون آخرون إلى عهد المراكز الثلاثة باشتياق وتأسف، ولسان حالهم كالذي قال أفلحُ بن يَسارٍ لما رأى دولة بني العباس التي كانت تعد بإصلاح فساد دولة الأمويين المنقرضة:
يا ليت جَورَ بني مروانَ دامَ لنَا Ω وليت عدلَ بني العباسِ في النَّارِ!
كنتُ، ومعي عشرات ملايين المغاربة الذين يتحرَّقون شوقا إلى الحق في تعليم عموميٍّ جيد، سنسعدُ غاية السعادة لو أن التدخل الملكيَّ حدد أضعاف مدة ثلاثة أسابيع لرئيس الحكومة لكي يضع نهايةً لمأساة التعليم هاته التي لا تريد أن تنتهي، والتي جعلت جامعاتنا في مراتب مخجلة ضمن أواخر جامعات الدول النامية فأحرى دول العالم المتقدم، وجعلت تعليمَنا جنبا إلى جنب مع دول ضنْكِ الحرب والفقر والمجاعة، وجعلت الألوف المؤلفة من أبناء هذا الوطن ترتمي مُكرهة في أحضان لوبي التعليم الخاص الجشع، ريثما كبر أولادُها ليرتموا بدورهم في أحضان البحر الرحيم!