رافق القانون الإطار المتعلّق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي نقاش مجتمعي واسع، واتهامات أطراف من مواقع مختلفة في النّقاش اللغوي بالأدْلَجة أو الديماغوجية، وتنوّعت الآراء حول موقع اللغتين الرسميتين، العربية والأمازيغية، في منظومة التربية والتكوين، وموقع اللغات الأجنبية، خاصة الفرنسية التي تُعدّ، تقريبا، لغة المؤسّسات في المملكة، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية بفعل واقع البحث العلمي في العالَم. ويستمرّ النّقاش المجتمعي حول لغات التّدريس بالمغرب حتى بعد دخول هذا القانون حيِّز التّنفيذ، مع صدوره في الجريدة الرسمية، بين دعاة النّقاش المعرفي الهادئ الذي يراعي مصلحة المتعلِّمين وواقع المغرب، وبين ردود فعل تنبز قدرة، أو أحقّيّة، لغات في حدّ ذاتها في تدريس المضامين التعليمية، خاصّة العلمية منها. وفي هذا السياق، التقت جريدة هسبريس الإلكترونية بعبد الله حمودي، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة برنستون في الولايات المتّحدة الأمريكية الذي تقاعد قبل سنتين وما يزال يؤطّر أطروحات الدكتوراه في الجامعة نفسها، واستقت رأيه، في الجزء الأوَّل من هذا الحوار، حول بعض الآراء والمبادرات الموجودة اليوم في الساحة الثقافية المغربية. منطلَق هذا اللقاء هو النّقاش الذي يُثار هذه الأيّام في السّاحة الثّقافيّة المغربية وحديث النّاس في ربوعِ المغرب حول لغات التدريس، وبالضبط لغات تدريس العلوم، أوّلا سؤال عام: هل يمكن تدريس العلوم باللغة العربية أم إنّ ذلك غير ممكن؟ ليس في اللغة العربية شيء يجعلها عاجزة عن البحث في العلوم وتدريسِها، سواء ما سمّي بالعلوم الدّقيقة أو العلوم الاجتماعية، وهذا من ناحية المبدأ. وأُلحّ على أنّه لا يوجد عجزٌ بيولوجي للّغة من جيناتها، وكانت العربية تاريخيّا لغة العلوم العالَمية، وهذا رصيد معروف. مسألة تدريس اللّغات والبحث العلمي باللغة العربية، طبعا، مسألة تاريخية يكون لها إطار، وديناميّتُها التاريخية، وتغيُّر يغَيِّرُ معنى سؤال ماذا نفعل؟ ولدينا اليوم مشكل ناتج عن سيرورة تاريخية منذ الاستقلال، وهذا هو العمق الذي أحاوِل أن أراه. وكتَبتُ أن الرصيد العلمي للغة العربية اليوم، وليس البارحة وليس في المستقبَل، ما زال ضعيفا، وكتَبتُ أنّ كلّ المؤهّلات، سواء مالية أو من حيث الجهد الذي يجب أن يُبذَل حتى تكوِّن هذه اللغة رصيدا علميا يصبح بفضله تدريس جميع العلوم والبحث العلمي باللغة العربية، في أفق استراتيجي يتطلّب بعض الوقت، ولست جازما كم نحتاج من الوقت. ليس هناك إذن عجز بنيوي للّغة العربية في تدريس العلوم كما يقول باحثون من بينهم الأستاذ أحمد عصيد؟ ليس هناك عجزٌ في جينات العربية، ولا أؤمن بذلك، وهذا لا يمكن أن يؤخَذ بمأخذ الجدّ تماما. في استجواب لموقع هسبريس مع الأستاذ عصيد، قال إن فشل التعريب ليس نتاجا لعدم نقل العربية صوب التّعليم العالي كما قال الأستاذ خالد الصمدي، كاتب الدولة المكلّف بالتعليم العالي والبحث العلمي، بل لاستحالة اعتماد المضامين العلميّة الصّارمة في الجامعات باللغة العربية. لا بدّ من تدقيق هذا الكلام، وإلا ستقع مغالَطَات، فلا توجد استحالة مبدئية، والمشكل في الرّصيد الموجود اليوم.. ولا أحكم على النوايا، ولكن كلمة استحالة لا تروقُني، ولا أعرف ما يقصده بالمضامين العلمية الصّارمة. والعربية يمكن أن تتضمّن أيّ مضامين علمية شريطة أن يقوم الناس والدّولة والمجتمع الأكاديمي بمجهود في البحث، وفي تطوير الرّصيد العِلمي لتلك اللغة. ويقول الأستاذ عصيد أيضا إن اعتمادها مرتبط بإنشاء بنيات وتمويلات والقطع مع عقليات المجتمع الحالي، وترسيخ التّفكير العلمي داخله بشكل أعمق، وأقول إن هذه الجملة تطرَح مشكلا آخر، هو أنّ اللغة نفسها هي وسيلة لتطوير العقليات، وهي وسيلة للتّغيير، وإذا لم يكن الاشتغال على اللغة وباللغة، في أفق استراتيجية للتّعريب.. اللغة نفسها ليست معزولة عن المجتمَع، واللغة ظاهرة اجتماعية من بين الظّواهر الاجتماعية الأخرى، وهي أداة للتّغيير، والتّغيير يجب أن يبدأ منها ويكون عبرها، ولا يمكن تغييرها إذا لم تمارِسها وتستعملها، ولا يمكن أن نتحدّث عن عدم استعمال اللغة العربية إلى أن نُغَيِّرَ المجتمَع، فهذه فكرة خاطئة. تغيُّر وتغيير المجتمع والعقليات يكون عبر اللغة، لأنها ليست معزولة عن المجتمَع. أستاذ حمودي، هل فشل التعريب في المغرب؟ أبعدتَني قليلا عن الموضوع بهذا السؤال، وأظنّ أنّ التّعريب في التعليم فشل، ويمكن أن نتحدّث عن العوامل التي جعلته يفشل. هذا الفشل ليس فشلا بمائتين في المائة، بل هو فشل نسبي بما يمكن أن نتصوَّرَه كتعليم ناجح، ويجب أن نبتعد عن الجمل والتَّفكير المطلق والتّعميمات، والمشكل هو التعميمات والأدلجة. رجوعا إلى الأدلجة، يقول الأستاذ عصيد إن عدمَ تهيئة اللغة العربية كان كفيلا بفشلها، وهنا لا أقول إن هناك "عدم تهيئة" بل إن الجهود المبذولة في التأهيل لم تكن كافية، ولم تكن دائما مدروسة علميا وناتجة عن تراكمٍ علميّ. كما يتحدّث عن عدم قدرة لغة هي العربية مليئة بالمحافظَة والأسلمَة واللاهوت على احتمال مضامين العلوم الحَقَّة. وهذا "كليشيه" محض، وأستسمِحكم عن التعبير، فما هي اللغة المليئة بالمحافظَة والأسلَمَة واللاهوت؟ ففي العربية طبعا لاهوت، وخطابات لاهوتية، ولكن فيها خطابات دينية، وفيها خطابات فلسفية، وفيها خطابات فكرية.. وما الذي تعنيه "مليئة"؟ هل هي مليئة بنسبة مائة في المائة أم ثلاثين في المائة أم عشرة في المائة؟ وهذه تعميمات وإطلاقيات، ولا يمكنني شخصيّا أن أقبلَها، وتعرفون ويعرف الأستاذ عصيد الذي قرأ رصيد العربية أنها لغة كتب بها العلماء، وكتب بها الفلاسفة، وكُتِبَ بها الشِّعر، قبل الإسلام وبعد الإسلام، ونظمَ بها حسّان بن ثابت شاعر النبي، ونظم بها أبو نوّاس والبُحتُري والمعرّي. واللغة العربية الحالية فيها كتابات عديدة، نقدية وأدبية، عالية القيمة، ويوجد فيها رصيد علمي، فرصيد الطّبّ تقدّم مثلا في سوريا، وتقدّم حسَبَ علمي في مصر اليوم، وداواني مرارا طبيب مصري في الشَّرق وهو مكوَّن في الإسكندرية.. ولا أطمئن للتّعميمات، وهذا حكم غير مبرَّر. وهل للأستاذ عصيد خبرة في المجال العلمي؟ وهل مارسه؟ هل خالَط العلماء وتكلّم معهم؟ ليس لي مؤشِّر على ذلك. فلا بد أن نخرج من هذه التّعميمات. ويقول إن المشكل عدم قدرَة لغة مليئة بالمحافظَة .. والمشكل يتجاوَز اللغة بل هو في المجتمع، وهذا لا يمكن أن آخذَه بمأخَذ الجدّ. لا أنتقد، بل أستغرب كلاما معمّما، وأناشد النّاس أن يكوِّنوا خبرة قبل التّعميم. فحديثه مثلا عن أنّ المجتمَع غارق في القرون الوسطى.. ما هي القرون الوسطى؟ فنحن الآن في ما بعد العولمَة، ويكتسِحُنا الرّأسمال العالَمي كلّ يوم، وشبابنا داخل الإنترنت، ويفهمُه ويعرف كيف يستَعمِلُه، وحتى لو كانوا مسلمين راديكاليّين، أو مسلمين معتَدِلين، أو يساريين، فهم داخلون في السياق الراهن، وما معنى كلام الدخول في الحداثة؟ هذا بالنسبة لي كلام "كليشيه"، ويجب أن نخرج من هذا المأزق. أخيرا، أناشد الناس الذين يريدون الحديث عن التحوُّل الاجتماعي في مجتمعاتنا أن يفكّروا في التّحقيب، لأن التحقيب بالقرون الوسطى معني بالمسار الأوروبي، ولا يمكن أن يتمّ إسقاطه على مسارنا دون القول بالخصوصية، والحداثي يجب أن يفكِّرَ نقديّا في مفاهيمه. ومفهوم القرون الوسطى يتمّ إسقاطُه على واقع معقَّد، يجب أن يُشخَّص قبل.. وبالنسبة للمسار الإسلامي والعربي لا تعني القرون الوُسطى شيئا، فقد كانت قرون ازدهار، وتوجد كُتُبها، وهذا رصيد موجود، وأن يُسقِط الإنسان مفاهيم دون إعادة النّظر فيها، خطير. لم تكن هناك فقط ردود فعل رافقت نقاش القانون الإطار تنتقد مباشرة عدم قدرة اللغة العربية على تحمُّل تدريس العلوم الحقّة والدّقيقة، بل كانت هناك ردود فعل أيضا تنتقد المسّ بمكانة اللغة العربية في منظومة التربية والتكوين، كان من بين تعبيراتها "جبهة مناهضة الفرْنَسَة" التي ضمّت فاعِلين سياسيين وأكاديميين من بينهم رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، ورئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية فؤاد بوعلي، والأكاديمي عبد القادر الفاسي الفهري، ووجوه إسلامية ويسارية، هل ستكون هذه المبادرة فعّالة في نظرك للحفاظ على مكانة اللغة العربية في منظومة التربية والتكوين؟ أحاول أن أدافع عن فكرة مفادُها الخروج من مفهوم القدرة أو عدم القدرة، لأنه يجب القطع مع هذا لأنه لا يصلُح للتّفكير. والسؤال يمكن أن يطرح بالواقع الراهن لهذه اللغة بالنسبة للعلوم، وهذه مسألة خاصة بالوقت الراهن، لا حديث مطلقا عن هل اللغة قادرة أم غير قادرة، فهذا ليس كلاما، وهذه اللغة قوية. ورغم أنّني درّستُ بالعربية والإنجليزية فإنّني قضيت حياتي أقرَأها، وأقرأ الإصلاحات التي تمّت في ما يسمّى عصر النّهضة، وأقرأ كُتّابَها القدامى والجُدد، وليس عندي أيّ شعور بأنّ لهذه اللغة خلَل داخلي.. وأريد التخلّي عن هذا الكلام المتعلّق بقدرة اللغة العربية وعدم قدرتها، وأتحدّث عن وضعيّة اللغة العربية كظاهرة تاريخية في راهنيّتنا، وهكذا أفكّر. في جانب آخر من سؤالِك، كان عمقه هو ردود الفعل حول القانون الإطار، ولم يثبُت أن الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري وقّع ذلك البيان، ولم أكن على علم بذلك. كان الأستاذ الفاسي الفهري من بين الموقّعين قرأت أنّ من بين الموقّعين مولاي امحمّد الخليفة، وفؤاد بوعلي، وبعض الناس الآخرين. حقيقة، كتبت مادّة صحافية حول هذا الموضوع، وكان الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري من الموقِّعين الأوائل على البيان الذي تأسّست بعده الجبهة عندما كان في مرحلة جمع التوقيعات هو يعقّب وهذه نقطة، ولكن التوقيع على بيان تلك المجموعة شيء آخر، ولا أقول بشكل جازم إنّه لم يوقِّع بل أقول إنه لم يثبت أنّه وقّع، ولكنّ مواقِفَه بالنسبة للغة أحترِمُها، وهو رجلُ علمٍ أحترم عِلمَه، وهو من النّاس القلائل الذين يمكِن الإنصات إليهم في هذا، ويُلِحُّ على ما أفهم على سيادة اللغة العربية، وأنا معه في ذلك، بمفهوم ألا تكون هيمنة على اللّغات الأخرى، أو هيمنة على الأمازيغية، بل سيادة.. لأنها اللغة القومية، وهي اللغة التي يكتُب ويحاضِرُ بها أغلبيّة النّاس، مع ذكر أنّ هناك لغات منتشرة يكتب بها النّاس منها الفرنسية والإسبانية. ويقول عبد القادر الفاسي الفهري بالاستثمار في اللغة العربية، وأنا متّفِق معه تماما، والاستثمار معناه هو أن يبقى التّعريب قائما، وتزيد وتيرته، وتُعطى له الأولوية في التّمويل، والبحث، والباحثين، وتكون مؤسّسة أقوى مما كان، وهذا من جهة. من جهة أخرى، الاستثمار هو البحث من اليوم في مخابِر خاصّة في العلوم الدّقيقة من طرف أناسٍ، رجالا ونساء، يُحِقّونَ العربية، حتى يكتبوا بها بالمستوى المقبول. وهناك أشياء أخرى يمكن أن أتّفق أو لا أتّفق فيها معه، ولكنه يحاول دائما أن يتحرّى ويتكلّم على علم. الأشياء الأخرى مثل آراء بوعلي وغيره، آراء إيديولوجية لا محلّ لها من الإعراب، بالنسبة للتّحليل العلمي، فمثلا تابعت شريط فيديو للمقرئ الإدريسي يقول أُنظروا إلى الألمان فالولد يبدأ بالألمانية من الأوّل ولا تدخل اللغات الأجنبية إلا في سلك متأخّر، دون أن يقول إن اللغة الألمانية متجذّرة في البحث العلمي منذ قرنين أو ثلاثة، إذن يتكلّم الناس جزافا، ومن الأحسن للمقرئ الإدريسي أن يرجع للقراءات السّبع، وهو مختصّ فيها وهذا جيِّد، ولكن أن يتكلّم عن واقع الألمانية.. طبعا، يمكن أن يتركوا الطّلبة يدرسون الألمانية إلى أن يصلوا عمُرا محدّدا ثم تدخل اللغات غير الألمانية؛ لأن لغتهم متجذّرة وعظيمة في البحوث الحديثة العلمية وغيرِها. وهذه هي الأدلجة، أن يتكلّم أحد عن جانب ويكون جاهلا بجوانب أخرى، ولا يشعر بأنّه جاهل بالجوانب الأخرى، ويتكلّم بلغة واثقة من نفسها بغير تبرير.