تقرير إخباري: العدالة الدولية تلاحق "أصدقاء الغرب" وتكسر حصانة الكيان الصهيوني    أشرف حكيمي يجدد عقده مع باريس سان جرمان حتى 2029    بتعليمات سامية من جلالة الملك ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    انطلاق عملية "رعاية 2024-2025" لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    بعد الإكوادور، بنما تدق مسمارا آخر في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا اللاتينية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ارتفاع مؤشر التضخم في شهر أكتوبر    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    أسباب الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف الحرب!    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب        دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا إصلاح للتعليم إلا باللغة العربية
نشر في هسبريس يوم 12 - 11 - 2019

لقد شغلنا وما زال يشغلنا التنصيص على مفهوم "التناوب اللغوي" في مشروع القانون الإطار، المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي. وراعنا وحرك وجدنا ما آلت إليه لغتنا العربية، وما أصابها من هزة تهددها بالانهيار، والتمزق، أو إزاحتها عن مملكتها من خلال ما ورد في المادة الثانية من الباب الأول.
وفي المادة 31 من الباب الخامس وبموجب القانون الجديد سيتم تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة أو اللغات الأجنبية في إشارة يعززها الواقع إلى اللغة الفرنسية، وهذا ينبئ عن تراجع واضح في مسلسل التعريب وإقصاء اللغة العربية من أن تكون لغة التحصيل والتداول والحفاظ على الهوية والانفتاح العلمي رغم أن الدستور المغربي ينص على لغتين رسميتين في البلاد، هما. العربية والأمازيغية، كما أن ما ورد في المادتين كذلك يتناقض مع توجه الإصلاح الاستراتيجي الذي يمثله الميثاق الوطني للتربية والتكوين نفسه، حيث كان التوجه نحو تفعيل الطابع الرسمي للغة العربية في التعليم الجامعي في علاقة بالتخصصات العلمية والتقنية، وذلك لتحقيق الانسجام بين لغة التدريس في الثانوي والجامعي، في أفق توحيدها في اللغة العربية كلغة رسمية للدولة بمنطوق الدستور.
يبدو إذا، من خلال هذا القانون الذي صدر عن الجهات المختصة وبتزكية من بعض الأحزاب السياسية أنه يولي أهمية كبرى للغات الأجنبية، وتتجلى هذه الأهمية في توسيع تدريسها في الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي، وتدريس المواد العلمية بهذه اللغات بل أكثر من ذلك فإن تدريس هذه المواد باللغة الفرنسية أصبح واقعا في التعليم الابتدائي....وبالموازاة مع ذلك نجد فئة من المثقفين المغاربة من جلدتنا ويتكلمون لغتنا ولكن قلوبهم غير قلوبنا، حملوا عن ساداتهم الغرب عبء المعركة، وتناولوا معاول الهدم بأيديهم، وتنكروا من عجب في أزياء المصلحين حينا، وفي مسوح العلماء الباحثين حينا آخر، وأخذوا يروجون فكرة عجز اللغة العربية عن مسايرة التطور العلمي وأنها لم تعد صالحة اليوم لاستيعاب كل الأغراض في العلوم الحديثة، وبالمقابل تسوق اللغة الفرنسية؛ رغم أن هذه الأخيرة تندحر باستمرار حتى في عقر دارها أمام اللغات الأكثر انتشارا في العالم، مثل الإنجليزية والإسبانية في البحث العلمي والتداول اليومي سواء.
والحق أن هذه المقولة، إنما تصدر عن واحد من اثنين من الناس؛ فقد يطلقها جاهل لا يعرف حقيقة اللغة وطبيعتها وما ينبغي أن تكون عليه علاقتها بمجتمعها الذي تعيش فيه، أو يروج لها مضلل ينتصر الانتصار لكل ما هو أجنبي، ويرمي إلى التقليل من شأن مقوماتنا الحضارية وأدواتنا الثقافية.
ولتوضيح الأمر بالنسبة لهذه الشبهات أود أن أوضح أهمية اللغة ومنزلتها وأثرها.. فهي المميز الأول إن لم يكن الأوحد لذاتية الأمة وكيانها، وهي التي تبرز هويتها وتحدد شخصيتها. وبها تكون الأمة أمة، وقد أدرك هذا الزعيم المناضل عبد الله النديم. وهو من الذين خاضوا المعركة دفاعا عن العربية الفصحى وحملوا لواءها، وكان من أشهر مقالاته في هذا الميدان مقال بعنوان " إضاعة اللغة تسليم للذات". ثم اللغة بصفة عامة منهج في التفكير، فالفكرة لا تولد إلا في أثواب من اللغة، بل هي تكون في أثواب من اللغة...ومن عبارات علماء فقه اللغة المحدثين المشهورة:" إن الإنسان لا يفكر حتى فيما بينه وبين نفسه إلا في أثواب من اللغة " كما أن اللغة أيضا وعاء للفكر وهذا ما تراه الماركسية " أن اللغة هي روح الفكر فلا وجود للفكر في الساحة الخارجية إلا بوساطة أداة من اللغة. ذلك لأن اللغة هي الشرط الذي لا بد منه لنشأة العلاقات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية هي التي تهيج الدماغ للقيام بنشاطه الفكري".
وتحتل اللغة هذه المنزلة الخطيرة في النفوس، وتمثل هذا الدور الكبير لا على أنها ألفاظ سيالة تنقضي بمجرد النطق بها فحسب ولكن على أنها آداب، وتقاليد، وعادات وطرق تفكير، ووسائل تعبير، ولون من ألوان الشعور، وفلسفة في الحياة ولذلك فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل والتفاهم فقط كما هو متعارف بين الناس وإنما وظيفتها أكثر من ذلك كما يقول الدكتور أحمد الريسوني "اللغة أداة للتواصل والتفاهم بين الناس هو جزء من الحقيقة، وليس كل الحقيقة. ووصف اللغة بعبارة (اللغة الأم)، هو التعبير الحقيقي الصادق عن دور اللغة ووظائفها. ف( اللغة الأم)، تعني أن للغة وظائف كوظائف الأم. وهذا التعبير بمعناه المذكور، يعفيني من إطالة شرحه والبيان لما تضطلع به (اللغة الأم) من وظائف وخدمات نفسية وعاطفية وتربوية وتثقيفية وتواصلية، مع المحيط القريب والبعيد".
ذلك أن اللغات الأجنبية إذا افتقدت المرجعية يمكن أن تعتبر من أخطر معابر الغزو الثقافي إلى الأمة، عند من يدرك علاقة التفكير بالتعبير، أو علاقة التعبير بالتفكير. ومما لا شك فيه أن الطفل الذي لا يتلقى لغته أو يتشرب روحها في طفولته ينشأ طفلا مفكك الشخصية، هزيل التفكير، لأن الفكر واللغة كوجهي العملة لا يمكن أن يتصور أحدهما بدون الآخر، فالطفل عن طريق لغته يستطيع في مرحلة مبكرة أن يتقبل المبادئ الدينية والخلقية والاجتماعية، ويستطيع عن طريق هذه اللغة أن يشارك الكبار في التشبع بالقيم الموجودة، والتشرب بالتقاليد السائدة لأن اللغة هي الوسيلة الفعالة لاستقبال هذه الخبرات، ولا تستطيع أي لغة أجنبية أن تمد الطفل بالقدر اللازم من المعاني التي تسهم في تربيته تربية وطنية، لذلك تؤكد التربية الحديثة أن في تعليم الطفل لغة أجنبية في سن مبكرة جدا خطرا على كيانه الوطني من جهة ومن جهة أخرى يضر بنموه الثقافي، ويضعف من سرعته لتقبل المعلومات والمهارات الضرورية في مثل هذا الطور يقول عمر عبيد حسنه" ومن هنا ندرك الأبعاد الكامنة على المستوى الفكري والثقافي لاتجاه الذين يمنعون تعلم اللغات الأجنبية، قبل سن الثانية عشرة، حيث تعتبر هذه السنوات الاثنتا عشرة، هي سنوات بناء المرجعية بالنسبة للإنسان...وندرك أيضا أسباب الخلل والإصابات الثقافية التي نعاني منها" ونحن لا ننكر أن تعليم اللغة الأجنبية طاقة ثقافية تزيد من معارفهم وخبراتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا. "أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها" ولكن ينبغي أن يعاد النظر في الوقت الذي ينبغي أن يتعلموا فيه هذه اللغة. لذلك نقول هنا. إن أخطر ما تواجه الأمم، هو التعبير بأوعية الآخرين، والتفكير بوسائل وأدوات وآليات الآخرين، وإن عدم التعريب، يعني. التغريب مهما حاولنا اعتبار اللغة أداة توصيل، وهمشنا دورها في التفكير و تجاهلنا علاقة التعبير بالتفكير والنقل الثقافي5. وإذا كان لنا أن نأخذ من الغرب فلنأخذ قول الفرنسيين. أن اللغة هي الجنسية.
كل هذا الحديث سقته لأطرح السؤال الثاني لماذا نفشل في أن تكون اللغة العربية لغة للعلوم الحديثة بينما هي من أفصح وأوضح اللغات؟ اللغة العربية كغيرها من اللغات صالحة بطبيعتها للتوظيف في مجال العلوم على اختلاف اتجاهاتها ومناحيها. والقول بقصورها أو عجزها عن أداء هذا الدور قول خال من النصفة وتعوزه الحجة. ذلك أن هذا العجز الظاهر في اللغة العربية يرجع في الأساس إلى حرمانها من التوظيف في التعليم والإعلام والإدارة والاقتصاد والبحث العلمي. إن هذا الحرمان قد فوت عليها فرصة التفاعل وهدد طاقاتها وإمكاناتها بالجمود، حيث لم يحركها أولم يستغلها أحد على الرغم من غنى مادتها وثراء محصولها، فبدت غير قادرة على تلبية حاجات هذه الميادين العلمية من وسائل التعبير وأدواته. أما إذا طوعت هذه اللغة وأفسح لها طريق الدخول إلى هذه الميادين فسرعان ما تطور نفسها وتجدد حيويتها وتنمي جوانبها.
والمنقب في الإرث الحضاري للأمة الإسلامية يرى مدى ما كانت عليه اللغة العربية من رفعة وعظمة في القرون الذهبية للحضارة الإسلامية التي ألف فيها ابن سينا وابن يونس والفارابي وابن الهيثم والخوارزمي والزهراوي وغيرهم من الأعلام مؤلفاتهم التي تدهش العقل لأسلوبهم العلمي الأخاذ ولغتهم العربية الرصينة التي كتبوا بها الرسائل والموسوعات وسطروا بها نتائج بحوثهم ومشاهداتهم في كل فروع العلوم، من فلك وجبر وهندسة وطب وجيولوجيا وجغرافيا وعلوم حياة وكيمياء وغيرها لم يفد منها المجتمع العربي بقدر ما أفاد أهل الغرب حين ترجموها إلى لغاتهم ودرسوها في جامعاتهم، ومن خلال مضمونها العلمي تولدت الحضارة الحديثة، وهي في الحقيقة نتاج هذه الكتب التي أهملها أهلوها، ولم يروا فيها أي مشروع للمستقبل.
وقد شهد للغة العربية كبار مفكري الغرب، حتى من بلغوا غاية التعصب ضد الإسلام والعرب، فهذا العلامة "فريتاغ الألماني" يقول "إن اللغة العربية ليست أغنى لغات العالم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العد وقال "ما رجليوت" إن اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية، وإنها إحدى ثلاث لغات استولت على مكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليه غيرها ( مع الإنجليزية والإسبانية ) وهي تخالف أختيها بأن زمان حدوثها معروف، بينما هما لا يزيد سنهما على قرون معدودة، أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ".
لا مناص من الاعتراف بأن اللغة العربية اليوم تمر بمرحلة حرجة في تاريخها وهذا الوضع يذكرنا بوضعها قبل نزول القرآن، في العصر الجاهلي، حيث كانت لغة بدوية تعبر عن متاع قليل يغطي حاجات الإنسان العربي في تلك البيئة، التي لم تعرف حضارة على المستويين المادي والأخلاقي. ولكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن الكريم عليه وهجرته إلى المدينة واستقراره بها عرفت اللغة العربية انتشارا واسعا وخاصة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من حدود الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا حيث قاد فيها المسلمون الحضارة لأكثر من ثمانية قرون.
وبالرغم من أنها خرجت من الجزيرة واتجهت إلى فارس والهند والشام ومصر وعبرت البحار إلى إفريقيا فالأندلس، فإنها استطاعت أن تحتفظ بفصاحتها ووحدتها وكيانها رغم اختلاطها بلغات أخرى، بل إنها استطاعت أن تزيح هذه اللغات وأن تملي سيطرتها على ثقافات الأمم ثم أتى مع الأسف الشديد على هذه الأمة حين من الدهر تعطلت فيه اللغة العربية عن تأدية جوانب هامة من دورها الطبيعي كلغة أم، وعرفت فيما بعد فترة طويلة من الجمود والركود، عرفت بفترة الانحطاط، ولقد أجمع الدارسون على أن من بين هذه الأسباب التي أدت إلى انحطاطها أسباب سياسية بالدرجة الأولى وترتبط بتقهقر الخلافة العباسية وتراجعها الشيء الذي أدى إلى تكالب أطماع الدول عليها خاصة المغول والزحف الصليبي، وفي عهد الأتراك العثمانيين واجهت معركة ضخمة في سبيل البقاء وقاومت محاولة إقصائها وإحلال التركية محلها في المدرسة والمسجد والمحكمة، ثم واجهت بعد ذلك معركة أشد عمقا، ومؤامرة أشد عنفا هي محاولة الاستعمار الذي أشهر عليها حربا أشد قسوة وضراوة وحاول أن يجعل عنوانها." عجز اللغة العربية عن أداء مهمتها إزاء المخترعات الحديثة" كما اتخذت المؤامرة على اللغة العربية ثوب الصراع بين الفصحى والعامية عندما زاحمت العامية الفصحى على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام حتى أننا أصبحنا نسمع من حين لآخر في بلدنا من يدعو إلى استبدال الفصحى بالعامية نطقا وكتابة. وكان ذلك أسلوبا من أساليب إضعاف اللغة العربية وإهمالها وكان أيضا جزءا من المؤامرة لفصل الذات عن مقوماتها تحقيقا لمرام انفصالية مبيتة...
جوهر التحدي يتساءل. كيف للعربية أن تعود إلى الحياة، وأن تعبر عن العصر الحديث بكل معطياته الحضارية؟ وللغويين في الرد على هذا التساؤل باب تلج منه اللغة في نظرهم إلى الآفاق الجديدة، ألا وهو التعريب. والتعريب إجراء لغوي يراد به إدخال كلمات أجنبية في الاستعمال العربي، سواء أكان ذلك مع الاحتفاظ بالمنطق الأجنبي كاملا، أم كان مع بعض التغير في البنية بما يتفق مع القواعد الصوتية والصرفية في العربية، وهو على أية حال لم يؤد إلى نتائج ذات فاعلية وتأثير. واللغة العربية في هذا الأمر ليست بدعا بين اللغات، ففي الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية آلاف مؤلفة من الألفاظ العلمية المشتركة، ومع ذلك نجد كل لغة من هذه اللغات لها شخصيتها المستقلة.
وموضوع التعريب من الموضوعات التي ينبغي أن تدور حولها دراسات متعمقة لحيويتها في مستقبل وطننا الحبيب الذي لا يمكن أن تتجاوز مشكلاته إلا عن طريق تعريب المعاصرة تعريبا حقيقيا عن طريق صنع القدرة الذاتية عليها باستنباتها في أرض اللغة العربية، ورأس ذلك كله هو تعميم التعليم، في كل أنواعه باللغة العربية التي تكون في الوقت لغة الإعلام والتنظيم الإداري والمالي والتشريعي والبحث العلمي كما هو الحال في الدول المتقدمة. ونؤمن بمشاركة اللغة العربية باقي اللغات في الوظيفة الخامسة أي البحث العلمي.
ونكمل مسيرة تعريب العلوم في المستوى الجامعي فخطوات الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، أو كما قال أحد الزعماء السوفيات. "من أجل تحقيق خطوة واحدة إلى الأمام، لا بأس من فعل خطوتين إلى الوراء، إن اقتضى الأمر ذلك. وخاصة أننا لن ننطلق من فراغ وإنما المغرب راكم تجربة كبيرة في هذا المجال حيث منذ حصوله على الاستقلال وهو يولي اللغة العربية كامل عنايته فأنشأ معهد الدراسات والأبحاث للتعريب عام 1960، ونظم أول مؤتمر له سنة 1961 انبثق عنه مكتب تنسيق التعريب في العالم العربي وقام هذا المركز بدوره خلال عمره الطويل، بأنشطة كبيرة في جمع الكثير من المصطلحات وتنسيقها وتنظيمها في معجما ت متخصصة عديدة يقول الدكتور محي الدين صابر: " وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن عدد المعاجم التي أعدها مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بلغ 24 معجما موحدا وافقت عليه المؤتمرات: الثاني والثالث والرابع، وأن هناك عشرين معجما آخر سوف يعرض على مؤتمر التعريب الخامس...
وتابع قوله." بلغ عدد الكتب الطبية المترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية في خلال عشر سنوات 1970 1980 ستا وستين كتابا...إلخ". ثم توالت بعض المحاولات الفردية في المغرب تعريب الطب" ولعل أبرز من قام بالتنظير والتحضير لمسألة تعريبه الأستاذ السابق بكلية الطب بفاس أمل العلمي إذ بذل الرجل مجهودات طيبة بالتنسيق مع المكتب الجهوي لمنظمة الصحة العالمية وأصدر كتبا ووثائق ومقالات في محاولات لتأسيس لبنات تهيئ لمشروع تعريب الطب في المغرب" وزادت في الآونة الأخيرة الرسائل والأبحاث العلمية حيث بلغت عدد أطروحات الدكتورة التي نوقشت باللغة العربية حتى الآن 10 أطروحات بكل من كليات الطب بالعاصمة الرباط، الدار البيضاء، وفاس " وقال أحد الأطباء وهو عدنان العلوي الإسماعيلي بعد مناقشة دكتوراته باللغة العربية حول موضوع" الطب المجتمعي والصحة العمومية" والكلام بالجريدة نفسها قوله: " على أنه لا مبرر للاستمرار في التدريس باللغة الأجنبية، خاصة وأن المصطلحات العلمية في التخصص لا تتجاوز 3/، فيما الباقي عبارة عن لغة للتواصل والشرح ".
ثم اتسعت بعد ذلك رقعة التعريب بالمغرب لتشمل التعليم الابتدائي والثانوي واستمرت التجربة أربعين سنة متواصلة في تعريب المواد العلمية، من حساب وهندسة وجبر وعلوم طبيعية وفيزيائية وكيميائية. اكتسبت فيها العربية ثروة هائلة من المصطلحات والألفاظ. وتخرج على مدى أربعين سنة على انطلاق مشروع تدريس المواد العلمية بالعربية 29 فوجا من حاملي البكالوريا العلمية بالمغرب، وبعد أن اتسعت دائرة الأمل في سياسة لغوية مندمجة تحفظ الهوية اللغوية للمغاربة " وعوض السير إلى الأمام واستثمار هذه التجربة المهمة بخطوات حثيثة نحو تعريب التعليم العالي وجدنا أنفسنا نعود إلى الوراء ونعيش حالة فوضى لغوية عارمة لذلك أعتبر أن التراجع عن التعريب في المغرب مأساة كبرى ولا سيما أن هذا التراجع جاء بعد ثلاثين عاما من تجربة التعريب التي أريد لها الفشل، ولو أريد لها أن تنجح لنجحت " تجربة تعريب المواد العلمية في التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي في المغرب نجحت وقدمت أرضية صالحة للتعريب، من حيث الأطر والكتب الدراسية، وقدرة استيعاب التلاميذ للمواد العلمية باللغة العربية.
وما عادت المصطلحات تمثل عائقا في تدريس تلك المواد وفهمها والتفاعل معها ولكن أعداء العربية حكموا عليها بالفشل وبخصوص المبررات التي ساقها هؤلاء، مردود عليها من قبل أهل الاختصاص تقول خبيرة اللسانيات الاجتماعية وديداكتيك اللغات، يمنة القراط العلام في حوار مع جريدة " العمق " إن الاستعجال هو السبب الرئيس في فشل منظومة التعليم بالمغرب، موضحة أن المغرب لا يتوفر على رؤية متكاملة للتعليم، ورأت الخبيرة في التراجع الذي وقع في 2016، لما قام المجلس الأعلى للتربية والتكوين بالرجوع إلى اللغة الفرنسية، أنه يتضمن رسالة واضحة للمجتمع المغربي وهي الاعتراف أن التعريب قد فشل وأن عملية التعريب لم تكن ناجحة " مؤكدة قولها. " أنا أظن من العيب أن نحمل فشل المنظومة التربوية للغة العربية...التعريب لم يفشل لأنه اعتمد اللغة العربية ولكنه فشل بسبب عدم أخذ المسؤولين الوقت الكافي لتطوير الرؤية والبرامج وتهيئة المختصين وإعطاء التكوين المستمر للأساتذة حتى يتعاملوا مع اللغة العربية، وقد عشت هذه التجربة".
أما الخبير عبد العلي الودغيري العالم اللساني المغربي في حوار له مع جريدة هوية بريس فيقول." التعريب في المغرب لم يفشل كما يروج المغالطون. كان ناجحا في الابتدائي والثانوي، ثم أوقف عمدا كي لا يواصل نجاحه، وكي تكون هناك قطيعة مع المرحلة الجامعية يرفضها الناس...والدليل هو هذا العدد الكبير من المهندسين والأطباء وغيرهم من الأطر العليا التي تنجح وتتخرج في كل التخصصات، وأعداد أخرى تحصل شهاداتها بالمغرب ثم تهاجر لتشتغل في أوروبا وغيرها كل سنة باعتراف وزير التعليم نفسه ( 600 مهندس كل عام )...والدليل أيضا أن عددا من حاملي البكالوريا المغربية المعربة يجدون مكانهم بسهولة في جامعات الدول الأجنبية أوروبا الشرقة وألمانيا وغيرهما...والدليل مرة أخرى هو المعدلات المرتفعة التي يحصل عليها التلاميذ في المواد العلمية بالباكالوريا، والمعدلات المرتفعة للقبول في المدارس العليا وكليات الطب والصيدلة. ومع ذلك نتحدث عن فشل التعريب".
هذه المقولة قد تبدو صحيحة في ظاهرها ولكنها –بالقطع مقولة مضللة عارية من الحق والصدق. ذلك أن هذا العجز الظاهر في اللغة العربية إنما مرده إلى القرار السياسي الذي أوقف التعريب عند نهاية التعليم الثانوي ولم يتركوه يكمل مسيرته ونجاحه، حيث قوبلت " كل توصيات ومطالب تعريب التعليم العلمي العالي بالتجاهل والرفض، حيث أنهي تكليف اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1995، وظلت توصيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين المتعلقة باللغة العربية حبرا على ورق ومنها إحداث أكاديمية محمد السادس للغة العربية التي صادق البرلمان منذ 2003 على القانون الخاص بها، وإنشاء شعب علمية اختيارية معربة في التعليم العالي رغم تقديم مقترحات مكتملة العدة البيداغوجية في هذا الشأن".
أما اللغة العربية كانت ومازالت من اللغات الحية السائدة في العالم العربي والإسلامي، بما يؤهلها للقيام بدور فعال في خدمة مجتمعنا وأبنائنا بتيسير العلوم لهم وترغيبهم في تلقيها، لم تعجز في الماضي ولن تكون عاجزة في المستقبل عن مجاراة التقدم العلمي الحديث. وهي التي حملت أمانة الحضارة طوال القرون الوسطى ومنحتها جميع المصطلحات الإنسانية والتقنية والعلمية في عصر كانت فيه وسائل التواصل الفكري بين البلاد والمجتمعات شبه بدائية....فالعجز والعيب ليس في اللغة العربية ولكن في الأمة العربية. خصوصا وأن بعض البلاد العربية قد خاضت التجربة، ولعل سوريا من الأقطار العربية التي بدأ التعليم العالي في جامعاتها باللغة العربية منذ عام 1919 حتى اليوم وفي كل فروع العلوم والتخصصات بقدرة ونجاعة.
وأمامنا أيضا أمثلة في لغات أخرى ليست في شأن اللغة العربية. ولا حرج إذا أخذنا الدرس من عدونا. فحينما حاولت إسرائيل بعث اللغة العبرية اللغة الميتة التي لا تحمل تراثا يذكر من علم أو فكر أو أدب أو فن حاولت بعثها من القبور لتكون لغة الوظائف العليا للسان بينهم، ففرضوها في مدارسهم وجامعتهم في الوقت الذي لا يوجد من يتكلم بها في الحياة العامة، فكل إسرائيلي يتكلم لغة الدولة التي لفظته في محيط حفنة من البشر لا تزيد على ثلاثة ملايين...والعبرية لا تقارن باللغة العربية في امتداد ها التاريخي وتراثها الغني وانتشارها الملاييني الحي.. واليابان تمثل أنموذجا حيا في هذا المجال حيث اعتمدت في نهضتها الحديثة على اللغة القومية وليس على اللغة الإنجليزية، فحتى مطلع القرن التاسع عشر كانت اليابان في عداد الدول المتخلفة، واحتاجت إلى علوم العصر وصناعته، ولكنها أدركت بوعي أنها لن يتم لها امتلاك ناصية العلوم وزمام الصناعة إلا بنقلها إلى لغتها، ومن هنا نقلت العلم والتقنية إلى اللغات اليابانية، برغم ما فيها من الكثرة في اللهجات والصعوبة والتعقيد
إن مدخل التنمية المنشود هو اللغة العربية. فليس هناك دولة متقدمة واحدة تدرس بلغة أجنبية. فالدول الأوروبية والأمريكية، وكذلك المجموعة الأسيوية التي تستخدم فقط اللغات الوطنية هي الدول المتقدمة. أما الدول التي تدرس بلغة المستعمر، أو يوجد بها تعليم مزدوج، فيشهد واقعها الاقتصادي أنها ليست متقدمة. من حقنا أن نتساءل كمغاربة لماذا هذا التشبث باللغة الفرنسية وجعلها تحتل مواقع السيادة والريادة في مجالات التعليم والإعلام، والإدارات والمعاملات الحكومية، والمرافق الاقتصادية والتجارية والخدماتية.. ماذا حققت لنا هذه اللغة بعد مدة تقارب القرن من الزمن منذ 1912.
في مجال التنمية، حقيقة لم تحقق شيئا يذكر. والأمر مفهوم حتى عند الأقل ذكاء " والسر هو كون تعميم نتاج البحث والخبرة على المجتمع المغربي المنتج شبه مستحيل لكون الفرنسية ليست لسان المغاربة من جهة. ومن جهة أخرى لم تعد لغة علم، وما يكتب فيها أصبح لا يواكب البحوث العلمية الحديثة التي أضحى جل مصادرها باللغة الإنجليزية " وبالمناسبة فعلى المدافعين عن استمرار سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان أن يعرفوا أن نسبة مساهمة اللغة الفرنسية بين باقي اللغات في البحث العلمي لا تتعدى اليوم2.5...فمن العبث ومن الوعي الشقي العمل على تنمية مجتمع ما وتعميم المعرفة العلمية عليه بلغة لا يفقهها إلا أقل من 10/ من سكانه "12 وضعية اللغة الفرنسية في السوق اللغوية العالمية الآن تعيش على وقع تراجع خطير جدا يعترف به الفرنسيون أنفسهم ويسعون إلى توظيف اللغة الإنجليزية في التدريس فقد كشف موقع روسيا اليوم " نقلا عن كتاب حقائق العالم " الصادر عن الاستخبارات الأمريكية عن ترتيب اللغات الأكثر تداولا في العالم، حيث احتلت اللغة العربية المرتبة الرابعة ضمن قائمة شملت 10 لغات، فيما حلت اللغة الإنجليزية على رأس القائمة، بينما تراجعت اللغة الفرنسية إلى المرتبة التاسعة أي ما قبل الأخيرة ".
وختاما نقول، بعد أن استبشرنا خيرا بصدور رؤية استراتيجية لإصلاح التعليم تحدد ملامح واضحة لما ينبغي أن تكون عليه منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في أفق 2030. اتضح لنا أن هذه الرؤية بنيت على الإرث الاستعماري بفرض اللغة الفرنسية كأمر واقع على منظومة التعليم في المغرب إذ لا تخرج عن سياق إعادة إنتاج المنظومة الاستعمارية، ثقافيا و لغويا ".
ولعل هذه الرؤية تتناقض مع منطوق دستور 2011 الذي يؤكد في الفصل الخامس من الباب الأول على أن اللغة العربية تظل اللغة الرسمية للدولة مع التأكيد على أن الدولة مسؤولة عن حمايتها و تطويرها و تنمية استعمالها.
وتتناقض كذلك مع منشور تعزيز استعمال اللغة العربية في المرافق الإدارية رقم 5896 الذي أصدره الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي في 22شعبان 1419 الموافق 11 دجنبر 1998 الذي ظل بدوره حبرا على ورق.
كما تتناقض " مع توجه الإصلاح الاستراتيجي الذي يمثله الميثاق الوطني للتربية و التكوين نفسه، حيث كان التوجه نحو تفعيل الطابع الرسمي للغة العربية في التعليم الجامعي في علاقة بالتخصصات العلمية و التقنية، وذلك لتحقيق الانسجام بين لغة التدريس في الثانوي والجامعي، في أفق توحيدها في اللغة العربية كلغة رسمية للدولة بمنطوق الدستور.
وإلى أن يرفع عن لغتنا هذا التناقض البين، والمدعوم سياسيا واقتصاديا وإعلاميا وثقافيا واجتماعيا بنخب ماسكة بكل القرارات في القطاعات الاستراتيجية بالمغرب، ستظل منظومتنا التربوية على ما هي عليه من الفشل تلو الفشل، إلى أن تعود الأمة إلى صوابها، وصوابها التعليم باللغة الأم (العربية)، لأن الاستيعاب بها يكون أسرع والتواصل بها يكون أسهل والقدرة على الإبداع تكون أكبر. وإنما اللغة العلمية الأم في هذا البلد هي العربية اعترف بذلك المعترفون، أو جحده الجاحدون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.