عندما أيقظ أزيز القاذفات الألمانية الطفلة البولندية صوفيا بورشاسينسكا التي كان عمرها 11 عاما، قبل فجر يوم شتنبر 1939، اعتقدت أنها أصوات الأبقار. لم تكن أمها تتوقع أن تكون هذه هي بداية الحرب، وتصورت أن ما يجري مجرد تدريب مخطط له. وقالت الأم: "من الأفضل أنك استيقظت"، فلم يمر وقت طويل حتى انهار جزء من سقف المنزل، واضطرت الأم والابنة إلى الفرار من المبنى حافيتين وبملابس النوم. لقد كانت مدينة "فيلون" البولندية أول مدينة تتعرض للقصف في الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت كانت المدينة على بعد 12 كيلومترا من الحدود الألمانية. ولم يكن في هذه المدينة أي قوات عسكرية، ولا دفاع جوي ولا منشآت صناعية، ومات فيها نحو 1200 شخص بسبب القصف الألماني. ولم تعد بورشاسينسكا إلى المدينة إلا في 1945، حيث كانت ملامحها قد تغيرت تماما؛ فلم تعد قادرة على التعرف عليها. تقول بورشاسينسكا إن والدها اضطر بعد العودة إلى تعريفها بالطريق إلى مدرستها، حيث كان الطريق قد تغير تماما؛ "فأماكن المنازل تحولت إلى أطلال من الركام". تبلغ بورشاسينسكا، التي كانت طفلة في بداية الحرب العالمية الثانية من العمر، الآن، 91 عاما وهي واحدة من بولنديين كثيرين يعتقدون أنه على ألمانيا تدفع تعويضات لبولندا. ووفقا لاستطلاع رأي أجرته صحيفة "ريتسبوسبوليتا" في ماي الماضي، فإن حوالي نصف المشاركين يؤيدون حق بولندا في مطالبة ألمانيا بتعويضها عن أضرار الحرب العالمية الثانية؛ في حين يعارض حوالي ربع المشاركين الفكرة. تقول بورشاسينسكا إن "ألمانيا هي التي بدأت الحرب التي جعلت بولندا أفقر.. وقد تم نهب أو تدمير الكثير من الأعمال الفنية"، التي كانت موجودة في بولندا. لقد عادت قضية الحصول من ألمانيا على تعويضات إلى جدول أعمال البولنديين منذ وصول حزب القانون والعدالة إلى السلطة في عام 2015. وقد تم تشكيل لجنة برلمانية برئاسة النائب عن حزب القانون والعدالة أركاديوتس مولارتسيك، لتقييم حجم الأضرار التي عانت منها بولندا أثناء الحرب. وحسب تقديرات غير رسمية، فإن قيمة الخسائر التي تكبدتها بولندا بعد الحرب، وفقا للتقارير التي وضعت في ذلك الوقت وبعد حساب معدل التضخم، تصل إلى أكثر من 880 مليار دولار. ويقدر المؤرخان الألمانيان كارل هاينز روته وهارتموت روبنر، اللذان يستعدان لنشر كتاب عن التعويضات في أكتوبر المقبل، أن الأضرار التي سببتها ألمانيا في 21 دولة تصل إلى 7.5 تريليون يورو (8.3 تريليون دولار). وبعد استبعاد حوالي تريليون دولار دفعتها ألمانيا بالفعل كتعويضات عن أضرار الحرب حتى الآن، فإن قيمة هذه التعويضات تعادل حوالي ضعف إجمالي الناتج المحلي السنوي لألمانيا، حسب المؤرخ الألماني روته، مضيفا أنه لا يمكن تحمل مثل هذه المبالغ حتى بالنسبة لدولة عملاقة اقتصاديا مثل ألمانيا. وقال روته إن المطالبة بصرف تريليون دولار إضافية كتعويضات يتم توزيعها على ما يصل إلى 15 دولة، يعتبر مطلبا واقعيا. ويرى المؤرخان الألمانيان أن هذه التعويضات الجديدة تعتبر حيوية لما يسميانه "المحيط الأوروبي"، ويقولان إنها ستدعم عملية التكامل الأوروبي. من ناحيته، قال ياتسيك تشابوتوفيتش، وزير خارجية بولندا، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، في وقت سابق، إن بلاده ليس لديها حاليا أي خطط للمطالبة بتعويضات عن زمن الحرب؛ لكن "من الصعب القول إن هذا الملف أغلق". وأضاف أن يجب "مقارنة الخسائر التي تكبدتها دول أخرى، بالخسائر التي تكبدتها بولندا... هناك دول تعرضت لخسائر أقل مرات ومرات من خسائر بولندا لكنها حصلت على تعويضات أكبر". كانت بولندا قد تكبدت خسائر بشرية ومادية هائلة أثناء الحرب، حيث مات حوالي 6 ملايين مواطن بولندي؛ بينهم حوالي 3 ملايين بولندي يهودي. كما تم تدمير العديد من المدن والقرى البولندية. وعندما انتهت الحرب لم تخرج بولندا منها منتصرة، حيث حل الاحتلال السوفيتي المرفوض شعبيا محل الاحتلال الألماني، ليستمر الاحتلال الروسي حوالي نصف قرن. ووفقا لبنود مؤتمر بوتسدام عام 1945، فإن بولندا كان لها الحق في الحصول على جزء من التعويضات المخصصة للاتحاد السوفيتي؛ ولكن في مقابل هذه الأموال، أجبر الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين سلطات بولندا على إمداد الاتحاد السوفيتي بالفحم بأسعار تقل كثيرا عن أسعار السوق. وبالنسبة للحكومة الألمانية، فإن ملف التعويضات لم يعد مطروحا للنقاش، حسب تصريحات وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في العاصمة البولندية وارسو في وقت سابق من الشهر الحالي. وحسب تقرير صادر عن البرلمان الألماني، فإن بولندا فقدت الفرصة في المطالبة بالتعويض خلال الفترة من 1953 إلى 1970. أما وزير خارجية بولندا تشابوتوفيتش فيرى أنه لا يجب النظر إلى موضوع التعويضات من منظور قانوني فقط، وإنما أيضا من منظور العدالة والأخلاق. ولكن بافيل أوكراسا، عمدة مدينة فايلون حاليا، يرى أن موضوع التعويضات ثانوي، وقال: "نحن نقيم علاقات جيدة مع المدن الألمانية الشريكة لنا، ونريد استمرار هذه العلاقة بيننا"، مضيفا في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية: "لا نريد أن تؤدي التعويضات إلى تدهور العلاقات". كما ترى بورشاسينسكا ضرورة المحافظة على العلاقات الألمانية البولندية الجيدة. وقالت: "بالنسبة لي من الصعب أن أعفو.. لكنني أعتقد أن جيل أبنائي وأحفادي وربما أحفاد أبنائي لا يجب أن يحملوا هذه الكراهية تجاه الألمان، فهذا لن يؤدي إلى أي شيء". *د ب أ