السفير الوزير الصّديق محمد العربي المسّاري- الذي حلّت ذكرى رحيله الرابعة في الخامس والعشرين من شهر يوليوز الفارط 2019- أحمل له في قلبي ذكريات جميلة، فقد تقاسمنا معاً معايشات صداقةٍ قِوَامُها الاحترام والتقدير المتبادلان، سواء في المغرب أو في إسبانيا، التي كان يزورها في العديد من المناسبات، والتي كتب عنها الكثير، وكان الإسبان ينظرون إليه وإلى كتاباته بعين الحيطة والحذر لمعرفته العميقة بمجريات السياسة الإسبانية الداخلية، وتاريخها، وثقافتها، حيث تابع دراسته بها في شرخ شبابه وريعان عمره. كان المسّاري أوّل من عيّنني مراسلاً من إسبانيا في جريدة "العَلم" المغربية عندما كان مديرها في ثمانينيات القرن الفارط، وكان أوّل من فتح لي بطاقة خاصّة للتعويضات عن مقالاتي التي كنت أنشرها بها، وأوّل من دافع عنّى جهاراً أوائل السّبعينيات عند انضمامي إلى "اتحاد كتّاب المغرب "، وأوّل من كتب مقدّمة ضافية عن أول كتبي عن أمريكا اللاّتينية، الذي يحمل عنوان "ذاكرة الحلم والوشم".. (قراءات في الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر)"، وكان أوّل من اتصل بي عند تعيينه سفيراً في البرازيل لأعمل إلى جانبه كشخصٍ ثانٍ بهذه السفارة، وأوّل مَنْ هنّأني عند تعييني قنصلاً عامّاً في جزر الخالدات وفي مدريد، ثمّ سفيراً للمغرب في العديد من بلدان أمريكا اللاّتينية. كان يتّصل بي باستمرار في العديد من المناسبات للمشاركة في مختلف اللقاءات، والندوات الثقافية والأدبية التي كانت تنظم داخل المغرب وخارجه، وكنتُ أوّلَ من أهداه كتابه عن التسامح والإخاء بين أدباء المهجر الأمريكي الذي يحمل عنوان "إسلاميات أدباء المهجر" عندما كان سفيراً لبلاده في البرازيل.. وهنا يكمن بيت القصيد في هذه العجالة، فقد ظلّ هذا الكتاب مُودعاً في رفّ من رفوف مكتبتي بحاضرة "أجدير" الحصين بعد أن حالت مشاغل العمل المتواصلة التي لا تنتهي، ومهام السّفر، والترحال، والتجوال، والتنقال خارج أرض الوطن دون قراءته كاملاً قراءةً موفية ومتأنّية والاستمتاع به في حينه، وبعد أن انتهى إلى علمي نبأ وفاته المباغتة منذ أربع سنواتٍ خلت عُدتُ مهرولاً إلى مكتبتي لأبحث من جديد عن هذا الكتاب حيث التهمته التهاما بفيضٍ من المحبّة، والحنين، وبشعورٍ مُفعمٍ بهالةٍ من الحسرة، والأسىَ، والحُزن والألم على فقدان هذا الصّديق الغالي. أدب المَهجر الأمريكيّ يعالج المساري في هذا الكتاب مسألة التسامح والإخاء عند أدباء المهجر الأمريكي على وجه الخصوص، حيث يشير في مستهلّ كتابه إلى أنّ الواعز الذي كان قد دفعه إلى وضع هذا الكتاب هو المحنة التي كان يعيشها اللبنانيون بالخصوص في لبنان، حيث إنهم عاشوا قبلها في تلاؤم ووئام، بل في أمان وانسجام "لا فرق بين مسلميهم ومسيحيّيهم إلاّ في الطقوس التي كان يناجي بها كلٌ منهما ربّه"، مُستدلاّ بشواهد تاريخية من الماضي على أن "المحنة التي عاشتها لبنان آنذاك إنما هي أمر طارئ". وخير دليل في نظره هو التراث الذي يزخر به أدب المهجر في هذا السبيل. ويرى المساري أنّ أكثر مما يوضّح هذا الاتجاه هو "التسامح والإخاء وسعة الأفق عند إخواننا مسيحيي المشرق، وما أنشدوه شعراً، وما كتبوه في مجال التغنّي بفضائل الإسلام"، فانكبّ على بحث وتقصّي إسلاميات شعراء المهجر، وكانت نتيجة ذلك جدّ غنيّة، كما يقول هو نفسه عند تقديمه لهذا الكتاب، الذي صدّره بتقديم ضافٍ ووافٍ حول أوّل مظهر من مظاهر الأدب المهجري، التي استرعت اهتمام القارئ أو الباحث، وهي مدى إعجابهم وتغنّيهم بفضائل وأخلاق الرّسول الكريم فيما أسماه "المولديات" (نسبة إلى المولد النبوي الشريف)، التي تكوّن باباً رئيسيّاً هامّاً في مجموع الأدب المهجري في هذا الكتاب. أشعار بليغة وكلمات مؤثرة يستدلّ محمد العربي المساري في هذا الكتاب بالعديد من شعراء المهجر، بعضهم معروف لدى الدارسين، وبعضهم الآخر تعرّض له لأوّل مرّة بفضل حسّه الأدبي الرّفيع، وفضوله العلمي، وتقصّيه وتتبّعه بدون هوادة لغير قليل من المراجع والمظانّ، مغتنماً وجوده في البرازيل عندما كان سفيراً لبلاده بها، وانكبابه ودراسته لكثير من المصادر والوثائق والخطب والكلمات. ويورد عشرات الأبيات المؤثّرة والبليغة في التغنّي بمولد الرسول الأكرم، خاصّة لدى كتّاب وشعراء المهجر المسيحيّين بالذات. وأوّل استدلال أورده في هذا الصدّد كلمات للشاعر المهجري الكبير جبران خليل جبران، يقول فيها: "خذوها يا مسلمين كلمة من مسيحي أسكن يسوعَ في شطر حشاشته ومحمّداً في الشطر الثاني". ويقول حسني غراب، وهو من شعراء المهجر في البرازيل، في إحدى المولديات : شعلة الحقّ لم تزل يا محمّد منذ أضرمت نارها تتوقّد جئت والناس في ضلال وغيّ وسيف الهدى في يديك مُهنّد ويقول الشاعر نصر سمعان: بزغت فحيّت الجوزاءُ مهدك وأعلنت فوق مجد الشمس مجدك وكلّ فمٍ له الفصحىَ لسان يردّد بعد حمد الله حمدك ويشير الفقيد إلى أنّ تغنّي الشعر المهجري بمكارم الرسول ينطلق، في نظره، من فكرة تكريم أبرز اسم في تاريخ العرب تتجلّى فيه معاني العزّة والافتخار بماضي الأمّة العربية. فضلاً عن أن هذه الأشعار "ترمي إلى التبشير بفضيلة التسامح، والتحذير من التفرقة"، كما تهدف إلى "ترسيخ مفاهيم النهضة القومية التي تقوم على قاعدة عاطفية جدّ قويّة". ويشير الباحث إلى أن "الجمهرة الغالبية من المهاجرين كانت ولا تزال من المسيحيين، وهؤلاء كما هو مكرس في تاريخ تكوّن المهاجر العربية في الأمريكيتين نزحوا بدافعيْن اثنين، هما البحث عن تحسين العيش، والبعد عن الاضطهاد، وخاصة أيام الحكم العثماني". ويورد الباحث معلومات طريفة اعتمادا على مذكرات أوّل قنصل عثماني في أمريكا اللاتينية (نشرت عام 1934)، وهو أمين أرسلان، الذي يشير إلى أن عدد العثمانيين أو الأتراك (وهذا هو الاسم الذي كان يطلق على المهاجرين العرب نظراً إلى كونهم جاؤوا يحملون جوازات سفر تركية في ذلك الإبّان)، وهم أساساً السوريون واللبنانيون والفلسطينيون. كانوا في عهده مائة ألف في الأرجنتين وحدها، وأكثر من ذلك العدد كان موجوداً في البرازيل. ويورد الكتاب معلومات قيّمة حول الهجرة العربية إلى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية بشكل عام. التميّز الثقافي في بلاد المهجر وتحت باب التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة يسوق الكاتب بعض الفقرات من الكلمات أو الدراسات التي سجّلها بعض الكتّاب وضمّنوها انطباعاتهم حول العالم الجديد. ومن أطرف ما أورده في هذا السياق فقرة من مقال لأمين الريحاني حول نيويورك يقول فيها: "أحشاؤكِ من حديد، وفيها عقمة، صدرك من خشب وفيه سوسة، فمكِ من نحاس وعليه صدأة، جبينكِ من الرّخام وفيه جمود، تشربين ذوب الإبريز، وتأكلين معجون اللّجين، وتنتعلين أجنحة العلم، أمّا قلبكِ فقار يشتعل!". كما يتحدث المؤلف عن الفطرة العربية التي جُبل عليها المهاجريون. وينقسم هذا الكتاب إلى عشرة أبواب، منها: التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة، التحرّر الديني، التبشير بالتسامح، التصدي للطائفية، احترام الرابطة القومية، الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر، مواكبة حثيثة لمشاغل أدباء المهجر، التغنّي ببطولات العرب. ثمّ خصّص المؤلف باباً قائماً بذاته للنصوص التي تتضمّن أشعاراً وكلمات وخطباً وخواطر ومقالات. ويصل بنا الباحث بعد ذلك إلى صُلب موضوع كتابه الرئيسي وهو التسامح والإخاء عند أدباء المهجر، حيث يتناول أدباء المهجر المسيحييّن، ويشير إلى أنّ "المادّة في هذا الباب جدّ غزيرة ومبعثها هو نبذ التمييز، والتبشير بالتسامح، ورفض الطائفية، والتغنّي بتاريخهم التليد وبأمجادهم الغابرة. ويورد الكاتب في هذا الصّدد بعض الأبيات التي تشير إلى هذه المعاني، كما أن الصّور الإسلامية تتواتر بسلاسة في شعر المهجرييّن المسيحيّين. ويورد في هذا القبيل أبياتاً للشّاعر اللبناني الكبير إليا أبي ماضي من قصيدته "وطن النجوم"، يقول فيها : وطن النجوم أنا هنا حدق أتذكرُ مَنْ أنا أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا أنا من مياهك قطرة فاضت جداول من سنا كم عانقت روحي رباك وصفّقت في المنحنىَ للّيل فيك مُصلّيّاً للصّبح فيك مؤذنا الغريبُ للغريبِ قريبُ ويشير المؤلف إلى أنّ مُهاجري البرازيل من العرب كوّنوا أندية لجمع شملهم كانت تعتني بإقامة حفلات بالمناسبات الوطنية والثقافية، ومع الأيام صار تقليداً ثابتاً في تلك النوادي، وهي أساساً للمسيحيين، وهم الجمهرة الغالبية في المهجر، الذين لا يتوانون في تنظيم احتفالات بمناسبة عيد المولد النبوي، ويندر أن تجد شاعراً مهجريّاً لا يشارك في هذه المولديات. ويقوم بعد ذلك الباحث بإجراء تحليلٍ ضافٍ لمعظم القصائد التي تضمّنها كتابه، وينتهي إلى القول: "إنّ الأديب المهجري تناول هذا الموضوع، باعتباره تراثاً متوارثاً، معبّراً في الوقت نفسه عن احترامه لجانب العقيدة، ومجاملة لإخوانه العرب المسلمين". وقد أدرج الباحث في هذا الصدد ضمن كتابه منتقيات ومختارات من القصائد حول الشعور الديني لدى هؤلاء الشعراء المهجريين، فضلاً عن نصوص تتضمّن مقطوعات نثرية من خطب وكلمات ومقالات وانطباعات ومداخلات. ولا ريب أنّ القارئ يدرك مدى الجهد الذي بذله المؤلف في هذا الكتاب، سواء في الدراسة الرّصينة التي تصدّرته، أو في بحثه وتقصّيه للعديد من المراجع، والمصادر، والمظانّ، والوثائق، والمراسلات، والصحف، والمجلات، والدواوين، والكتب المهجرية. ولا ريب كذلك أنّ موضوعه هذا سوف يفتح الباب على مصراعيه للباحثين في الأدب المهجري. ولم يحصر الباحث في كتابه لشعراء المهجر وحسب، بل تجاوزه إلى مواضيع أخرى شيّقة وطريفة متعدّدة، لها صلة بالهجرة العربية، والاغتراب إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبيّة. ويعتبر هذا الكتاب والحالة هذه إضافة نوعية للمكتبة العربية، ومرجعاً لا محيد عنه للدارسين، والمتتبّعين للأدب المهجري، والهجرات العربية (للمسلمين وللمسيحيين على حدٍّ سواء) في القارة الأمريكية بشكل عام، وفى البرازيل على وجه الخصوص. مشاغل الفقيد الدبلوماسية والسياسية لم تلهه قطّ، ولم تشغله أبداً، ولم تثنه البتّة عن الخوض في غمار الثقافة والعلم والأدب والصحافة والإعلام والكتابة والتأليف. في الخامس والعشرين من شهر يوليوز عام 2015 فقدنا هذا الكاتب الفذّ، والصّحافي المتميّز، والدبلوماسي الحاذق، وفقدنا معه جزءاً هاماً وغالياً من ذكرياتنا، ومعايشاتنا، وصولاتنا، وجولاتنا في الصحافة، والأدب، والثقافة، والدبلوماسية، والحياة.. كان مسكوناً ومهووساً ومَشغولاً ومُنشغلاً ومفتوناً كذلك بالتنقيب والبحث في تاريخ الحركة الوطنية في بلاده، أو ما أصبح يُسمّي بتاريخ المغرب المعاصر، وفي طليعته حرب الرّيف التحررية الماجدة، حيث كنتُ عندما أحكي له بعض القصص والحكايات والوقائع والأحداث، التي سمعتها عن أبي الذي استشهد والدُه، رحمهما الله تعالى، في معركة أنوال الشهيرة (التي عشنا ذكراها 98 في 21 من شهر يوليوز المنصرم) كان يُصغي إليّ باهتمام بالغ، وبشغفٍ كبير. لقد كتب المساري الكثير عن هذه الحرب ولن نذهب بعيداً، فآخر كتبه قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى كان يحمل عنوان "محمد بن عبد الكريم الخطابي.. من القبيلة إلى الوطن". *كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الامريكية للآداب والعلوم- بوغوطا - كولومبي