يدور موضوع كتاب محمّد العربيّ المسّاري (الذي حلّت ذكرى رحيله الثالثة في 25 يوليوز الفارط 2018) حول "المسألة الدينية" و"روح التسامح عند أدباء المهجر الأمريكي"، وعنوانه الأصلي "إسلاميّات أدباء المهجر". يتّضح لنا بعد قراءة متأنّية لهذا الكتاب أنّ الواعز الذي كان قد دفع بصاحبه إلى وضعه هو المِحنة التي كان يعيشها إخواننا اللبنانيون بالخصوص في لبنان، حيث إنهم عاشوا قبلها في تلاؤم ووئام، بل في أمان وانسجام "لا فرق بين مسلميهم ومسيحيّيهم إلاّ في الطقوس التي يناجي بها كل منهما ربَّه"، مستدلاّ بشواهد تاريخية من الماضي تشير، على حدّ قوله، إلى أن "المحنة التي عاشتها لبنان آنذاك إنما هي أمر طارئ". وخير دليل على ذلك، في نظره، هو التراث الهائل الذي يزخر به أدب المهجر في هذا السبيل. ويرى المساري أنّ أكثر ما يوضّح هذا الاتجاه هو مدى "التسامح والإخاء وسعة الأفق عند إخواننا مسيحيّي المشرق، وما أنشدوه شعراً، وما كتبوه في مجال التغنّي بفضائل الإسلام"، فانكبّ على بحث وتقصّي مختلف نصوص شعراء وأدباء المهجر حول فضائل الإسلام، وكانت نتيجة ذلك جدّ غنيّة، كما يقول هو نفسه عند تقديمه لكتابه، الذي صدّره بتقديمٍ ضافٍ حول أوّل مظهر من مظاهر الأدب المهجري التي استرعت اهتمام القارئ أو الباحث، وهو مدى إعجابهم وتغنّيهم بفضائل وأخلاق الرّسول الأكرم، فيما أسماه في أحد أبواب الكتاب "المولديّات" (نسبةً إلى المولد النبوي الشريف) الذي يشكّل مادة غزيرة في مجموع الأدب المهجري بشمال القارة الأمريكية وجنوبها . تعايش وإخاء يستدلّ المسّاري في هذا الباب بالعديد من شعراء المهجر، بعضهم معروف لدى الدارسين، وبعضهم الآخر تعرّض لهم لأوّل مرّة بفضل حسّه الأدبي الرّفيع، وفضوله وتقصّيه وتتبّعه بدون هوادة لغير قليل من المراجع والمصادر والمظانّ، مغتنماً وجودَه في البرازيل، وانكبابه ودراسته لكثير من الوثائق والخطب والكلمات، التي ألقيت في مختلف المناسبات الدينية والوطنية . ويورد المؤلف العشرات من الأبيات المؤثّرة والبليغة في التغنّي بمولد الرّسول، خاصّة لدى كتّاب وشعراء المهجر المسيحيّين بالذات، وأوّل استدلال أورده في هذا الصدّد كلمات للشاعر اللبناني المهجري الكبير الذائع الصّيت، جبران خليل جبران، يقول فيها: "خذوها يا مسلمين كلمة من مسيحي أسكن يسوعَ في شطر حشاشته ومحمّداً في الشطر الثاني". ويقول حُسني غراب في السّياق نفسه، وهو من شعراء المهجر في البرازيل، في إحدى المولديّات: شعلةُ الحقِّ لم تزلْ يا محمّد/ منذ أضرمتَ نارَها تتوقّد جئتَ والناسُ في ضَلالٍ وغيٍّ/ وسيفُ الهدىَ في يديْك مُهنّد ويقول الشاعر نصر سمعان في الموضوع نفسه: بزغتَ فحيّت الجوزاءُ مهدَك/ وأعلنتْ فوق مجد الشمس مجدَك وكلّ فمٍ له الفصحىَ لسانٌ/ يردّدُ بعد حمد الله حمدَك. ويوضح الفقيد في مبحثه عن الشعور الديني لدى المغتربين العرب في البرازيل، وفي غيرها من بلدان القارة الأمريكية، أنّ تغنّي الشعر المهجري بمكارم الرسول ينطلق، في نظره، من فكرة تكريم أبرز اسم في تاريخ العرب تتجلّى فيه معاني العزّة، والافتخار بماضي الأمّة العربية. فضلاً عن أن هذه الأشعار "ترمي إلى التبشير بفضيلة التسامح، والتحذير من التفرقة"، كما تهدف إلى "ترسيخ مفاهيم النهضة القومية التي تقوم على قاعدة عاطفية جدّ قويّة". ويشير الباحث إلى أنّ "الجمهرة الغالبية من المغتربين كانت وما تزال من إخواننا المسيحيين، وهؤلاء كما هو مكرس في تاريخ نشوء وتكوّن المَهاجر العربية في الأمريكيتين، نزحوا بدافعيْن اثنين، هما البحث عن تحسين مستوى عيشهم، والبعد عن الاضطهاد، خاصّة أيام الحكم العثماني". ويورد صاحب الكتاب معلومات طريفة اعتمادا على مذكرات أوّل قنصل عثماني في أمريكا اللاّتينية (نشرت عام 1934)، هو أمين أرسلان، الذي يشير إلى أنّ عدد العثمانيين أو الأتراك (وهذا هو الاسم الذي كان يطلق على المهاجرين العرب الذين توافدوا على المَهَاجِر الأمريكية نظراً لكونهم جاؤوا يحملون جوازات سفر تركية في ذلك الإبّان)، وهم أساساً السوريون واللبنانيون والفلسطينيون، كانوا في عهده مئة ألف في الأرجنتين وحدها، وأكثر من ذلك العدد كان موجوداً في البرازيل، وقد وقع الكاتب الكولومبي الشّهير غابرييل غارسيا مركيز صاحب "مئة سنة من العزلة" في الخطأ نفسه في مختلف أعماله، حيث كان يُسمِّي المهاجرين العرب في قريته "أراكاتاكا"، التي تحوّلت في روايته آنفة الذّكر إلى "ماكوندو"، أتراكاً كذلك، فقط لأنهم كانوا يحملون جوازات سفر من الدولة العلية العثمانية في ذلك الإبّان. ويورد كتاب المساري معلومات ضافية حول الهجرة العربية والاغتراب إلى بلدان أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص. التميّز الثقافيّ المهجريّ وتحت باب التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة، يسوق الكاتب بعض الفقرات من الكلمات أو الدراسات التي سجّلها بعض الكتّاب وضمّنوها في انطباعاتهم حول العالم الجديد. ومن أطرف ما أورده في هذا السياق فقرة من مقال لأمين الريحاني حول نيويورك يقول فيها: أحشاؤكِ من حديد وفيها عقمة، صدركِ من خشَب وفيه سُوسة، فمكِ من نُحاس وعليه صَدأة، جبينكِ من الرّخام وفيه جُمود، تشربين ذوبَ الإبريز، وتأكلين معجونَ اللّجين، وتنتعلين أجنحةَ العلم، أمّا قلبكِ فقار يشتعل..!" كما يتحدث المؤلف عن روح الفِطرة العربية لدى هؤلاء المغتربين، التي كانت أقوى عند الأديب المهاجر. وينقسم هذا الكتاب إلى عشرة أبواب، منها: "التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة، التحرّر الديني، التبشير بالتسامح، التصدي للطائفية، احترام الرابطة القومية، الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر، مواكبة حثيثة لمشاغل أدباء المهجر، والتغنّي ببطولات العرب ومفاخرهم. ثمّ خصّص المؤلف باباً قائماً بذاته للنصوص التي تتضمّن أشعاراً وكلمات وخطباً ومقالات. ويصل بنا الباحث بعد ذلك إلى موضوع الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر، حيث يتناول إسلاميات أدباء المهجر من المسيحيين على وجه الخصوص، ويشير إلى أنّ "المادّة في هذا الباب جدّ غزيرة، ومبعثها هو نبذ التمييز، والحِرص على التبشير بالتسامح، ورفض الطائفية والتعلّق بالعروبة (كذا) والتغنّي بها. ويورد الكاتب في هذا الصدد بعض الأبيات التي تشير إلى هذه المعاني الجليلة، كما أن الصّور الإسلامية ترد بسلاسة في شعر المهجريين المسيحيين. ويورد في هذا القبيل أبياتاً للشّاعر اللبناني الكبير الذائع الصّيت إيليا أبي ماضي التي يقول فيها: وطن النجوم أنا هنا/ حدّق أتذكر مَنْ أنا أنا ذلك الولد الذي/ دنياه كانت ها هنا أنا من مياهك قطرة/ فاضت جداول من سنا كم عانت روحي رباك/ وصفّقت في المنحنى للّيل فيك مُصلّيّاً/ للصّبح فيك مُؤذّنا ويخبرنا المؤلف أنّ عرب البرازيل كوّنوا غداة وصولهم إلى مَهاجرهم أندية لجمع شملهم كانت تعتني بإقامة حفلات بالمناسبات الوطنية والثقافية، ومع الأيام صار ذلك تقليداً ثابتاً في تلك النوادي، وهي أساساً لإخواننا المسيحيين، وهم الجمهرة الغالبية في المهجر، الذين لا يتوانون في تنظيم احتفالات بمناسبة عيد المولد النبوي، ويندر أن تجد شاعراً مهجريّاً لا يشارك في هذه المولديّات. ويقوم بعد ذلك الباحث بإجراء تحليل ضافٍ لمعظم القصائد التي تضمّنها كتابه، وينتهي إلى القول: "إنّ الأديب المهجري تناول الموضوع الإسلامي باعتباره تراثاً متوارثاً، معبّراً في الوقت نفسه عن احترامه لجانب العقيدة، ومجاملة لإخوانه العرب المسلمين". وقد ضمّن الباحث كتابه منتقيات ومختارات من القصائد حول المشاعر الدينية لدى هؤلاء الشعراء المهجرييّن، فضلاً عن نصوص حول الموضوع نفسه تتضمّن مقطوعات نثرية من خطب وكلمات ومقالات ومداخلات. ولعلّ القارئ يدرك مدى الجهد المبذول في هذا الكتاب من طرف المؤلف، سواء في الدراسة الرّصينة التي تصدّرته، أو في بحثه وتقصّيه للعديد من المراجع والمصادر والمظانّ والوثائق والمراسلات والصحف والمجلات والدواوين والكتب المهجرية بشكلٍ خاص. ولا ريب أنّ موضوعه هذا سوف يفتح الباب على مصراعيْه للباحثين في الأدب المهجري، شعراً ونثراً ونقداً ودراسة وتاريخاً. ولم يحصر الباحث بحثه في إسلاميات شعراء وأدباء المهجر وحسب، كما يبدو من عنوان الكتاب، بل تجاوزه إلى مواضيع أخرى شيّقة وطريفة متعدّدة، لها صلة بالهجرة العربية والاغتراب إلى الأمريكيتيْن الشمالية والجنوبيّة. وعليه، فإنّ هذا الكتاب يُعتبر إضافة مفيدة للمكتبة العربية، ومرجعاً مهمّاً لا محيد عنه للباحثين والدارسين لمهاجر القارة الأمريكية بشكل عام، وللبرازيل بشكل خاص. المسّاري وحرب الرّيف كانت تربطني بالفقيد صداقة متينة تعود إلى أوائل سبعينيّات القرن الفارط، وفي مقالي المنشور بجريدة "القدس العربي" في 21 يونيو (حزيران) 2015 عن الطود الشّامخ المهدي المنجرة تحت عنوان: "في ذكرى رحيله: المَهْدِي المَنْجْرَة...عندما يغدو المفردُ جمعاً..!"، الذي فقدناه كذلك في تلك السنة نفسها، وفقدنا معه جزءاً هاماً وغالياً من ذكرياتنا ومعايشاتنا وصولاتنا وجولاتنا في الصحافة والأدب والثقافة والدبلوماسية والحياة...أشرتُ إلى أنّ المسّاري كان مسكوناً ومهووساً ومَشغولاً ومُنشغلاً ومفتوناً بالتنقيب في تاريخ الحركة الوطنية في المغرب، وفي سائر البلدان المغاربية، وركّز اهتمامه قبيل رحيله بشكل خاص على حرب الرّيف التحرّرية الماجدة، وخلال لقاءاتنا المتواترة بأرض الوطن، أو خلال زياراته المتعدّدة لإسبانيا، كنت أحكي له بعضَ القصص والوقائع والحكايات عن حياة المجاهدين الأبرار التي سمعتها عن الوالد نجل شهيد معركة "أنوال" الشهيرة المُجاهد الصّنديد مُوحْ نسِّي أحمد الورياغلي، الأجديري، الخطّابي، رحمهم الله جميعاً، وعن الظروف الصّعبة والعسيرة، التي خاض خلالها أجدادنا هذه الحرب الباسلة الضّروس، فكان يُصغي إليّ باهتمام بالغٍ وشغفٍ كبيرٍ. لقد كتب المساري غيرَ قليل من المقالات والدراسات عن هذا الموضوع الحيوي، الذي كان كثيراً ما يشغل باله، ويستأثر باهتمامه، ولن أذهب بعيداً.. فآخر كُتُبِه قبيل أن يستجيب لنداء ربّه كان تحت عنوان "محمد بن عبد الكريم الخطّابي.. من القبيلة إلى الوطن". صداقة راسخة وأخيراً وليس آخراً فإن نسيت فإنني لن أنسى أبداً أنّ محمد العربي المساري كان أوّلَ من عيّنني مراسلاً من إسبانيا لجريدة "العَلم" المغربية عندما كان مديرها في ثمانينيات القرن الفارط، وكان أوّل من فتح لي بطاقة خاصّة للتعويضات عن مقالاتي، التي كنت أنشرها فيها اتباعاً، انطلاقا من إسبانيا، وكان أوّل من دافع عنّى جهاراً أوائل السّبعينيات عند انضمامي إلى اتحاد كتّاب المغرب، وأوّل من كتب مقدّمة ضافية عن أول كتبي الكبرى عن أمريكا اللاّتينية، الذي يحمل عنوان "ذاكرة الحلم والوشم: قراءات في الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر"، وكان أوّل من اتصل بي عند تعيينه في ثمانينيّات القرن المنصرم سفيراً في البرازيل لأعمل إلى جانبه كشخصٍ ثانٍ بهذه السفارة، وأوّل مَنْ هنّأني عند تعييني قنصلاً عامّاً في كلٍّ من جزر الخالدات (الأرخبيل الكناري) ومدريد، ثمّ سفيراً للمغرب في عدّة بلدان بأمريكا اللاّتينية، وأوّل من كان يتّصل بي من المثقفين المغاربة في العديد من المناسبات للمشاركة في مختلف اللقاءات والندوات الثقافية والأدبية، التي كانت تنظّم داخل المغرب أو خارجه، وكنتُ أوّلَ من أهداه كتابَه عن الأدب المهجري عندما كان سفيراً لبلاده في البرازيل، وكنت أنا، إبّانئذ، قائماً بأعمال سفارة المغرب بالمكسيك، وهنا يكمن بيت القصيد في هذه العجالة، فقد ظلّ هذا الكتاب الطريف موضوعاً بعناية فائقة في رفٍّ من رفوف مكتبتي بأجدير الحَصين (الحسيمة)، وقد حالت مشاغل العمل المتواصلة التي لا تنتهي، ومهام السّفر والتنقل والترحال خارج أرض الوطن دون قراءته قراءةً موفية ومتأنّية ضافية والاستمتاع به في حينه، وبعد أن انتهى إلى علمي نبأ رحيل صاحب هذا الكتاب القيّم عُدتُ مهرولاً إلى مكتبتي لأبحث من جديد بين أكوام الكتب والأسفار والرّزم والكراكيب عن هذا الكتاب، والتهمته التهاما بفيضٍ من المحبّة والمودّة والحنين، وبشعورٍ ممزوجٍ بالحسرة والألم والحزن والأسى عن هذا الصّديق العزيز، ومن ثمّ كان هذا المقال. *عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.