محمد ميلود غرافي: المثقف والأديب المغربي ببلدان المهجر، يحاول انتزاع الاعتراف بأحقيته في كل صفات المواطنة. لكنه يحمل في الوقت نفسه قلق الوطن الأصل.. في هذا الحوار الخاص بالملحق الثقافي لبيان اليوم، يتحدث عن راهن الإبداع المهجري المغربي والعربي، وإشكالية العلاقة بين الأنا والآخر، والترجمة، والمشهد الثقافي المغربي.. وغير ذلك من القضايا التي تستأثر بالاهتمام في وقتنا الحاضر. في سياق التأهيل العلمي للإشراف على البحوث بالجامعة الفرنسية، ناقشت مؤخرا أطروحة جامعية حول الرواية العربية المهجرية. حدثنا أكثر عن سياق هذا الحدث العلمي واهتماماتك الأكاديمية. يعتبر التأهيل للإشراف على البحث العلمي آخر شهادة جامعية في فرنسا بعد الدكتوراه. وبالإضافة إلى ما تفتحه من آفاق علمية في البحث الأكاديمي سواء بالنسبة إلى صاحبها أو إلى مجال اختصاصه والمختبر الذي ينتمي إليه، فإنها تعدّ تتويجا لسنوات طويلة من البحث والتأطير وتحمل المسؤوليات البيداغوجية والإدارية داخل أسوار الجامعة. بالنسبة إلي، كان هذا التأهيل حصيلة ما أنجزته من أبحاث في المجال السيميائي وتحليل الخطاب وما راكمته خلال السنوات الأخيرة من أشغال أكاديمية حول رواية المهجر العربية التي خصصت لها قسطا كبيرا من محاضراتي الجامعية ومقالاتي والأيام الدراسية التي نظمتها وإشرافي على بحوث الماجستير في جامعتيْ تولوز ورين. وقد أشرف على هذا التأهيل المستعربة الفرنسية إليزابيت فوتيية أستاذة كرسي بجامعة ليون الثالثة. نوقشت الأطروحة في جامعة رين في يناير الماضي أمام لجنة تتكون من أساتذة فرنسيين وأجانب من بينهم الأستاذ الجامعي الباحث في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية السيد مارك غونتار الرئيس السابق لجامعة رين الثانية والأستاذ سابقا في جامعة فاس التي أنشأ وأدار بها في السبعينيات شعبة الأدب الفرنسي. انشغالك بالأدب العربي المهجري المعاصر يبدو لافتا، يعززه إشرافك على تنسيق الكتاب الجماعي "الهجرة في الأدب العربي". ما مناسبة هذا المؤلف؟ وأين تكمن أهميته؟ هو كتاب جماعي ناتج عن الندوة الدولية حول أدب الهجرة المكتوب بالعربية التي أقيمت بكلية آداب وجدة سنة 2013 بالتنسيق بين مختبر جامعة رين المختص في أشكال الهوية والذاكرة والإقليمية ومختبر الأدب المقارن وشعبة اللغة العربية وآدابها بجامعة وجدة. وقد شارك في الكتاب مجموعة من الباحثين مغاربة وأجانب، تناولوا إشكاليات الهجرة في الشعر والقصة والرواية من زوايا مختلفة ومتكاملة. تكمن أهمية الكتاب في أنه يسلّط الضوء على هذه الإشكاليات في الأدب العربي المعاصر، لأن الملفت للنظر هو أن المقاربات النقدية في العالم العربي التي اهتمت بما يسمى بأدب الهجرة تتوقف في غالب الأحيان عند التجارب الأدبية السابقة مثل "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. فعلاوة على اقتصار هذه المقاربات على الرواية فقط، فإنها تنطوي على خطأ في تقييم تلك التجارب الروائية مُدرِجَةً إيّاها في "أدب الهجرة"، بينما لم تكن الهجرة عند هؤلاء الكُتاب وغيرهم من معاصريهم سوى مبرّرا في التصدي لإشكالية أعمق وأدقّ هي أزمة المثقف العربي تجاه مسألة الأنا والآخر سواء إبان الاستعمار أو بعده مباشرة. فالهجرة ليست في هذه النصوص سوى وسيلة لمقاربة إشكالية الهوية وعلاقة العرب بالغرب في وقت استشعر فيه هؤلاء الكُتاب، من طه حسين إلى الطيب الصالح، الحاجة إلى التعامل معه كقطب سياسي وحضاري واستعماري وتنويري في الوقت نفسه. أما الهجرة كتيمة رئيسية في حد ذاتها وكإشكالية مركزية بانعكاساتها الهوياتية والاجتماعية على الفرد والجماعة معا، فإنها جديدة على الأدب العربي ولم تبدأ في أخذ نصيبها من السرد والشعر بشكل بارز إلا في العقود الثلاثة الأخيرة. وهنا يجب أن نسجل أن الأدب الشعبي والأغنية الشعبية في المغرب على الأقل مثل "الباسبور الأخضر" للشيخ محمد اليونسي سابقان على الرواية العربية في تناول قضية الهجرة ووضعية المهاجر العربي في أوروبا. كما يجب الانتباه إلى أن ما يطبع الأعمال الروائية العربية المعاصرة في هذا المجال هو اهتمامها أيضا بالهجرة السرية، بحيث أصبحت تيمة الاستعداد للرحيل وتيمة العبور سواء عبر البحر أو عبر الصحراء والبرّ مركزيتان في مقاربة إشكالية الهجرة، بحيث لم تعد هذه الأخيرة مقتصرة على وضعية المهاجر في بلاد المهجر وإنما تأخذ كل دلالاتها النفسية والاجتماعية والثقافية ابتداء من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول أو نقطة الفشل في الوصول، وهو ما نلمسه بوضوح في رواية "تيتانيكات إفريقية" للكاتب الإيرتيري أبو بكر حامد كهال ورواية "لمبيدوزا" للمغربي عبد الرحمن عبيد. الخاصية الثالثة لهذا الإنتاج الأدبي موضوعاتيا هو أن الهجرة لم تعد هجرة عمودية فقط ( جنوب / شمال) أي في اتجاه أمريكا وأوروبا فحسب، بل أصبحت أفقية أيضا (جنوب جنوب) مثل الهجرة المغاربية والمصرية والباكستانية إلى السعودية ودول الخليج. ولدينا في روايتي المصريين إبراهيم عبد المجيد (البلدة الأخرى) ومحمد البساطي (دق الطبول) دليلا قويا على هذا التجديد في الكتابة الذي يواكب مستجدات ظاهرة الهجرة عالميا ويعكس جوانب أخرى من قضية الهوية بحيث يصبح المهاجر العربي غريبا في ما كان يعتقد أنه من صلب محيطه الاجتماعي والثقافي والهوياتي ويكتشف أن الآخر ليس الغرب فقط وإنما مثيله العربيّ أيضا. كيف تنظر إلى راهن الإبداع المهجري المغربي والعربي؟ إذا كان المقصود هنا هو الإبداع المكتوب بالعربية فإن ثمة حضور لافت لهذا الإبداع، كميا ونوعيا، في الأدب العربي المعاصر. وهو بقدر ما يلتف كثيرا حول إشكاليات بعينها، يختلف فنيا من كاتب إلى آخر. أما إذا كان الأمر يتعلق بالإنتاج المكتوب بلغة بلدان المهجر، فإن هذا الأدب لا يزال يطرح إشكالا في التصنيف داخل المُنجَز الأدبي في هذه البلدان. في فرنسا مثلا هو يحسب غالبا على الأدب العربي أو الأجنبي المكتوب بالفرنسية مما يجعله رغم أهميته وريادة الكثير من كُتابه على المستوى العالمي حبيس نظرة ضيقة، فيبدو وكأنه أدب هامشي داخل الفضاء الفرنكفوني نفسه رغم إحرازه السبق مثل فوز المغربية ليلى السليماني السنة الماضية بجائزة الغونكور الشهيرة. لكن المسألة هنا تتجاوز القضية الأدبية المحضة لتأخذ لها مكانا في سوسيولوجيا الأدب نظرا لارتباط هذا التصنيف بتاريخ فرنسا وبمستعمراتها وبالسياسية التي تنهجها تجاه الأجيال المنحدرة من أصل إفريقي ومغاربي خاصة. من بين ما يثيره الإبداع المهجري، إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر وما تطرحه من أسئلة. انطلاقا من تجربتك الأكاديمية والإبداعية بالمهجر، ما موقع المثقف العربي اليوم ضمن هذه العلاقة ؟ أعتقد أن العلاقة مع الآخر لا تُطرح اليوم أدبيا ولا فسلفيا بنفس الشكل الذي كانت عليه إبان فترة الاستعمار ولا بعدها بقليل. خلال هذه المرحلة كان المثقف العربي يعيش على سؤال تقدم الآخر(الغرب) وتأخر الأنا وعلى المقارنة بين قيم الشرق وقيم الغرب ( "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم مثلا)، ثم كانت المسألة القطبية في هذا السؤال تبدو بديهية وواضحة: أي أن المثقف العربي كان مقتنعا أن العرب والغرب يشكلان قطبين حضاريين مختلفين وأن العرب يشكل لوحده قطبا منسجما ثقافيا ولغويا. القومية العربية في الخمسينيات والستينيات وقضية فلسطين كانت تزكي هذه الرؤية وترسخ تلك البديهية القطبية. وفي نفس الوقت كان هذا المثقف العربي مؤمنا في قرارة نفسه بأن هذا الغرب الكولونيالي هو نفسه الغرب الذي فتح له أبواب جامعاته في فرنسا وأنجلترا وأدخله إلى الحداثة. المثقفون العرب الذين استعصت عليهم حل إشكالية العلاقة مع غرب كولونيالي وحداثي وديمقراطي في الوقت نفسه وقعوا تحت وطأة ما يسمى بالوعي الشقيّ. بعض هؤلاء سيعبّرون بوضوح في نصوصهم الروائية عن بعض مظاهر هذا التشرذم الهوياتي وعن انشطارهم بين الأنا والآخر. من بين هؤلاء: طه حسين (أديب)، سهيل إدريس (الحي اللاتيني)، الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)… كل أبطال هذه النصوص مثقفون عرب هاجروا إلى أوروبا للدراسة، لكن علاقتهم بالآخر شابها الاضطراب والانفصام في الذات والإحساس بالضياع بين شرق محافظ غارق في تخلفه وغرب كولونيالي وحداثي في الآن نفسه. المسألة الهوياتية والآخَرية لم تعد تُطرح بهذا الشكل منذ نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحالي: سقوط جدار برلين وما نتج عنه من تغيرات جيوسياسية والضبابية المتزايدة في التمييز بين ما هو اشتراكي وما هو رأسمالي وبين ما هو يساري ويميني، وحلول التيارات الدينية المتشددة محل التيارات القومية، كل ذلك جعل المثقف العربي يعيد النظر في العلاقة بنفسه وبالآخر. وإذا حصرنا المسألة في المثقف العربي المقيم بالمهجر، فإن تلك العلاقة نفسها لم تعد تكترث بما يطلق عليه البعض بالصدام الحضاري بين الشرق والغرب. المثقف العربي ببلدان المهجر أصبح في الكثير من الأحيان يعتبر نفسه كمواطن له نفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المواطنون الأصليون، لأنه يرى نفسه كعنصر فاعل ونشيط في التنمية الاجتماعية والثقافية للبلد الذي يقيم فيه، رغم أن أوساطا اجتماعية وسياسية ببلدان المهجر لا تقرّ له بهذه الحقوق وترى فيه عنصرا دخيلا وأجنبيا. هو واع طبعا بذلك ويحاول انتزاع الاعتراف بأحقيته في كل صفات المواطنة. لكنه يحمل في الوقت نفسه قلق الوطن الأصل فتراه يتابع باستمرار أوضاعه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل ويشارك كلما أتيحت له الفرصة في النقاش الدائر حول هذه الأوضاع. يفعل ذلك دون أي إحساس بأزمة الهوية أو الانفصام في الذات لأنه أصبح يفكر بمنطق أن الوطن ليس هو بالضرورة البلد الذي ولد فيه أو تلقى فيه أولى دروسه في الحياة بل هو البلد الذي يجد فيه الطريق إلى تحقيق أحلامه ويوفر له شروط حياة أفضل. ما الدور الذي تضطلع به الدياسبورا الإبداعية، اليوم، خاصة في ظل تنامي صعود اليمين في بلدان المهجر؟ هي جزء من الجاليات العربية والمغاربية والإفريقية التي تعاني من صعود مشاعر الحقد العنصري في أوروبا. لكنها قد تكون أكثر معاناة نفسيا بحكم انخراطها في السجال حول ما يسمى في فرنسا بموضوع "الهجرة". وهو موضوع لو لم يكن قائما لتمّت فبركته أو فبركة ما يشبهه من أجل اللعبة الانتخابية. هناك حاجة كبيرة لدى الوسط السياسي الفرنسي إلى كبش فداء أجنبي للفوز بمقاعد في البرلمان أو في الانتخابات البلدية، خاصة مع انعدام فوارق في البرامج الاقتصادية بين اليمين واليسار يتميز فيها هذا الحزب عن ذاك. المثير للانتباه هو أن هذه المعاناة أكثر وقعا على الدياسبورا الإبداعية عندما تأتي مشاعر هذا الحقد من أطراف في اليمين المعتدل أو في اليسار كما أبان عن ذلك بكل وقاحة الوزير الأول السابق في الحكومة الاشتراكية السيد مانويل فالس. أمام هذا التنامي هناك طبعا دور متزايد لدى هذه الدياسبورا في الوقوف بما يتوفر لها من إمكانيات إعلامية أو جمعوية أو أكاديمية للإدلاء برأيها في الأمور السياسية والاجتماعية للبلد الذي تعيش فيه. كما أنها منخرطة بشكل ملحوظ في الأنشطة الثقافية والنشر والتأليف. ولعل هذا ما يقلق هذه الأوساط السياسية واللوبيات الإعلامية، لأن ما يسمى بالمهاجر الآن ليس هو مهاجر الستينيات والسبعينيات الذي كان منحدرا من أوساط عمالية وأميّة ولا يجرأ على التنديد بشيء معتقدا أنه مدين للبلد المضيف بكل شيء. أغلب ما نطلق عليهم الآن بالمهاجرين هم مواطنون فرنسيون أو ألمان أو هولنديون أو بلجيكيون متشبثون بحقوقهم ورافضون لك ل صورة نمطية ودونية. من أعمالك الإبداعية الأخيرة، رواية "لم أر الشلالات من أعلى" الصادرة بلبنان، كيف تقيّمون صداها في الوسط الأدبي، وهل يعني ذلك أن محمد ميلود غرافي الشاعر هاجر إلى الرواية. هذه الرواية كانت نتاجا شبه حتمي لتجربتي المهجرية. لقد كان من المستحيل بعد تجربة مريرة ماديا ومعنويا وغنية ثقافيا وأكاديميا واجتماعيا في فرنسا ألا أكتب بعض محطاتها. لكني عملت كل ما في وسعي حتى لا تكون تلك الشلالات نصا أوتبيوغرافيا محضا، نظرا لما في تلك التجربة من عوالم مشتركة لدى العديد من المهاجرين من جيلي على الأقل. لم أرصد ما هو ذاتي في هذه التجربة إلا عندما تبينت لي رمزيته وأبعاده الجماعية التي ينصهر فيها معا الحاضر والماضي، الهُنا (المهجر) والهُناك (الوطن). ثمة أشياء مشتركة تربط بين زمنين وبين مكانين، لذلك كان لا بدّ من صوتين على الأقل: صوت الراوي/الإبن وصوت الراوي/ الأب، وحرصت في ذلك على أن يكون هناك حوار غير مباشر بين هذين الجيلين المُتتابعين، يرصد كل منهما آماله و"طعم الخيبة والإخفاق" كما عبر عن ذلك الروائي واسيني الأعرج في مقال له عن هذا النص. لذلك لم يكن هذا الأخير رواية عن الهجرة فقط وإنما عن البلد الأصلي أيضا وتاريخه السياسي بعد الاستقلال. كما أنه ليس محطة انتقال أو هجران من الشعر إلى الرواية، فأنا لا أنظر إلى العملية الإبداعية كماركة مسجلة في جنس أدبي دون آخر ولا تشكل لديّ الكتابة في الجنسين معا أدنى تردد، طالما يكون ثمة استجابة عفوية لما تمليه قريحة الكتابة. ماذا عن محمد ميلود غرافي المترجم ؟ انشغالي بالترجمة كانت في البداية مسألة أكاديمية محضة اقتضتها شروط التدريس الجامعي. وبعد ممارسة لها في الظل لسنوات عديدة، صرت أجد فيها متعة جميلة ولعل السر في اهتمامي بترجمة الشعر العربي إلى الفرنسية يكمن في تلك العوالم الإبداعية اللامتناهية التي تتيحها لنا ترجمة الشعر ونحن ننتقل به من لغة إلى أخرى. هذا الانتقال لوحده رغم ما يقتضيه من تقريب النص المترجَم من النص الأصلي ما أمكن، يشكل في حد ذاته ممارسة إبداعية، لأن كل نص يأخذ شئنا أم أبينا حلة جديدة في لغته الثانية وهنا يكمن الشغف الجميل بالترجمة. كيف تنظر إلى المشهد الثقافي المغربي عامة، والشعري منه على وجه الخصوص؟ ثمة مفارقة مؤسفة في الوضع الثقافي بالمغرب. أذكر أننا بالأمس القريب فقط كنا نطالب برفع الحظر واليد المخزنية والرقابة عن الثقافة والنشر. وحين انتزعنا الكثير من تلك المطالب وأصبح هناك دعم ومعرض دولي للكتاب وتعددت بشكل نسبي دور النشر وبدأ هناك ما يشبه دمقرطة الثقافة فرضتْها بالخصوص المواقع الثقافية على الأنترنيت، بدأ الفساد ينخر كل المؤسسات والمديريات ذات الصلة بما هو ثقافي على المستوى الوطني والجهوي معا. ومما يحزّ في النفس أكثر هو أن القائمين على بعض هذه المؤسسات التي استشرى بها الفساد هم الذين كانوا بالأمس القريب يطالبون بالشفافية ومحاربة المحسوبية والعلاقات الزبونية في تسيير الشأن الثقافي بالبلاد. المقصيون بالأمس أصبحوا بدورهم إقصائيين اليوم. لحسن الحظ أنه بموازاة هذا الوضع ثمة مبادرات فردية ومجتمع مدني وجمعيات ثقافية تشتغل بإمكانياتها المحدودة في تحسيس الشباب سواء داخل المؤسسات التعليمية أو خارجها بأهمية الثقافة والكتاب في التنمية. أما في ما يتعلق بالمشهد الإبداعي والشعري خاصة في المغرب فيمكن القول إن تحرر النشر من سلطة الجرائد الحزبية في ظل تعدد مواقع النشر الإلكتروني، أبرزَ أسماء وتجارب شعرية وازنة. المشكل يكمن في غياب المتابعة النقدية الرصينة والموضوعية لهذا التراكم الإبداعي، بحيث قليلا ما نقرأ عملا نقديا بالمعنى العلمي للنقد، سواء في النقد الروائي أو في النقد الشعري. ثمة مسألة أخرى مؤسفة وهي ما يشبه الكتابة تحت الطلب، خاصة في الإبداع الروائي والنقد، فمنذ أن تفشت ظاهرة الجوائز في العالم العربي أصبح جزء كبير مما نقرأ خاضعا لشروط أسلوبية وموضوعاتية طمعا في الجائزة، ناهيك أن هذه الأخيرة ألجمت أفواه العديد من المبدعين وأخرست أصوات النقد الجريء الذي كان يمارسه المثقف المغربي إلى حدود التسعينيات تجاه أنظمة عربية فاسدة. ماذا تقول عن: عبد الكبير الخطيبي؟ وشم عميق وأصيل وجميل في ذاكرة الثقافة المغربية. الفرنكفونية؟ إما أن تكون على طراز الخطيبي والشرايبي وخير الدين واللعبي أو لا تكون. مدينة بركان؟ بُركانٌ لا ينضب من الطاقات الإبداعية والرياضية والمسرحية والفنية.. ونموذج في سياسة التهميش وطنيا وجهويا. يا للمفارقة! يا للنّكتة!