غابرييلاّ قرنفل وقرفة في القصّة الكلاسيكية "غابرييلاً قرنفل وقرفة" (Gabriela, clavo y canela) للكاتب البرازيلي المعروف "خورخي أمادو"، يجسّد أحد الشخصيات الرئيسية في الرواية حالة الغضب الذي كان يستشيط به المغتربون العرب عند نعتهم ب "التركي"، يقول أمادو في روايته: (كان الكثيرون وخاصّة الأصدقاء منهم ينادونه بعربيّ أو تركيّ، وهذه حقيقة، وكان هذا تعبيراً وديّاً وحميميّاً، أمّا نسيب فلم يكن يحبّ هذه التسمية فيرفضها منزعجاً، وأحياناً يغضب منها فيجيب: - تركيّة هي أمّك..! - لكن يا نسيب.. - نادني بما تريد، إلاّ تركي، أنا برازيلي، ويضرب بيده على صدره كثيف الشّعر، ويضيف ابن سوري والحمد لله. - عربي، تركي، سوري، كله نفس الشيء، ... - نفس الشيء يا صاحب القرون! أنت جاهل، لا تعرف لا التاريخ ولا الجغرافيا... - مهلاً يا نسيب، لا تغضب لم أقصد إهانتك...). هكذا كان هؤلاء المغتربون العرب الأوائل ينزعجون من لقب "التركي" الذي كان يلحق بهم جزافاً.. كان هؤلاء يتنقّلون امتداداً من الأمازون على متن مراكب تجارية إلى كلّ أنحاء أمريكا اللاتينية، بالفعل كان يطلق عليهم لقب "تُوركُو" (أيّ التركي) وكانوا دوماً يعترضون على هذه التسمية، إذ حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانوا يصلون إلى المهجر حاملين جوازات سفر صادرة عن الإمبراطورية العثمانية، وهي في حالة انحلال آنذاك، فلم يرغبوا في أن يُطلق عليهم اسم الذين كانوا يتسلّطون على بلادهم. في المقال السّابق من هذه الدراسة الذي يحمل عنوان "مبدعون عرب على خريطة أدب أمريكا اللاتينية" أشرنا إلى أن هؤلاء الوافدين العرب الذين تقاطروا على القارة الجديدة في تواريخ متفاوتة قد استقدموا معهم عاداتهم، وتقاليدَهم، وثقافتَهم، وآدابَهم، وحسَّهم الشّعري الرقيق، وبالتالي كان تأثيرهم في المجتمع الجديد بليغاً في مختلف هذه المجالات، أخصّ منها بالذكر المجال الإبداعي. وهكذا عاش وما زال يعيش في هذا الصّقع النائي من العالم عدد غفير من الكتاب، والرّوائيين، والشّعراء العرب المهاجرين، الذين اشتهروا بعطاءاتهم المميّزة، وإبداعاتهم الثرّة، وإسهاماتهم الغنية والمتنوعة، وعنينا بذلك الأدب المهجري الذي نما، وترعرع، وتألق في عدة مدن في شمال القارة الامريكية وجنوبها. وقد أوضحنا كيف قدّم لنا هذا الأدب أسماءَ معروفة ولامعة في عالم الإبداع، منها، الشاعر القروي، إلياس فرحات، شفيق معلوف، حسني رشيد غراب، يوسف فاخوري، فيليب لطف الله، موسى حداد وهيب إسكندر عودة، الأخَوَين إلياس وزكي قنصل، نسيب عريضة، عبد المسيح حداد، ولويس فيّاض، ووالتر غريب، وغيرها من الأسماء الكثيرة التي لا حصر لها، فضلاً عن أسماء أخرى طبقت شهرتها الآفاق مثل جبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي، وسواهما. كما أوضحنا دور الصحافة في هذا القبيل، حيث صدرت أوّل صحيفة في أمريكا اللاتينية عام 1892 وهي «كوكب أمريكا»، لنجيب إبراهيم عربيلي، وتوالت بعد ذلك الجرائد والمجلات في الصدور حتى كاد يصل عددها إلى 400 دورية، منها: «الهدى»، لنعوم مكرزل، و«البيان» لسليمان بدور، و«السائح» لعبد المسيح حداد، و«الفنون» لنسيب عريضة، و«السمير» لإيليا أبي ماضي، و«الغربال» ليوسف مسالم (صدرت عام 1922 وما زالت تصدر إلى يومنا هذا في المكسيك)، فضلاً عن دور "العصبة الأندلسية" في الجنوب، و"الرابطة القلمية" في الشمال. وعليه، فإن الوجود العربي وتأثيره في أدب امريكا اللاتينية–كما سبقت الإشارة إلى ذلك-أمر لا يمكن نكرانه أو تجاهله، بل إن هناك في الوقت الراهن كتّاباً مرموقين في أمريكا اللاّتينية ينحدرون من أصول عربية، والتأثير العربي بالتالي واضح وجليّ في إبداعهم، وأدبهم وإنتاجهم، حتى أصبح يُكتب اليوم بلغة غير اللغة العربية. سوف يلاحظ القارئ في الوجه الآخر من هذه المعادلة أن بعض هؤلاء الكتّاب الأمريكييّن اللاّتينيين المنحدرين من أصول عربية قد طرأ تغيير طفيف على أسماء بعضهم، وظلّت أسماء البعض الآخر منهم عربية فصيحة كما كانت من قبل، وهناك نوع ثالث كاد أن يفقد أيّ صلةٍ له بأصله وفصله اسماً ولغة، ولكنه مع ذلك ظلّ مشدوداً إلى جذوره، موثوقاً إلى عاداته، وتقاليده، ومعتزّاً بأصله، وفصله، ونسبه. وليس من السهولة واليُسر تصنيف جرد شامل أو قائمة شاملة ومتكاملة لهؤلاء الكتّاب في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية اليوم نظراً للاعتبارات السابقة وسواها، وقد أورد الشاعر والباحث التشيلي "سيرخيو ماثياس" أسماء بعض هؤلاء الكتّاب ضمن دراسة له ذات صلة بالموضوع الذي نحن بصدده، وتتوزّع هذه الأسماء على مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية المعروفة في الوقت الراهن، ونقدّم للقارئ فيما يلي نماذجَ من هؤلاء الكتاب والشّعراء: لويس فيّاض.. وألف ليلة وليلة (كولومبيا) هذا الكاتب من أصل عربي وُلد في بوغوطا عام 1945، وتحفل أعماله الرّوائية والقصصية بكلّ ما هو عربي، وحسب التقليد السّائد عند أدباء وشعراء أمريكا اللاتينية، فإنه عندما يريد التحدّث عن "العربي" فإنه يستعمل مصطلح "التركي"، ذلك أن المهاجرين الأوائل الذين وصلوا إلى هذه الدّيار من العرب–كما رأينا من قبل-كانوا يحملون جوازَ سفرٍ تركياً. ويعالج الكاتب لويس فيّاض في كتاباته مسألة الهجرة العربية بالذات إلى مختلف البلاد الأمريكية، وكثيراً ما يتعرّض إلى كِتَّابٍ كان له وقع بليغ على الكثير من كتّاب أمريكا اللاتينية، سواء الذين ينحدرون من أصل عربي أو لا، وهو كتاب "ألف ليلة وليلة"، ولم يفلت من هذا التأثير حتى عرّاب الرّواية الأمريكية اللاّتينية غابرييل غارسيا مركيز، كما يتعرّض لويس فيّاض كذلك في العديد من كتاباته إلى أزمة الشرق الأوسط، وإلى محنة الفلسطينيين على وجه الخصوص. والتر غريب.. إعجاب بالأندلس ومآثرها (تشيلي) هذا الكاتب من أصل فلسطيني، وهو ينغمس هو الآخر في كتاب "ألف ليلة وليلة"، وفى أعمال جبران خليل جبران، كان مديراً للمعهد التشيلي-العربي، وهو مؤسّس نادي القصّة بسانتياغو دي تشيلي، بل أصبح فيما بعد مديراً لجمعية الكتّاب التشيليين. من أعماله الناجحة "حفل المعوّقين". زار إسبانيا ولم يسترعِ انتباهَه شيء فيها، حسب ما صرّح لمواطنه الشاعر التشيلي "سيرخيو ماثياس"، سوى الأندلس، إذ كانت رحلته إليها بالنسبة إليه إحياءً للعهد والمجد الزّاهرين العربيين في هذه الديار، ولقد أعجب إعجاباً كبيراً بقصر الحمراء في غرناطة، وببرج الذهب، وبصومعة الخيرالدا في إشبيلية (توأمة صومعتيْ حسّان بالرّباط، والكتبية بمراكش، كما كان إعجابه بمسجد قرطبة الأعظم لا حدّ له، فضلاً عن آثار، وقصور، ومعالم عربية أخرى. ماتياس رافيدي وأحلام قابيل (التشيلي) ومن الكتّاب التشيلييّن البارزين كذلك من أصل عربي الباحث ماتياس رافيدي، من أعماله في هذا المجال بالذات كتابه "كُتّاب تشيليّون من أصل عربي"، وقد قسّم كتابَه إلى أجيال من الكتّاب التشيليين الذين ينحدرون من أصل عربي، وعرّف بكلّ جيل على حدة، انطلاقاً من الكتّاب الذين وُلدوا في التاريخ المتراوح بين 1890 و1904، والذين يُعرفون بجيل 1920، إلى جيل الكتّاب المولودين بين 1950 و1964. ومن الأسماء التي ساقها الباحث رافيدي في هذا الكتاب القيّم: بندكتو شوقي، ويوسف عويل حنا، وموريس موسى، وإدريس سبيلا، وروبرتو سراح، ومحفوظ ماسيس، وفريد هيد ناصر. وقد ترجم المؤلف في هذا الكتاب لما يربو على الثلاثين كاتباً تشيلياً من أصل عربي، وعالج هؤلاء الكتّاب مختلف فنون القول من شعر، ونثر. ومن بين هذه المجموعة برزت أسماء لامعة منها محفوظ ماسيس، المولود عام 1916 في تشيلي وهو من أصل فلسطيني، ونجد في أعماله إشارات كثيرة إلى أصله العربي حيث تتكرّر أسماء الأهرام، والجِمال، والفراعنة، والصحاري...إلخ. ومن أهم كتبه "أحلام قابيل"، و"النجوم الباهتة"، الذي يدافع فيه عن حقّ شعبه في الحياة الكريمة في فلسطين، وكذلك في كتابه "بكاء اللاّجئ". جورج عيسى والتعلّق بالماضي المجيد (الأرجنتين) هذا الشاعر المولود عام 1946 هو من أصل عربي كذلك، وفي كتابه "أعمال عبده" نجده يتعرّض للتأثيرات العربية التي وصلت إلى هذا البلد، وهو شديد التعلّق بماضيه العربي، وأجداده والتغنّي والزّهو والافتخار بهم وبأمجادهم، وتحفل أعماله الشعرية بالخصوص بالأساطير القديمة المتوارثة، وشعره مزيج من العاطفة والأسطورة والتاريخ. ماركو جميل وهيامه بمراكش الحمراء (غواتيمالا) كاتب له أعمال قصصية رائعة منها قصته "ساحر التاريخ" التي يتحدّث فيها عن مدينة مراكش الحمراء المغربية بالخصوص، "حيث الزّمن يوجد في استراحة، وطيور النورس لا تتوقّف عن التحليق عالياً كما تطير عصافير الدّوري في مدريد، هذه النوارس تمرّ بتؤدة، وهدوء، وتأنٍّ وتبدو وكأنها مراكب شراعية ناصعة البياض تنساب في الفضاء ترى من أعماق المياه"، وهكذا يسترسل الكاتب ماركو جميل في وصف هذه المدينة المغربية التاريخية السّاحرة التي أصبحت جلّ معالمها المعمارية، بما فيها ساحتها الكبرى الشّهيرة (جامع الفنا)، تراثاً إنسانياً للعالم أجمع، والتي تحتل حيزاً مهمّاً في رقعة الأدب العالمي. هرنان تراك والحنين إلى صوت الأذان (فنزويلا) الكاتب هرنان تراك من أصل لبناني، وُلد في كولومبيا عام 1926 إلاّ أنه عاش باستمرار في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، وهو يتعاطى الشعر، وله دراسات أدبية مهمة في مختلف حقول المعرفة، والإبداع والإنسانيات. من أعماله الشعرية "ساعة سريرية" (1964)، و"أقربائي" (1968)، وله كذلك "قصة وكاتب"، وزمن الصّمت" (1968)، توفي هرنان تراك في كراكاس عام 1977. يتحدث تراك في كتابه "أقربائي" عن أجداده وأصله العربي، وكيف أنه كان بين والده ووالدته جسراً بناؤه غير متين، إنه يتذكّر في كتاباته صوت الأذان، وبائعات الفلّ والياسمين، والعديد من الذكريات الجميلة التي حملها أجداده معهم إلى مهجرهم الجديد. مشاهير آخرون من أصول عربية بالإضافة إلى أسماء الكتّاب آنفة الذكر، نجد العديد من الأسماء الأخرى التي تتوزّع على الخريطة الأمريكية بعضها يتعاطى الكتابة الأدبية والتأليف، وبعضها الآخر يميل لقرض الشعر، كما أن هناك من اتجه إلى مجالات إبداعية أخرى تشكيلية، وفنيّة، وتمثيلية...إلخ. من هذه الأسماء نذكر من (المكسيك) علي شوماسيرو، وهو من بلد نجاريت المكسيكية، وله إسهامات كبيرة في هذا المجال، وكان يحظى بتقدير من طرف الكتّاب والنقاد، كما أن هناك ناقداً سينمائياً ممتازاً يُدعى "نايف يحيى"، وهو من أصل فلسطيني، ومن أكبر نقاد الفنّ السابع في المكسيك، وهناك كذلك الرسّامة التشكيلية الكاتبة اللاّمعة الرّاحلة "إكرام أنطاكي" التي تعرّفت عليها شخصياً في مكسيكو سيتي خلال عملي بها أوائل التسعينيات من القرن الفارط، ومن أشهر كتبها "الثقافة الثالثة"، وهي سورية الأصل، وهناك الممثلة الشّهيرة "سلمى حايك"، وهي فنانة مكسيكية من أصل لبناني تألقت بشكل ملفت في فنّ التمثيل المسرحي والسينمائي، وهناك كاتب مسرحي من أصل لبناني يسمّى "طوني طرابلسي"، وقد أحرزت مسرحية له قدّمت على خشبة مكسيكو سيتي لعدة سنوات نجاحاً باهراً وهي بعنوان: "الطيران" وتعالج مسألة الهجرة العربية إلى المكسيك. وهناك الكاتب "إسكندر حداد" وهو من أصل لبناني أيضاً ويحتل مكانة مرموقة في التشكيل المكسيكي المعاصر. وفي الأرجنتين نجد كتّاباً آخرين من أصل عربي مثل "مسعود خورخي"، و"لليانا محراقي"، وهي (شاعرة) مجيدة، و"خورخي عزيز"، وهو روائي من أصل لبناني، ومن أعماله "الأزهار المسروقة من حديقة كيلمس"، وقد عيّن سفيراً لبلاده لدى اليونسكو بباريس. ومن الرسّامات التشكيليات نجد "نعيمة أجودي"، ومن كتّاب البرازيل المنحدرين من أصل عربي "منصور شاتيلا"، وهو كاتب معروف ومترجم أعمال جبران خليل جبران إلى اللغة البرتغالية، بالإضافة إلى "جميل منصور حدّاد" و"سيد على أدريانو جاما خورخي"، وآخرين. وفى المقال القادم والثالث من هذه المقالات بحول الله سنعمل على تسليط الأضواء على الوجه الآخر للموضوع أعلاه، أي على "الحضور الثقافي والتاريخي العربي في إبداعات كتّاب أمريكا اللاّتينية من غير العرب"، حيث سيتّضح لنا أن هؤلاء الكتّاب حتّى وإن لم يكونوا يمتّون بصلة إلى العرب أو إلى أصلهم، أو عرقهم، إلاّ أن أعمالهم الإبداعية تحفل بالعديد من الإشارات إلى كلّ ما هو عربي، تاريخاً، وثقافة، وفكراً، وإبداعاً، وإعجاباً، ومن هؤلاء أسماء مرموقة ومعروفة تحظى بشهرة عالمية. *كاتب وباحث ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم-بوغوتا-كولومبيا