المكي أكنوز، مهتم باللغة والثقافة الأمازيغيتين، ابن مدينة مريرت الأطلسية ضواحي خنيفرة، عاصمة زيان، في الخمسينيات من عمره، صاحب أقدم أرشيف يتضمن دررا من المقطوعات الأمازيغية، مثقف عصامي، رحالة في عوالم الفن، وعاشق وثني للفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط، شغله الشاغل الحفاظ على التراث الأمازيغي من الضياع، عبر "أرشفته" وصونه للأجيال اللاحقين حتى يطلعوا على موروث أجدادهم من رواد الموسيقى الأمازيغية. سيجد قراء هسبريس الأعزاء في هذه الحلقة الجزء الثاني والأخير من الحوار، بعد الجزء الأول الذي نشرته الجريدة يوم الأحد المنصرم تحت عنوان: "المكي أكنوز: لا كرامة في وطن "يُهين" الإبداعات والفنون الأمازيغية". من خلال صفحتك الفيسبوكية، يتبين أنك على صلة وثيقة مع الراحل محمد الرويشة، حدثنا عن ظروف اللقاء؟ التقيت محمد رويشة، كما ذكرت سابقا، في حفلة بمريرت. كان يمثل جزءا عزيزا في تكويني الوجداني منذ الطفولة المبكرة. إنني مهما كتبت ومهما بكيت، فمحمد رويشة سيبقى على مدى الأعوام أكبر من أي مقال وأغلى من أية دموع. فهذه الهبة السماوية لن تجود بمثلها الأيام إلا إذا وقعت معجزة إلهية. نحن من أنعم الله علينا بأن عشنا في عصره، وسعدنا ونعمنا بعزفه وبغنائه الأثيل. علاقتي بمحمد رويشة هي علاقة وطيدة إلى آخر لحظة من حياته. عشت معه اللحظات الأخيرة التي كان يستعد فيها لمعانقة عالم الأبدية والنور في تعفف قل نظيره. رحل الرفيق العزيز، لكن روحه ظلت معي ومعكم تتحدى الموت وترسم إشارات للحياة ولو من بعيد. رحل محمد رويشة الجسد ولم يرحل محمد رويشة المبدع. سيظل بيننا وبين عشاقه، سواء في المغرب أو خارجه، صوتا ونبرة وشعارا جميلا دائم اليانعة والاخضرار. علاقتي الخاصة به كانت علاقة روحية فنية أكثر من عائلية. كنا لبعضنا البعض قدوة ونبراسا، وكنت الرفيق الذي لا يفكر أبدا في الأشياء المضادة لقيم الحياة والصفاء. كان جزءا من فرحتي بالحياة؛ إذ من المستحيل أن يمر عيد أو مناسبة احتفالية سعيدة دون أن أزوره أو أتصل به هاتفيا. وباختصار بيني وبينه أسرار وأسرار، وعندما رحل أخذ معه كل أسراري وظلت معي الكثير من أسراره؛ تلك الأسرار التي لا يعرف بعض معانيها إلا نهر أم الربيع. كيف تنظر إلى الساحة الفنية بالأطلس المتوسط بعد ترجل رويشة من سفينة الحياة؟ لا ينكر أحد أن محمد رويشة هو من العباقرة في تاريخ الموسيقى الأمازيغية بالأطلس المتوسط، وأنه بمثابة "طفرة" موسيقية ما تزال منهلاً للعازفين على آلة الوتر. محمد رويشة يستطيع النوم على أمجاده السالفة، لأننا نشك في احتمال العثور على نظير له في العزف على آلة الوتر بالمغرب وغير المغرب. من حيث طول عمره الفني، استطاع أن يتخطى عمره هذا نصف قرن، وظل في الطليعة بلا منافس أو مجار، دون أن تفتر همته في الفن. إن التاريخ حين يقيم ميزان التقويم لا يلتفت إلى الهنات، بل ينتخب البدائع من كل فنان ليعطيه مرتبته ومكانته. ولا شك أن محمد رويشة، بما له من نتاج وفير ورفيع، يتقدم الصفوف والمراتب وهو فريد في المغرب. لقد استطاع أن يقطع بالغناء الأمازيغي شوطا بعيدا، بدأه من مواقع حمو باليازيد، الحاج نعينيعة، مولاي إدريس، صالح احمد الملقب بالويسكي، مولاي بوشتى، محجوب زعريط، بوزكري عمران، ميمون أوتوهان، شرقي، مولود أولبشير وغيرهم... وأنهاه بأسلوبه الغنائي بالغ الجمال. خلاصة القول إن محمد رويشة كان نسيجا خاصا ليس فقط بعزفه فحسب، بل بكل مظاهر حياته بكل محتواها. كان محمد رويشة الشيء الخارق المنفرد، وليس معنى هذا أن خنيفرة التي أنجبته غير قادرة على أن تقدم لنا مثله، كل ما أعنيه أن احتمال وجود فنان عظيم مثله ليس مستحيلا، ولكن المهم أن يكون شيئا خاصا لا نسخة أخرى منه. إبان سنوات الرصاص بخنيفرة، اعتُقل بعض رواد الأغنية الأمازيغية. من هم هؤلاء الذين طالهم الاعتقال؟ هناك على سبيل المثال عائشة تغزافت، زينب أوخثار، أمارش فاطمة، الملقبة بفاطمة تيتڤيت، محمد مغني، المرحوم استوح لحسن أعشوش، بولي قدور، احساين بومية، المرحوم أمحزون باسو نبعدي. والنساء بالخصوص عشن العذاب والسجن بكل أشكاله البشعة، وذقن المرارة والويلات، لا لشيء إلا لأنهن غنين بحناجرهن الذهبية رثاء لمن حكم عليهم آنذاك بالإعدام، فأخرستهن أيدي الجلاد كما أخرست غيرهن من قبل. هل ساهمت الأنترنيت في ذيوع الأغنية الأمازيغية أم العكس؟ لقد أصبح اليوم في ميسور الإنسان العادي أن يجلس في داره مسترخيا، في أي ركن من أركان العالم، ويستمتع بموسيقى يؤديها أعظم الفنانين في العالم، وذلك بفضل التقدم المذهل في وسائل التسجيل الموسيقي، التي يتلاحق تقدمها وتطورها من عام إلى عام. فمنذ أن اخترعت الأسطوانة ثم الشريط التسجيل المغناطيسي، وتكنولوجيا التسجيل تتقدم في طفرات سريعة، وتخرج لنا المصانع وسائل شديدة التعقيد والإتقان لتسجيل الموسيقى ونقلها، مسموعة ومرئية، مع انتشار المبتكرات الرقمية، ومع يوتيوب استطاع كل مغنٍ أن ينشر أغانيه، وصار بإمكانه أن يجد متذوقيه. وفي المقابل، استطاع الجمهور غربلة الأسماء والتمسك بالأصوات الجميلة والمواهب المتميزة. لكن مع انحسار الغناء المباشر باستعمال تقنية البلاي باكPlay bak ، باتت مقاييس الفن مختلفة، فلم تعد الشهرة مرتبطة بجمال الصوت أكثر من ارتباطها بجمال الجسد والإغراء والدعاية. ويلاحظ أن هناك العديد من الأصوات الجميلة في أيامنا، لكن أغانيها تشكو من الركاكة في السكب وسطحية في المواضيع وضياع في الهوية اللحنية، باسم العولمة والتشابه الشديد في توزيعها الموسيقي. أمام هذه الموجة، لم يكن أمام المتمسكين بالفن الأصيل خيارات كثيرة، فإما أن يركبوا الموجة ويسقطوا في اللعبة، وإما أن يغيبوا عن الساحة الفنية ويطويهم النسيان. ومن باب الاعتراف بالواقع الماثل فيما أراه وأسمعه في هذه الأيام من أصناف الأغاني، أصبحت الأغنية الآن مجرد تسلية ولَم تعد طربا. كيف ترى مستقبل الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط؟ كانت الأغنية الأمازيغية جزءا أصيلا من التراث والثقافة، وفي الماضي كانت هذه الأغاني تجسد القيم الاجتماعية وتتقيد إلى حد كبير بالأطر الأخلاقية، وكانت كلماتها مزيجا من القصائد العاطفية حول الحزن والعشق البريء، والشكوى والذل والنواح، إلى جانب ما ترمي إليه المعاني من الاستكانة ولوعة الحب والحسرة من هجر الحبيب، لكن هذا الفن انحرف فجأة عن مساره، وهبط هبوطا سريعاً إلى أسفل درك، بعد أن ركب موجته مرتزقة الفن؛ فلم تعد في الأغاني قصة ولا حكاية، وتحولت إلى صراخ وضجيج مع موسيقى صاخبة رنينية، وكلمات هابطة لا تحتاج شاعرا، بل مجرد ترديد للكلمات السوقية التي هي في حالة فقدان الوزن، ولم تعد حائرة بين الأصالة والمعاصرة فحسب، بل أصبحت مجافية لأصالتها التي عرفت بها على مدى القرن الماضي. نحن لسنا ضد التجديد، ولكن يجب الانطلاق من أرض التراث الأمازيغي، وهو الحالة الوحيدة التي تنطوي على احتمالات فن قابل للخلود ومغالبة الزمان. لكن على المستفيد من تجارب الشعوب الأخرى أن يضرب، أولا، جذوره عميقا في تربة تراثه، حتى لا تتحول تجربة الاستفادة إلى رحيل عن التربة الأصيلة إلى تربة هجينة لا تثمر ثمرا طيبا. إذا كانت الأغنية منهارة في معناها أو موسيقاها، ستصبح نوعا من التخريب الاجتماعي. كان الفنان صورة صادقة لأوضاع المجتمع. الأمل الذي كان يلح علي ويكبر في صدري، هو أن أرى الفن وأهل الفن ينالون حقهم من احترام المجتمع. إن الفنان يجب أن ينظر إلى الخلف، وأن تكون بينه وبين القديم صلة، حبل مثل الحبل الذي يربط الجنين بأمه، وينقل له منها الغذاء وأسباب الحياة، ومثلما يخرج الجنين من الأم يخرج الفن الجديد من الفن القديم، امتدادا شابا متطورا، لكنه مستقل عن أمه، له شخصيته وله كيانه، وفي الوقت نفسه له دم الأم وملامحها، هذا هو وصف علاقة التجديد بالتراث. وفي المحصلة، نكاد نرثي حال الأغنية الأمازيغية وهي تلبس ثوبا موسيقيا غربيا ليس بثوبها الأمازيغي المتعارف عليه؛ إذ تتراكم أسماء الفنانين وتتناسل الأغاني دون أن تضيف جديدا. لقد هيمن المتطفلون وأصحاب الأصوات الخشنة والرديئة التي يتم تجميلها بالآلات، على عكس عمل الرواد الذي يظل تراثا خالدا ليموت. فجل الإنتاجات الحالية المتواجدة في السوق تتشابه في اللحن كوجوه اليابانيين.