المكي أكنوز، مهتم باللغة والثقافة الأمازيغيتين، ابن مدينة مريرت الأطلسية ضواحي خنيفرة، عاصمة زيان، في الخمسينيات من عمره، صاحب أقدم أرشيف يتضمن دررا من المقطوعات الأمازيغية، مثقف عصامي، رحالة في عوالم الفن، وعاشق وثني للفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط، شغله الشاغل الحفاظ على التراث الأمازيغي من الضياع، عبر "أرشفته" وصونه للأجيال اللاحقة، حتى يطلعوا على موروث أجدادهم من رواد الموسيقى الأمازيغية. متى راودتك فكرة جمع التراث الأمازيغي في أرشيف؟ أذكر أن شغفي بالفن يعود إلى أواخر السبعينات، زمن ظهور راديو كاسيط، حيث كنت أنتظر بفارغ الصبر يوم الخميس، السوق الأسبوعي بمريرت لاقتناء بعض الأشرطة لمحمد رويشة، فأزود جهاز الراديو كاسيط ببطاريات جديدة لأمضي ليلي مع هذه الأشرطة الغنائية. كنت أدعو رفاقي للسهر معي والاستمتاع بأنغام وصوت محمد رويشة. كانوا يبدون إعراضا عن دعوتي. ولكنني ألح عليهم حتى استطعت بعد جهود مضنية، أن أغرس في قلوب البعض منهم أشد مني تذوقا لمعزوفات محمد رويشة وأكثر إعجابا بفنه، وظللت سنوات أحسد من يحضر حفلات محمد رويشة وأحلم بأن يتاح لي أن أكون واحدا من هؤلاء. إذ كنت أرى في عزفه على آلة الوتر هدية من الخالق لمخلوقاته أو هبة من هباته. وأخيرا تحقق الحلم وكان ذلك عام 1979، حين جاء محمد رويشة إلى مريرت لإحياء حفلة، يومها سعيت إلى أحد الأصدقاء الأوفياء فاستدنت مبلغا لشراء البطاريات والأشرطة الفارغة، قصد توثيق هذه الحفلة. وعند التاسعة ليلا كانت نجوم السماء تسهر فوق نجوم الأرض، وضعت أمام محمد رويشة آلة التسجيل (المسجلة من نوع Aiwa) لتوثيق هذه الليلة، وشعر محمد رويشة بمن حوله فذاب، ذاب غناء وذاب وجدا وذاب وهجا بالجمال الذي لولاه لما طاب له الغناء، وشق الصراخ سكون الليل وتعالت الهتافات تختلط بالتصفيق والتهليل والنداء. لقد شعرت حقا أن حلمي الكبير قد تحقق وأني أصبحت أنتمي إلى جمهور محمد رويشة بكل فخر واعتزاز. إن هذه الذكريات ما نسيتها قط، بل هي معي وستظل حتى الرمق الأخير من حياتي، من هنا بدأت رحلتي نحو البحث واكتشاف أغوار الفن، وتنقّلت بين ربوع الوطن بحثا عن كنوز الفن الأمازيغي في شتائه القارس، وصيفه القائظ، وتعلمت من كل بيئة أنفع ما فيها، فمنحتني العمل الدؤوب والتحمل والصبر مشمولاً بالتجمُّل، وصقلتني الأمازيغية بجذورها وتاريخها وأكسبتني مقومات وممكنات في ذاتي، وفيها تعلمت كما من عوائد وفوائد، وفي بداية الثمانينيّات كان الموعد مع العمل بلا كلل والسعي الدائم لإدراك الذات وسط التحديات. أصبحت مسافرا في دروب مدرسة الحياة، رحالة في عوالم الفن عاشق وثني للفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط وأسعى إليه، وأنحني احتراما لكل فنان وعقل مستنير وفن غزير، أؤمن أن حياة الإنسان رسالة سامية طالت الرحلة أم قصرت. هواياتي جمع الأرشيف الفني هو الذي جعلني ناسكاً في محراب الفن صحبة المعادن النقية الوفية والرموز الفنية النيّرة، تمنحني ثقة واطمئنانا وحنينا إلى الزمن الجميل أجد في مجالستهم المؤانسة والإمتاع، مشورتهم هي عين الهداية ودليل الوصول. كيف استقبل الفنانون في الأطلس المتوسط الفكرة؟ كنت أحاول بكل ما أملك رصد الحياة الموسيقية بالأطلس المتوسط، من خلال الأعلام الذين عبدوا الطريق بجهودهم الفردية، ومواهبهم الفذة، وتفانيهم في العطاء، فأناروا بالموروث الذي حفظوا، والإبداع الذي حققوا شعلة الموسيقى للأجيال التي جاءت بعدهم، كي تتابع رسالتهم الفنية من التراث الذي خلفوا، ومن النقطة التي انتهوا إليها في فنهم. اشتهر العديد منهم وأصبحوا رمزا وأساطير في هذا الميدان، غير أنه لم يتسن إلا للقليل من الناس الاستماع إلى تلك الأصوات الضاربة في الشهرة، بينما راجت آلاف الأسطوانات من فئة 33/ 45/78 لفة، لم ينج من التلف منها إلا القليل، وإن الاهتمام بهذه الثروة الموسيقية بات ضروريا، إذ نجد فيها ما يستمتع به المعجبون في غياب المعاهد الموسيقية والمنهجيات وظلوا بفطرتهم يسعون إلى السبيل في شهرة محلية، وبما تحمله تلك الأسطوانات من أصوات لاح صيتها، منها ما أدخل في سجل التاريخ الفني الأمازيغي، وبقي أصحابها في طَي النسيان. لقد بلغ من تألق هؤلاء الشيوخ بهذا التراث الأمازيغي، أن وجدت من يحافظ على سلوكها الفني الأصيل، وكان هؤلاء الشيوخ تمتلكهم هواية فطرية من فرط التشبع بغاية الحفظ والسماع، لقد تتوالى بعدهم الأجيال التي عاشت في أكنافها، حاملة مشعل هذا الفن، ضامنة لاستمرار إشعاعه بواسطة الحرص على حفظ أشعاره، وضبط ألحانه وإيقاعه، وأدائه على الصورة المثلى التي مازالت إلى اليوم تتميز بخصائصه ينفرد بها الأطلس المتوسط عن غيره، كان هؤلاء الرواد هاجسهم الوحيد حفظ هذا التراث، وإشباع رغباتهم الفنية وتعلمه وأدائه، دون أي تفكير في اتخاذه وسيلة للكسب والانتفاع. إن هذا التراث الفني يعتبر شجرة نبعها الماضي وفروعها الحاضر والمستقبل، مخزوننا التراثي وهويتنا الناطقة، الذاكرة والوجود وهو بمعناه الأوسع المغرب. لهذا وجب علينا توثيقه والحفاظ عليه، فالبعض منهم كان يلح على حضوري لبعض الأمسيات الفنية لتوثيقها. ما هي الإكراهات التي واجهتك وأنت تحفظ المقطوعات الأمازيغية؟ لَم يكن بالأمر الهين التنقيب عن أرشيف رواد الأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط، وتدوينه وجمع شتات ما يمكن أن يحتويه من مراحل تاريخ هؤلاء الرواد ومآثرهم الفنية. بدأت بعميد الأغنية الأمازيغية بوفلا حمو باليازيد، وكان من أهم المراجع الفنية التي اعتمدت عليها مجموعات تسجيلاته الصوتية، على قدر ما عنيت من مشقة في الحصول عليها، كانت إفادتي منها ضبط نصوص هذه الأغاني ومعرفة أصول ألحانها. ولقد دونت البعض من تسجيلاته الصوتية من الأسطوانات مقرونة بأرقامها. ورأيت عدم الاكتفاء بذلك، فكان لا بد من الاستعانة أيضا بالمصادر الحية. أعني أولئك الذين عاصروا الفنان من زملائه وأصدقائه ومحبيه. وأسجل مع الأسف الشديد أنني لم أفد من هذه الناحية شيئا كبيرا أو معلومات ذات قيمة، حتى لقد رغبت أن أعيش في الجو الذي نشأ فيه اوعصيم حمو اليازيد، فانتقلت إلى خنيفرةوعين اللوح وتجولت في الأجواء التي تأثر بها في طفولته وعاش بها في صباه وفِي نشأته الأولى. ومن المؤلم أن الناس حتى المسنين منهم لا يعرفون عنه الكثير. باستثناء إدريس مقور واليوسفي موحا الملقب برويشة عين اللوح، حسن بويقيفي، يامنة اولويرة، والمرحوم الوزير عبد السلام بنعيسى. على أني بعد هذا أشعر بالرضا عما وصلت إليه بالجهد المتواضع، حتى تمكنت من جمع أرشيڤ مهم الذي يصور مراحل حياة اوعصيم حمو اليازيد وغيره من الرواد، ويقدم فكرة عامة عن أعمالهم وآثارهم قدر الإمكان، عملية توثيق والأرشفة ليست سهلة؛ طريق طويل شاق ومتعب ومضني. هل دعمت وزارة الثقافة مبادرتك حينها؟ لا كرامة لوطن يُهان فيه الإبداع والفن الأمازيغيين في ظل غياب الجهات المختصة والرسمية لوزارة الثقافة، وفشلها الصادم المدوي في القيام بدورها المهني والوظيفي والإنساني المناط بها، لخدمة الفكر والمعرفة والثقافة والفنون الأمازيغية، وممارستها لسياسة الجهل والتسطيح والتغييب والتهميش التي أصابت عموم مفاصل الجسد الإبداعي الأمازيغي (بحالة شلل تام)، مما تسبب في توقف وإحباط (واغتيال حركة الخلق والابتكار) ومواكبة الرواد، في ظل هذه الظروف الصعبة القاهرة، اسمحوا لي أن أشعل شمعة في ظلام حالك دامس. إن الثقافة الأمازيغية هي هوية وحصانة ورسالة، لنقطع بذلك سبيل من لا يزالون يعتقدون أن الثقافة الأمازيغية هي مجرد جزئية وجودها كعدم. لقد ورث المغرب عن تاريخه تراكماً ثقافياً عبر حقب من التاريخ مثلتها حضارات متعاقبة، الأمر الذي جعل المغرب من أوائل الأقطار التي تعني بوجود وزارة الثقافة أن تكون مهمتها إكساب الشخصية المغربية تعريفا بتاريخها وصيانة مقدرات هذا الوطن، من تراثه ورعاية مكتسباته الإبداعية، الناتجة عن عطاء أفراده، وهذه الأهداف جميعها استوجبت وضع سياسة ثقافية ترتكز على محاور أساسية هي الرؤية الشاملة للكيان الثقافي المغربي. للأسف لقد بُح صوتي وأصبح صيحة في واد ونفخة في رماد. ما هي، في نظرك، السبل المثلى لحفظ التراث الأمازيغي من الضياع والنسيان، لاسيما وأن أغلبه شفهي؟ إذا كان جمع مادة علما من العلوم أو فنا من الفنون وإخراجها إلى عموم الباحثين والمهتمين، كعمل له قيمته المعرفية باعتباره مرحلة أولية لا بد منها في مسار أي بحث من البحوث العلمية، فإن هذا العمل تتضاعف قيمته العلمية كلما تعلق الأمر بالثقافات الشفاهية التي يكون تراثها معرضا أكثر للاندثار والزوال، إذ تصبح عملية جمع هذا التراث وتوثيقه ونشره من أولى الأولويات، وتغدو وسيلة وهدفا في الآن نفسه. انطلاقا من غيرتي الكبيرة على هذه التجربة، استوجب الأمر ضرورة التفكير في سبل تنظيمية أكثر نجاعة لمأسسة عملية جمع التراث الأمازيغي وتوثيقه ونشره، حتى لا يبقى الأمر مجرد مبادرات فردية هنا وهناك، وتلك مهمة موكولة للدوائر الثقافية الرسمية، وللمعاهد المختصة وللجمعيات المهتمة. تأسيس شعب ووحدات بحث ببعض الجامعات المغربية تكون مهمتها جمع هذا التراث، وإعداد باحثين أكفاء وخبراء مؤهلين لولوج عوالم التراث الفني الأمازيغي بالأطلس المتوسط. والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في الميدان السمعي البصري لتوثيق هذا التراث بالصوت والصورة.