تعتبر عقوبة الإعدام من بين القضايا الحقوقية الخلافية التي تثير الكثير من الجدل بين أنصار الإبقاء على العقوبة ودعاة الإلغاء، وهو جدل له ارتباط بإشكالية الكونية والخصوصية، فدعاة الإبقاء هم من المتشبثين بالخصوصية الثقافية ليس فقط في قضية الإعدام بل في جل القضايا الأخرى، أما المطالبون بالإلغاء فهم من المدافعين على كونية حقوق الإنسان باعتبارها حقوق غير قابلة للتجزئ ومترابطة ومتشابكة، فظاهره اختلاف بين توجهين مختلفين في المواقف، أما جوهره خلاف بين مرجعتين أحدهما تنهل من المنظومة الدولية لحقوق الإنسان بصفتها حقوق تسري على جميع البشر، والأخرى تنطلق من مسلمة مفادها أن هذه الكونية المزعومة ما هي إلا خصوصية غربية بغطاء حقوقي مهدد للهوية الثقافية. إن هذا الجدل المحتدم لا يكاد ينتهي، فهو جدل قديم يتجدد مع تجدد النقاش المجتمعي حول بعض القضايا الحقوقية من قبيل عقوبة الإعدام، والحال أنه جدل محسوم دوليا من منطلق المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد بفيينا سنة 1993 الذي أقر في وثيقته الختامية "إعلان وبرنامج عمل فيينا" ما يلي "وفي حين أنه يجب أن توضع في الاعتبار الخصوصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول، بصرف النظر عن نظمها السياسية والإقتصادية والثقافية، تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية". عقوبة الإعدام والحق في الحياة ترتبط عقوبة الإعدام بالحق في الحياة الذي يعتبر من الحقوق الطبيعية المقدسة في منظومة حقوق الإنسان، فالمطالبة بإلغاء أو إبقاء العقوبة يجد مبرراته في حماية هذا الحق، إذ أن المعارضون والمؤيدون معا يتحججون بحماية حياة الإنسان باعتبارها هي الأصل لكن يختلفون في موقفهم من عقوبة الإعدام، فبينما يطالب دعاة الإلغاء بمنع العقوبة لأنها تتنتهك الحق في الحياة، يتشبث دعاة الإبقاء بتطبيق العقوبة في حق كل من يستهدف حياة الأخرين خاصة في الجرائم البشعة، الأمر الذي يفسر تشبث كل من الطرفين بالفصل 20 من دستور سنة 2011 "الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان، ويحمي القانون هذا الحق". ويندرج الحق في الحياة ضمن ما يعرف بالجيل الأول لحقوق الإنسان أي الحقوق المدنية والسياسية بصفتها حقوق فورية التطبيق ولا تتطلب من الدولة إلا الالتزام باحترامها وعدم المساس بها، عكس حقوق الجيل الثاني (الحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية) التي تتطلب من الدولة اتخاذ تدابير وتكاليف مالية بغية تحقيقها؛ إلا أن الحق في الحياة له صلة بجميع أجيال الحقوق بما في ذلك القضايا الناشئة لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني، فانتهاك حق من الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية يؤدي بشكل أو بأخر إلى المساس بالحق في الحياة. جدير بالذكر إلى أن ارتباط الحق في الحياة بالحقوق الأخرى أكدته التعليقات العامة للجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على المادة السادسة من العهد (التعليق العام رقم 6 لسنة 1982؛ والتعليق العام رقم 14 لسنة 1984؛ والتعليق العام رقم 36 الصادر في أكتوبر 2018 الذي عوض التعليقين السابقين)، واعتبرت هذه التعليقات الحق في الحياة هو الحق الأسمى الذي لا يجوز تقييده والأساس الذي تقوم عليه جميع حقوق الإنسان، وأكدت بأن المادة السادسة توحي عباراتها بصورة عامة على إلغاء عقوبة الإعدام. وقد تم التنصيص علي الحق في الحياة بالمادة الثالثة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فأعادت التأكيد عليه بشكل دقيق المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولم تنص المادة الواردة في العهد بشكل صريح على إلغاء عقوبة الإعدام، حيث تضمنت بنودها الضمانات الضرورية في حق المحكوم عليهم بالعقوبة بما في ذلك التماس العفو ومنحه أو طلب إبدال العقوبة، وعدم جواز الحكم بها في حق الأشخاص الأقل من ثمانية عشرة سنة، ثم عدم تنفيذها في حق الحوامل.. إلا أن الفقرة السادسة من المادة السادسة أحالت إلى عدم جواز التذرع بهذه المادة بغية منع إلغاء عقوبة الإعدام من أي دولة طرف في العهد. وفي سنة 1989 اعتمد البروتوكول الثاني الخاص بإلغاء عقوبة الإعدام الذي دخل حيز التنفيذ سنة 1991، هذا البرتكول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وصل عدد الأطراف فيه إلى 85 دولة و39 دولة موقعة وفق أحدث تقرير للأمين العام للأمم المتحدة حول الوقف الاختياري لاستخدام عقوبة الإعدام الصادر سنة 2018؛ فتبعا لديباجة البروتكول فإن إلغاء عقوبة الإعدام يساهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان، كما اعتبر التدابير المتخذة من طرف الدول لإلغاء عقوبة الإعدام تساهم في التقدم نحو التمتع بالحق في الحياة. المغرب وعقوبة الإعدام.. إبقاء مع وقف التنفيذ لم ينفذ المغرب عقوبة الإعدام منذ سنة 1993، لكنه لم يلغيها من التشريع الوطني، وهذا ما يموقعه ضمن الدول التي لا تطبق العقوبة في الواقع، وعدم إلغائها من القانون معناه أنه من الممكن العودة لتطبيقها في أي وقت ما دامت المحاكم لم تتوقف عن إصدار أحكام الإعدام في بعض الجرائم الخطيرة، ثم أن المغرب لم يصادق على البروتكول الثاني الخاص بإلغاء عقوبة الإعدام، ناهيك على أن هناك من يطالب بالعودة إلى تنفيذها خصوصا في بعض الجرائم التي تخلف استياء مجتمعي. وليس هناك ما يؤكد على الأقل في المدى القريب أن المغرب سيلغي العقوبة من القانون والممارسة رغم كل المطالب الحقوقية التي ترافع من أجل إلغائها بشكل نهائي إسوة بالدول التي سارت على هذا النهج، بما في ذلك توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان باعتباره تولى متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي من بين ما أوصت به هو إلغاء عقوبة الإعدام والمصادقة على البروتكول الثاني. وتشير التعديلات التشريعية للنصوص التي صدرت أو قيد المراجعة إلى أن الدولة تسير نحو تقليصها وحصرها في بعض الجرائم ذات الخطورة على أمن المجتمع، حيث ينجلي ذلك بوضوح من خلال التقليص من عددها في قانون العدالة العسكري من 16 إلى 5، كما تم حصر عدد الجرائم المحكوم فيها بالإعدام في مشروع القانون الجنائي في 9 بدل 31 الواردة في القانون الجنائي بصيغته الحالية، من بينها جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب أو ما يعرف بجرائم نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية رغم أن هذه الأخيرة لا تحكم بعقوبة الإعدام، ثم أن مشروع قانون المسطرة الجنائية نص على أن هذه العقوبة لا يتم الحكم بها إلا إذا وقع حولها إجماع من طرف القضاة الذين شاركوا في إصدار الحكم مع ضرورة تضمين ذلك في محضر المداولات، وتمتيع المحكوم عليهم من حق طلب العفو. عقوبة الإعدام وتوصيات الاستعراض الدوري الشامل تختلف آلية الاستعراض الدوري الشامل عن الآليات الدولية الأخرى المعنية بحقوق الإنسان، فهي أولا آلية يتم من خلالها استعراض السجل الحقوقي لجميع الدول الأعضاء بهيئة الأممالمتحدة كل أربع سنوات ونصف بمجلس حقوق الإنسان الأممي سواء كانت هذه الدول مصادقة على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان أم لا، وثانيا تشمل عملية الاستعراض جميع حقوق الإنسان بما في ذلك قواعد القانون الدولي الإنساني الواجبة التطبيق، وثالثا عملية الاستعراض بالفريق العامل تجريها الدول الأعضاء والمراقبة بمجلس حقوق الإنسان للدولة التي تقدم تقريرها الوطني وليس الخبراء المستقلين كما هو الشأن في افتحاص التقارير بآليات المعاهدات. لهذا فإن الأسئلة والتوصيات التي تقدمها الدول للدولة موضوع الاستعراض تعكس وجهة نظر الدول، ولا يمكن لدولة ما أن توصي دولة أخرى بحماية حق معين لا تحترمه هي نفسها، لأنها ستخضع هي الأخرى لاستعراض سجلها الحقوقي وفق دورية وترتيب يضعه المجلس مع بداية كل جولة، معنى هذا أن التوصيات في أغلبها هي تعبير على التوجه الحقوقي للدول التي أصدرتها باستثناء التوصيات المسيسة التي يكون دافعها تصفية الحسابات مع الدولة الخاضعة للاستعراض، ثم أن هذه التوصيات لا تكون ملزمة للدولة الموجهة إليها إلا في حالة ما إذا قبلتها، أما في حالة الرفض فإنها لا ترتب أي أثر قانوني. في هذا الإطار نحيل على التوصيات ذات الصلة بعقوبة الإعدام التي تلقاها المغرب خلال الجولات الثلاثة لاستعراض، حيث استعرض السجل الحقوقي للمغرب في الجولة الأولى 2008 والجولة الثانية 2012 والجولة الثالثة 2017، فتلقت الحكومية المغربية خلال الجولة الثانية 147 توصية من بينها ثلاثة توصيات ذات الصلة بعقوبة الإعدام فأيد منها توصية واحدة ورفض توصيتين، أما في الجولة الثالثة فوصل عدد التوصيات ذات الصلة بعقوبة الإعدام إلى ستة عشرة توصية من بين 244 توصية التي تلقاها المغرب، فعبر عن قبوله الكلي لستة توصيات (4؛93؛96؛97؛98؛99)، في حين رفض جزئيا أربعة توصيات (94؛95؛96؛101)، ورفض كليا ستة توصيات (2؛3؛5؛ 18؛92؛100). ما يتضح من هذه التقارير هو الارتفاع في عدد التوصيات المتعلقة بالعقوبة من الجولة الثانية إلى الثالثة، وهو ارتفاع يعكس الاهتمام الدولي بالموضوع، وهنا لابد من الإشارة إلى أن عملية الاستعراض الدوري الشامل بالفريق العامل تشارك فيه الدول الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان البالغ عددها 47 دولة وأيضا الدول التي لها صفة مراقب، حيث وصل عدد الدول التي شاركت في استعراض المغرب خلال الجولة الثالثة ما يقارب مائة دولة، ومن خلال قراءة التوصيات يتضح بأن عقوبة الإعدام والحق في الحياة من بين الحقوق التي أخذت حيزا كبيرا في عدد التوصيات مقارنة مع الحقوق الأخرى. هذه الأرقام تؤشر على أن عدد التوصيات سيتضاعف خلال الجولة المقبلة، بحكم أن عملية الاستعراض موجهة للمستقبل، إذ تبدأ كل جولة من حيث انتهت الجولة السابقة، فتعمل الدولة ما بين الجولتين على تنفيذ التوصيات التي قبلتها بشكل كلي أو جزئي في الجولات السابقة، ثم تدفع في اتجاه إحراز التقدم في حماية وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، لهذا فإنه ليس هناك ما يمنع الدول المشاركة في الاستعراض من إعادة التوصية بتوصيات رفضت في قبل، خصوصا وأن عدد الدول التي ألغت العقوبة يتزايد على المستوى العالمي. العالم يتجه نحو إلغاء العقوبة العالم يتجه نحو إلغاء عقوبة الإعدام، هذا ما تؤكده الأرقام والمؤشرات المستحدثة لسنة 2018 التي تبين ارتفاع في عدد الدول التي تسير في اتجاه الإلغاء، فقد وصل عدد الدول التي ألغت العقوبة في القانون والممارسة 105 دولة، بينما احتفظت قوانين تسعة دول بالعقوبة في بعض الجرائم، في حين لم تطبق 29 دولة العقوبة في الواقع لأكثر من عشرة سنوات رغم احتفاظها بالعقوبة في قانونها الوطني، أما الدول التي احتفظت بالعقوبة في القانون والممارسة فيصل عددها 55 دولة؛ كما لم تنفذ 170 دولة العقوبة سنة 2017 وفق تقرير للأمين العام سنة 2018. وفي دجنبر 2018 صوتت على قرار الجمعية العامة الخاص بالوقف الاختياري لعقوبة الإعدام 121 دولة، ولم تصوت ضده إلا 35 دولة، بينما امتنعت 32 دولة على التصويت من بينها المغرب، حيث امتنع التصويت على جل القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة سنة 2007 و2008 و2010 و2012 و2014 و2016 و2018 الخاصة بالوقف الاختياري لتنفيذ العقوبة، الأمر الذي تطرح معه الكثير من الأسئلة حول ضبابية الموقف الحكومي وازدواجيته ما بين عدم التنفيذ في الواقع والامتناع عن التصويت على قرارات الجمعية العامة، لأن الكثير من الدول التي تحتفظ بالعقوبة في القانون ولا تنفذها في الواقع تصوت لصالح القرار. وعلى مستوى القارة الإفريقية فإنه من بين 54 دولة إفريقية ألغت 20 دولة العقوبة في القانون والممارسة، ولم تطبق 17 دولة العقوبة في الواقع لمدة تفوق 15 سنة، بينما تطبقها 16 دولة، ودولة واحدة (بوركينافاصو) تطبقها في الجرائم الخطيرة فقط، وهي أرقام تؤكد على أن الدول الإفريقية تتجه هي الأخرى نحو الإلغاء أو وقف التنفيذ أو الاحتفاظ بها في الحالات الاستثنائية، أما عربيا فمن بين 22 دولة عضو في الجامعة العربية ألغت العقوبة في القانون والممارسة دولة وحيدة هي جيبوتي، في حين احتفظت باقي الدول بالعقوبة في القانون وأغلبها تنفذها في الواقع باستثناء المغرب والجزائر وتونس وموريطانيا. فالواضح أن الخصوصية الثقافية للدول العربية تقف حاجزا لإلغاء العقوبة في القانون أو على الأقل وقف تنفيذها، لكن لابد من القول بأن التذرع بالخصوصية في قضية الإعدام قد لا يكون مقنعا، خصوصا في الحالات التي يتم فيها تنفيذ العقوبة في القضايا ذات الطابع السياسي أو الطائفي، كما هو الشأن في تصفية المعارضين السياسيين أو الأقليات الدينية والعرقية، بما معناه أن الأنظمة الاستبدادية توظف الخصوصية بغية التخلص من معارضيها بأحكام الإعدام وفق ما تثبته أغلب حالات الإعدام بالمحيط الإقليمي والدولي في العصر الراهن. خاتمة هل يسير المغرب في اتجاه الدول التي احتفظت قوانينها بالعقوبة في بعض الجرائم؟ أم سيتبع خطى الدول التي ألغت العقوبة في القانون والممارسة؟ هل سيصطف ضمن الدول التي أوقفت التنفيذ وتتجه بشكل تدريجي نحو الإلغاء النهائي للعقوبة أم العكس؟ هل سيختار صف المناصرين للحق في الحياة أم سيصطف مع أعداء الحياة والمؤيدين لثقافة الموت؟ تلكم بعض الأسئلة التي تؤرق بال الحقوقيين والمدافعين على القيم الإنسانية في بعدها الكوني، أما ما أسلفنا ذكره أعلاه فيبين بأن الجدل الوطني تميل كفته في اتجاه الحفاظ عليها في القانون وعدم تطبيقها في الواقع دون ضمانات لمنع عودة التنفيذ، وفي أبعد التقدير فإنه سيتم الاحتفاظ بها في حالات محصورة العدد مع تقييد إصدار الحكم بها بشروط، في حين أن السياق الدولي يخطو خطوات نحو الإلغاء التام للعقوبة، وهذا ما يتطلب تعميق النقاش في الموضوع بشكل هادئ ورصين مع استحضار التراكم الحقوقي للمملكة وموقعها في النسق القاري والدولي.