على مشارف مدينة سيدي يحيى الغرب ووسطها، تنتصب تجمعات صفيحية يعيش سكانها الفقر والبؤس، ويصارع قاطنوها الذل والهوان في "براريك" تفتقر لأبسط متطلبات الحياة الطبيعية، وتنعدم فيها أدنى شروط العيش الكريم. سكان دوار "الشانطي" ودوار "السكة" و"المارشي" و"مستودع الخشب" وغيرها من الدواوير يشعرون بأنهم ينتمون إلى منطقة نائية من مناطق المغرب العميق، على الرغم من أنهم لا يبعدون عن المدار الحضري لمدينة القنيطرة عاصمة الغرب إلا بكيلومترات قليلة؛ فلا برنامج "مدن بدون صفيح" نجح في تخليص هؤلاء المواطنين المغاربة من جحيم القصدير والبناء العشوائي، ولا المجالس التي تعاقبت على تسيير جماعة سيدي يحيى الغرب بذلت جهدا للحد من انتشار الأكواخ التي تحط من الكرامة الإنسانية وتنبت بشكل مهول كل عام. دوار "الشانطي" قيدوم الأحياء الصفيحية في المغرب بعمر ناهز قرنا من الزمن، يوجد في الجهة الجنوبية من مدينة سيدي يحيى الغرب أقدم "كاريان" في المغرب يعرف بدوار الشانطي، ويضم أكبر تجمع بشري في جهة الرباطسلاالقنيطرة، وشهد مرحلة تاريخية من مراحل المقاومة المغربية ضد المستعمر الفرنسي باعتباره كان مكانا لتخزين الأسلحة الموجهة للمقاومين في منطقة الغرب. بوعزة الخالقي، من ساكنة دوار الشانطي ومهتم بقطاع الإسكان والتعمير، قال إن "البراريك" هنا تتناسل بصورة مخيفة في غياب مقاربة حقيقية للقضاء على السكن الصفيحي"، مضيفا أن "هذا التجمع السكني يضم أكثر من 3700 كوخ قصديري مقسمة بين منطقتين متباينتين". وزاد: "المقطع العلوي هو مقطع صالح لإجراء إعادة الهيكلة في نفس المكان، إذ سيتم إزالة الدور الصفيحية بها وتعويضها ببنايات تستجيب للمواصفات التقنية ودفتر التحملات. ومقطع ثان منحدر يوجد بمجرى وادي "تيفلت" يسمى ب"المنطقة الفيضية" وهي المنطقة التي تم إحصاء ساكنتها سنة 2010 من أجل إيوائهم في تجزئة الوحدة 4 التي تم تفويتها من طرف الجماعة السلالية الرحاونة لشركة العمران بثمن رمزي مقابل إيواء كل التجمعات الصفيحية الموجودة بالمدينة". وأكد الفاعل الجمعوي وعضو لجنة الحوار عن المنطقة الفيضية، في حديث لجريدة هسبريس، أن "عملية إحصاء وترحيل سكان هذه المنطقة شابته تجاوزات خطيرة" مشيرا إلى أنه "لم يتم احتساب دائرتين انتخابيتين مواليتين للون سياسي معين من ضمن المنطقة بالرغم من أنهما توجدان عند مصب الوادي كي لا يتم ترحيلهم إلى حي الوحدة 4 من أجل الاستفادة منهم انتخابيا من جهة وتفويت بقعهم لأناس لا تتوفر فيهم شروط الاستفادة وبطرق غير قانونية من جهة أخرى". من جانبه، قال حسن القدميري، وهو من سكان المنطقة الفيضية، إن "التجمع الصفيحي يعيش حالة كارثية مع تعاقب فصول السنة، إذ توجد به برك مائية ومستنقعات منتشرة في كل مكان؛ وهو ما يؤدي إلى انتشار الزواحف والحشرات الضارة بصحة الأطفال والشيوخ"، مضيفا أن "المسؤولين يتفننون في وعودهم الكاذبة" ومطالبا ب "بتوفير سكن لائق يرد للساكنة إنسانيتها، ويحفظ لها كرامتها". "دوار السكة" و"حي الأمل" وجهان لعملة واحدة في تسعينيات القرن الماضي، كان مرور قطار الملك الراحل الحسن الثاني من مدينة سيدي يحيى سببا في ترحيل 560 أسرة كانت تقطن في حي صفيحي مجاور للسكة الحديدية يسمى ب"دوار السكة" إلى منطقة داخل المدينة بوعد أن هذا الترحيل المؤقت لن يتعدى أشهرا قليلة، في انتظار إعادة إيوائهم في حي الوحدة 1 بعد استكمال تجهيزه، إلا أن هذا الانتظار طال لسنوات. يحكي رشيد المحيب، وهو من ساكنة دوار السكة، عن ظروف إيواء المرحلين فيقول: "تحولت هذه الأشهر القليلة إلى سنوات عديدة، ووجد الناس أنفسهم يتخبطون في دوامة من المشاكل بدون ماء ولا كهرباء وغياب قنوات الصرف الصحي؛ وهو ما أغرق الحي في القاذورات وخلق جوا متعفنا ساعد على انتشار الأمراض الجلدية والتنفسية"، ثم يضيف: "بعد إيواء المرحلين في حي الوحدة 1 تحت مسمى حي "الأمل"، عمدت السلطات المسؤولة مرة أخرى، باسم محاربة السكن غير اللائق، إلى ترحيل سكان دواوير "ادراعو" و"الخيرية" وغيرها من الدواوير بصفة مؤقتة إلى الحي الجديد نفسه، ليختلط الصفيح بالإسمنت مرة أخرى وتنبت أحياء قصديرية به ما زالت صامدة لأكثر من 25 سنة". وانتقد رئيس جمعية الأمل لمستقبل بدون صفيح وبيئة نظيفة بسيدي يحيى "تهرب المسؤولين الذين وعدوا الساكنة المُرَحّلَة بتمكينهم من بقع في أحياء الوحدة 1 و2 و3"، مشيرا إلى أنها "فوتت بطرق ملتوية لأناس لا تتوفر فيهم شروط الاستفادة، فيما بقي أصحاب الحق في طابور الانتظار"، وفق تعبيره. من سوق للخضر إلى سوق للبشر في التاسع والعشرين من شتنبر من سنة 2016، عاشت ساكنة دوار "السكة" بسيدي يحيى ليلة سوداء كلها خوف ورعب بعد التهام ألسنة النيران ل45 سكنا صفيحيا في مشهد مأساوي تحول إلى فاجعة شردت العديد من الأسر والعائلات بعد تحطم "براريكهم" الهشة التي كانت تحميهم من برد الشتاء القارس وحر الصيف القائظ. وبعد أن لملم المتضررون بقايا أحزانهم، تقرر إيواؤهم بشكل مؤقت كما هي العادة داخل دكاكين سوق مركزي، كان مخصصا لإيواء الباعة الجائلين بالمدينة ولا يبعد عن مقر قيادة عامر الشمالية إلا بأمتار قليلة. زيارة سريعة قادت هسبريس إلى السوق المركزي وقفت من خلالها على معاناة الأسر، التي تم ترحيلها للعيش هناك في ظروف صعبة تحط من كرامتهم كمواطنين يعيشون في مغرب القرن الحادي والعشرين. "تعيش هنا 41 أسرة في ظروف مأساوية تفتقر لأبسط شروط السكن اللائق والعيش الكريم"، يقول سعيد أحمين، أحد المتضررين من الحريق، متحدثا للجريدة، ثم يضيف: "قبلنا العيش في هذا المكان بعدما وعدتنا السلطات المحلية بأن مقامنا في "المارشي" لن يتعدى أشهرا قليلة وسيتم إيواؤنا في حي الوحدة 4 بعد الانتهاء من تجهيزه"، مسجلا أن "السنة الثالثة اقتربت من نهايتها، ولم تظهر بوادر رؤية واضحة حول مصيرنا ومصير مساكننا". وزاد أحمين أن "العديد من الأسر لم تستطع تحمل العيش في السوق بسبب الروائح الكريهة والإزعاج الذي تسببه فتح وإغلاق الأبواب الحديدية "للكراجات" وصراخ الأطفال ليل نهار"، مضيفا أنهم "اضطروا إلى مغادرة المكان لوجهة غير معلومة". شنو ذنب ولدي إلى تزاد فكراج؟ في ركن ضيق من أحد دكاكين السوق، جلست أخت سعيد تنظر إلى صغيرها الذي لم يتجاوز الشهرين من عمره وتحكي عن ليلة إحساسها بآلام المخاض واقتراب موعد الولادة. "ازدادت حدة الآلام مع مرور الوقت فأدركتُ أن وقت الولادة قد حان، فحُمِلت على متن دراجة ثلاثية العجلات للذهاب إلى المستشفى؛ لكنني بمجرد الخروج من باب "المارشي" شعرت بأنني سألد قبل الوصول إلى المستشفى، فطلبت إرجاعي واستعنت ب"قابلة" متخصصة ووضعت مولودي في "الكراج". تتحدث إكرام بنبرة تحمل مرارة وأسى كبيرين، ثم تضيف: "لم أكن أعرف أن ولادتي لإلياس في "المارشي" ستضاعف من معاناتنا بعد أن رفض قائد الملحقة الإدارية الأولى إعطائي تصريحا بالولادة من أجل تسجيل ابني في كناش الحالة المدنية بدعوى أننا لا نملك سكنا قارا ولا يمكن إدراج عنوان المارشي في التصريح". وأكدت إكرام أحمين أن "العديد من النساء وضعن مواليدهن في السوق المركزي وتم تسجيلهم في دفتر الحالة المدنية على عنوان "دوار السكة"؛ لأن الإحصاء يشملهم ويتوفرون على رقم بقعة"، متحسرة على "بقاء مولودها دون هوية بعد مرور الآجال القانونية المسموح بها في تسجيل المواليد وما يترتب بعد ذلك من إجراءات إدارية معقدة". أعمدة خشبية قاتلة تتوقف عقارب الزمن في مدينة سيدي يحيى عند حي صفيحي آخر يشكل قمة البؤس والمعاناة، يعرف بدوار "الديبو (dépôt)" أو دوار "مستودع الخشب"، وهو حي محجوز منذ عقود لفائدة المقاولات التي تشتغل في قطع الأشجار وبيع الخشب، حيث يتم تخزين "العود" لتوزيعه على التجار في جميع أنحاء المغرب باعتبار المنطقة مصدرا أساسيا لخشب "الأكاليبتوس". تطبع الهشاشة والشقاء دوار"الديبو"، الذي يضم زهاء 37 سكنا قصديريا ويأوي ما يقارب 41 أسرة تعيش جملة من المشاكل التي تعترضهم في حياتهم اليومية منذ ثلاثين سنة، خاصة أن غالبيتهم يشتغلون في مجال قطع الخشب وحراسة مستودعاته. محمد الغرابي، من ساكنة دوار "الديبو"، قال إن "السكان يعيشون في ظروف متأزمة تستحيل معها الحياة"، مؤكدا أنهم "يتكبدون معاناة في صمت دون ماء وكهرباء في أكواخ من القصدير أكسبتهم أمراضا مزمنة وخطيرة". وأضاف المتحدث ذاته، في حديث لجريدة هسبريس، أن "وجود الأعمدة الخشبية الضخمة بجوار المساكن تعتبر سلاحا قاتلا يهدد سلامة وأمن الصغار والكبار"، منبها على "أخذ الحيطة والحذر حتى لا تتكرر مأساة جنات". "لم أكن أعرف أن حياتي ستنقلب رأسا على عقب بعد وفاة ابنتي جنات التي لم تكمل عامها الثالث" تقول فاطمة مقاطعة حديث الغرابي والدمع يفيض من عينيها تم تضيف: "كانت ابنتي تلهو وتلعب مع أقرانها شهر يناير الماضي أمام أكوام الأعمدة، فسقط عليها عمود خشبي ضخم أصابها بجروح عميقة في رأسها وعجل بوفاتها في الحين". وزادت فاطمة وهي تحتضن صورة صغيرتها: "لم يلتفت إلينا أي أحد من المسؤولين وضاعت مني ابنتي في رمشة عين"ن موردة أنها عندما طالبت بحق صغيرتها كانت الإجابة: "إلى ما عجبكش الحال هنا سيري قلبي على راسك فين تسكني". وتبقى مأساة الصغيرة جنات من بين المآسي العديدة التي وقفت عليها هسبريس في مختلف الدواوير الصفيحية التي زارتها والتي تتطلب تدخلا عاجلا من طرف المسؤولين على تسيير الشأن المحلي والإقليمي كي لا تتكرر مرة أخرى. احتجاجات متواصلة أمام هذا الواقع الاجتماعي المأساوي الذي تعيشه مختلف الدواوير الصفيحية بسيدي يحيى الغرب، انتظمت ساكنة المدينة في جمعيات مدنية وهيئات حقوقية ومنظمات نقابية وخرجت للاحتجاج بوقفات ومسيرات جابت شوارع المدينة لإسماع صوتهم للمسؤولين جراء ما تعيشه هذه الأحياء من تهميش ولا مبالاة، وللمطالبة بالحق في السكن اللائق وتمكين جميع المستفيدين من بقعهم السكنية التي وعدوا بها منذ سنين دون تمييز بينهم، وفتح حوار جدي ومسؤول مع ممثلي سكان المناطق المعنية بعملية إعادة الإيواء للإسراع في الأشغال التي كان مقررا لها أشهرا قليلة لكنها استمرت لسنوات طوال، ووضع حد لمسلسل المماطلة والتسويف الذي تنهجه هذه الجهات في تعاملها مع ملفهم المطلبي "المشروع" مما يبين فشل المجالس التي تعاقبت على تسيير الجماعة في إنجاح برنامج "مدينة سيدي يحيى بدون صفيح" بسبب الصراعات على المصالح وسوء التسيير وطغيان الذاتية على الروح الوطنية. المجلس الجماعي غائب وحرصا منها على نيل رأي المجلس الجماعي، حاولت هسبريس الاتصال غير مرة بعلي لمليح، رئيس الجماعة الترابية لسيدي يحيى الغرب، من أجل تضمين إفادته في الموضوع؛ إلا أن هاتفه ظل يرن دون مجيب، بالرغم من إرسال رسائل نصية قصيرة وأخرى عبر تطبيق التراسل الفوري "واتساب" من أجل تحديد موعد معه، فتبين أن المسؤول الجماعي الموكول له تسيير شؤون العامة اختار سياسة الهروب إلى الأمام كعادته.