قال هنري لويس فيدي، دكتور الدّولة وأستاذ العلوم الاقتصادية بالمدرسة العليا للتجارة بباريس، إنّ "المشاريع التّنموية التي شهدتها الأقاليم الجنوبية "استثنائية" تكرّس توجه المملكة المغربية في دعْمِ خياراتها الإستراتيجية والحيوية"، مبرزاً أنّ "النّفس الإصلاحي والتّنموي الذي قادهُ الملك محمد السادس في الصّحراء جعلَ عدداً من القوى الدّولية تقتنعُ بصوابية المقترح المغربي وتُساندهُ في المحافل الدّولية". وفي حوار له مع جريدة هسبريس الإلكترونية، بمناسبة الذكرى العشرين لتربّع الملك محمد السّادس على العرش، عادَ الأستاذ المحاضر في جامعات موسكو وبلغراد وأبوظبي ووارسو، ليسائل "مرحلةً حبْلى بالإنجازات انطلقتْ مع إقرار العاهل المغربي إطلاقَ نموذج تنموي في الأقاليم الجنوبية، حيثُ استفادت المنطقة من استثمارات ومشاريع مهيكلة خاصة في مجال البنيات التحتية الطرقية والبنائية". وشدّد أستاذ العلوم الاقتصادية بمجموعة (آش أو سي) بباريس وصاحب كتاب "إرادة أقوى من الرمال -تجربة التنمية المستديمة في الأقاليم الجنوبية المغربية" على أنّ "الوضع في الأقاليم الجنوبية تحسّن مقارنة مع السنوات الأولى التي أعقبت المسيرة الخضراء، حيث كانت الصّحراء منطقة قاحلة لا ماء فيها ولا كهرباء ولا تجهيزات أساسية للاتصال". وفي كتابه الجديد الذي يتزامنُ مع الذكرى العشرين لعيد العرش والموسوم ب"Le développement des provinces du sud (1999-2019)" يشيرُ الكاتب الفرنسي إلى أنّه "بين عامي 1999 و2019، شهدت الأقاليم الجنوبية مرحلة انتقالية في بيئة طبيعية معقدة أحيانًا وفي سياق دولي صعب في كثير من الأحيان". هنا الحوار كاملاَ: أنت متخصّص في الشأن المغربي وراكمت مساراً طويلاً من المعاينة الدّقيقة للوضع السّياسي والاقتصادي في المملكة، وألّفت كتباً حول التجربة المغربية؛ آخرها كتاب "Le développement des provinces du sud (1999-2019)" الذي صدرَ هذا الشّهر، ما هي المواضيع التي يعالجها هذا الكتاب؟ أودُّ، في البداية، أن أشير إلى أنّني أصدرتُ كتاباً سنة 2008 حول الأقاليم الجنوبية، تحت عنوان ""إرادة أقوى من الرمال -تجربة التنمية المستديمة في الأقاليم الجنوبية المغربية". في تلك المرحلة، زرتُ أماكن كثيرة في الصّحراء، وبدا لي أنّه من المهم والضّروري أن أتحدّث عن تلك التّجربة الميدانية بعد مرور إحدى عشرة سنة.. واليوم ومع الذكرى العشرين لتربّع الملك محمد السّادس على العرش، فكّرت في طرحِ هذا الكتاب الذي يتناولُ واقع التّنمية في الأقاليم الجنوبية برؤية شمولية، خاصة أنه خلال هذه المرحلة من الحكم كانت هناك تغيرات مهيكلة. وقبل الحديث عن مَواضيع الكتاب، دعني أتوقّف عند خطاب الملك في نونبر 2015 الذي أصْدره من مدينة العيون.. هذا الخطاب، الذي دعا فيه العاهل المغربي إلى صياغة نموذج تنموي جديد في الأقاليم الجنوبية، كانَ قوياً ومستنيراً، قدّم الخيوط العريضة لما هو كائن وما يجب أن يكون عليه الوضع في المستقبل. هو خطاب لم يُصغْ بنبرة واحدة تشيدُ بكل ما تمّ تحقيقه في المنطقة، بل توقّف كذلك عند مكامن الضّعف وما يجبُ استدراكه، ودعا إلى اقتراح نموذج جديد للتنمية، وكانت النقطة المركزية في هذا الخطاب أنّه فتحَ صفحة جديدة في مسار التنمية في الصحراء. وأعتقدُ بأنّ المرحلة ما بين 1999-2015 كانت هناكَ توجهات ملكية إستراتيجية قد لعبت أدواراً حاسمة في تنمية المناطق الجنوبية، بدءًا بمشروع الجهوية المتقدمة التي نقلت صلاحيات سلطة القرار من الرباط إلى الأقاليم الجنوبية، بالإضافة إلى مشاريع الطاقة المتجددة التي يرعاها العاهل المغربي، لأنه لا يمكن أن تكون هناك تنمية شاملة بدون جهوية موسعة بصلاحيات إدارية واضحة وأطر كفؤة وموارد مالية مهمة. واليوم وبعد مرور 4 سنوات على هذا الخطاب، أعتقد بأنّ المغرب في الطريق الصحيح مع تجاوز مرحلة التّخطيط والاقتراح إلى مرحلة التنفيذ واستضاح النتائج. وكما يدل على ذلك أيضاً عدد المشاريع المهيكلة والضخمة التي أطلقها الملك خلال زيارته للأقاليم الجنوبية. هو إصلاح بنفسٍ ملكي وإرادة من أعلى سلطة في البلاد للاهتمام بالأقاليم الجنوبية وتأهيلها؟ طبعاً، الخيارات الملكية الإستراتيجية التي تضمّنها خطاب العيون لم تكنْ تتطلّب رؤية فقط لتزيلها، وإنما إرادة حقيقية للمساهمة في خلقِ فرص الإقلاع في الأقاليم الجنوبية. مثلاً في موضوع الطّاقات المتجددة، لما اختارَ الملك أن يسْلكَ هذا التّوجه خلال سنة 2005 كان ثمن البترول في السوق الدولية في أدنى مستوياته، وبالتّالي لم تكن لحظة مناسبة لإقرار مثل هكذا توجهات، واليوم نرى كيف أن هذا الخيار كانَ حاسماً ومحدداً في تنمية الأقاليم الجنوبية أولاً والمملكة المغربية ثانيا. لقد تحولت الأقاليم الجنوبية، بفضل الإستراتيجية الملكية، إلى قطب صناعي ضخم بموارد مالية مهمة ورأسمال بشري كفء. وقد بدأ هذا المسار منذ سنة 2015، وما زالت هناك نتائج إيجابية تتحقّق خاصة على المستوى الصّناعي. (مقاطعاً) ماذا عن الجانب الحقوقي والاجتماعي؟ دعني أشير هنا إلى أنّ نقطة البداية كانت بحسبي خلال السّنوات الأولى التي تلتْ تظاهرة المسيرة الخضراء سنة 1975، كيف كان الوضع في الصحراء آنذاك؟ لم تكن هناك طرق وبنية تحتية قوية ومدارس ومرافق ترفيهية، لم تكن هنالك قنوات للمياه والكهرباء. الحياة كانت صعبة وظروف العيش شبه منعدمة، اليوم لما زرتُ هذه المناطق اندهشتُ لطبيعة المكاسب التي تحقّقت. اليوم هناك تغطية كاملة لكل المناطق الجنوبية بالماء الصالح للشرب والكهرباء مقارنة مع المناطق الشمالية، كما أنّ عدد الحاصلين على شهادة الباكالوريا مرتفع في الجنوب، والتكوين المدرسي جيّد، لماذا؟ أعتقد أن هذا راجع إلى سبب رئيس يكمنُ في أنه لما نتحدث عن شيء منعدم في منطقة ما فإنّه من السّهل حلّ المشكل وتجاوزه من خلال محاولة توفير الحاجيات المطلوبة، عكس عندما نتحدث عن شيء يحتاج إلى تصحيح أو تقويم فإن فرصَ التّطور تكون ضئيلة. خصّصت جزءاً مهماً من كتابك للحديث عن المشاريع الفلاحية والتنموية في الأقاليم الجنوبية، كيف تقيّم حصيلة هذه المشاريع بعد مرور 10 سنوات على إقرار مخطط مغرب الأخضر؟ قبل رحلتي إلى الأقاليم الجنوبية، لم أكن أعتقد أنّ هناك أراض فلاحية في الصّحراء وأنّ هناك مواطنين يعيشون على المدخول الذي يوفّرهُ القطاع الفلاحي.. كنت أعتقد أن هذا المجال التّرابي من المغرب تنعدمُ فيه ظروف الزراعة، وهذا اعتقاد خاطئ؛ لأنّه في الصّحراء مثلاً هناك موارد كبيرة من الحليب والفوسفاط اللذين يمثّلانِ المورد المالي الوحيد لعدد من الأسر. وكما هو معروف، فإنّ مخطط المغرب الأخضر، الذي تمّ إطلاقه سنة 2008، يرومُ من خلالِ ركنه الثّاني تعزيز فرص الدعم التضامني للفلاحين الصّغار مع الحفاظ على الأراضي الزراعية وتأهيلها. وخلال رحلتي، التقيت مع مواطنين ومسؤولين وصيادين وفلاحين، وأكّدوا جميعهم أنّهم استفادوا من دعم الدولة لتحقيق أهداف التنمية الفلاحية. كما جمعتني محادثات مع عمال معمل السّمك، الذي يضمُّ 2500 عاملاً؛ وهذا الرقم يكاد يكون منعدما في فرنسا. هل تعتقد أنّ مشكل الصّحراء يمكن أن يحلّ بعيداً عن المزايدات السّياسية بين المغرب والجزائر؟ نعم، لقد تطرّقت لهذا الموضوع في الجزء الثاني من الكتاب.. وأعتقد أنّ خطاب العيون كان واضحاً وشفافا؛ فاقتراحات الملك كانت دقيقة، وكانت رسالة للخارج، على اعتبار أنّ هُناك مسارا يجبُ سلْكه لتحقيقِ التنمية الشّاملة في الأقاليم الجنوبية؛ وهو ما دفع اليوم عدداً من الدّول إلى مساندة ودعم المقترح المغربي.. وأعتقد أن المغرب موجود في صحرائه، ويجب وقف كل المحاولات التي تدعو إلى القيام بالاستفتاء في الصحراء. في بعض الأحيان، يجب تقديم مقترحات، والمغرب قدّم مقترحات عملية في الصحراء. أعتقد أنه لم يعد هناك من مبرّر لإقفال الحدود بين المغرب والجزائر، خاصة على مستوى مدينة وجدة. يجبُ أن يكون هناك اتفاق بين البلدين لتعزيز التعاون المشترك؛ لأن المغرب والجزائر يضيعان قرابة 2 في المائة من النمو بسبب مشكل الحدود. وأعتقد أن المغرب حقق "الشيء الكثير" في الصحراء وفي الأقاليم الجنوبية. والملك قال إن كل الموارد الطبيعية سيتم استغلالها لصالح ساكنة الصحراء، وهناك تطور ملحوظ. وقد استطاعت الأطروحة المغربية أن تجذب إليها دولاً كثيرة، لاقتناعها بالدور الكبير الذي يلعبه المغرب في تنمية أقاليمه الجنوبية.