"إن تخليد الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء ليس حدثا عاديا، أو احتفالا عابرا، بل نريده مرحلة فاصلة في تاريخ استكمال الوحدة الترابية للمملكة". هكذا بدأ الملك محمد السادس خطابه بمناسبة إحياء الذكرى الأربعين لانطلاق المسيرة الخضراء. وكان خطاب الذكرى 39 أكد أن " الأوراش التي سنقدم عليها، إن شاء الله، خلال السنة المقبلة، تعتبر حاسمة، لمستقبل المنطقة. ويتعلق الأمر بتفعيل الجهوية المتقدمة والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية". وبالفعل تميزت هذه السنة بتنزيل الجهوية المتقدمة، وهي أكبر مشروع سياسي وإداري يهم الأقاليم الجنوبية، بصفتها محضن الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب على المنتظم الدولي كأقصى ما يمكن أن يقدمه من تنازلات لصالح حل المشكل المفتعل في الصحراء المغربية. كما أن جلالته، مباشرة بعد خطابه الذي أعلن فيه يوم الجمعة المنصرم عن جيل جديد من المشاريع التنموية الضخمة في الأقاليم الجنوبية، أشرف في اليوم الموالي على التوقيع الفعلي على مشاريع تنموية بلغت قيمتها الإجمالية 77 مليار درهم، وهو غلاف مالي ضخم يمثل 27 في المائة من مجموع موارد الميزانية العامة في مالية سنة 2016 (تبلغ قرابة 283 مليار درهم). ما سبق يؤكد أننا بالفعل في نقطة تحول كبرى في مسار قضية الصحراء نحو الحسم. لذلك جاء الخطاب الملكي ليطلق مسيرة جديدة لخص شعاراتها في قوله :" واليوم، وبعد أربعين سنة، بإيجابياتها وسلبياتها، نريد إجراء قطيعة حقيقية مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء: قطيعة مع اقتصاد الريع والامتيازات، وضعف المبادرة الخاصة، وقطيعة مع عقلية التمركز الإداري". و تطرق لقضايا أخرى كثيرة تشكل أيضا قطيعة مع الأساليب المعتمدة في السياسة الخارجية. المسيرة الجديدة التي أطلقها الملك من مدينة العيون لها رسائل عديدة، رسائل إلى خصوم الوحدة الترابية وإلى المواطنين المحتجزين في تندوف، و إلى المجتمع الدولي، كما حملت رسائل واضحة إلى المواطنين في الصحراء وفي باقي الأقاليم و إلى الحكومة. وبالنسبة لخصوم الوحدة الترابية، فرسالة الخطاب الملكي واضحة يمكن تلخيصها في عبارة:"إنتهت اللعبة"، فالمغرب لن ينشغل بالعبث، لقد قدم أقصى ما يمكن أن يقدمه من تنازلات، واليوم يتجه لاستكمال وحدته الترابية ومشروعه التنموي في الصحراء. بل لقد أعلن الملك مشروعا يقبر ما تبقى من أحلام الانفصاليين، فاستراتيجية المغرب الجديدة في الصحراء ليست فقط تحريرها وتنميتها، بل يعلن الملك "تعزيز إشعاع الصحراء كمركز اقتصادي، وصلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي"، و التزام المغرب "بجعل الصحراء المغربية مركزا للتبادل ومحورا للتواصل مع الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وبوضع البنيات التحتية اللازمة لذلك". وبالنسبة للمحتجزين في تندوف، فعليهم أن يقارنوا بين أوضاعهم المأساوية وتحويلهم إلى وسيلة تسول للمساعدات الدولية، وبين ما يعيش عليه إخوانهم في وطنهم الأم من أمن واستقرار وعيش كريم. والرسالة واضحة، عليهم أن يختاروا بين الوضعين، وأن يتحملوا مسؤولياتهم في ذلك الاختيار. مع تشديد الخطاب الملكي على التمييز بين "أبناء الصحراء الحقيقيين، الوطنيين الصادقين، الذين ظلوا أوفياء لروابط البيعة التي تجمعهم وأجدادهم، عبر التاريخ بملوك المغرب". وبين "الذين ينساقون وراء أطروحات الأعداء ويروجون لها، فهؤلاء "ليس لهم مكان بيننا. ومن تاب ورجع إلى الصواب، فإن الوطن غفور رحيم". أما بالنسبة للمجتمع الدولي، فالخطاب الملكي واضح أيضا في إعلان توجهه إلى الميدان ومزيد من الوفاء بكل ما التزم به. مذكرا أن المغرب وفى بما التزم به من تطبيق الجهوية المتقدمة، و الديمقراطية، و نموذج تنموي خاص بأقاليمه الجنوبية، و بضمان الأمن والاستقرار. مع التأكيد على أن مقترح الحكم الذاتي هو أقصى ما يمكن أن يقدمه المغرب من تنازلات. وبناء على ذلك يجب على المجتمع الدولي أيضا أن يلتقط الرسالة، وهي أن يختار بين أوهام خصوم الوحدة الترابية وما يعنيه ذلك من عدم استقرار في المنطقة، وبين الوفاء والمصداقية بصفتهما ميزة موقف المغرب على الدوام، و مشاريع تنفذ على الأرض وتكتسب شعبية متجذرة في الصحراء، ومصداقية دولية متنامية. أما بالنسبة للمواطنين الصحراويين، فالخطاب حملهم مسؤولية النهوض بالأقاليم الجنوبية بعد تنزيل الجهوية المتقدمة حيث لهم حرية اختيار ممثليهم، و قرار تدبير شؤونهم بأنفسهم، في ظل التراكم المسجل في مجال التنمية، و المشاريع العملاقة التي أعلن عنها الملك وتهم مختلف المجالات للنهوض بالصحراء. أما الرسائل الخاصة بالحكومة فكثيرة ومتنوعة، تهم القطع مع الريع والامتيازات، و "إعادة هيكلة منظومة الدعم الاجتماعي، لتكون أكثر شفافية وإنصافا"، و" الإسراع بتفعيل المقتضيات القانونية، المتعلقة بنقل الاختصاصات، من المركز لهذه الجهات، ودعمها بتحويل الكفاءات البشرية، والموارد المادية اللازمة، في أفق تعميم هذه التجربة، على باقي جهات المملكة".و " الإسراع ببلورة ميثاق حقيقي لعدم التمركز الإداري، يعطي للمصالح الجهوية الصلاحيات الضرورية لتدبير شؤون الجهات على المستوى المحلي". مع "ضرورة إشراك السكان من خلال توفير فضاءات وآليات دائمة لحوار والتشاور، بما يتيح تملكهم للبرامج، والانخراط في تنفيذها". ثم على الحكومة تجسيد الصرامة التي عبر عنها الخطاب الملكي في مواجهة أعداء الوحدة الترابية للمملكة ومواجهة تضليلهم الإعلامي ومناوراتهم السياسية والدبلوماسية. وختم الخطاب الملكي بتوجيه رسالة عامة لعموم المواطنين، كل من موقعه، ب"مضاعفة الجهود، ومواصلة اليقظة والتعبئة، للتعريف بعدالة قضيتنا، وبالتقدم الذي تعرفه بلادنا، والتصدي لمناورات الخصوم"، مضيفا، "إننا جميعا مؤتمنون على النهوض بتنمية أقاليمنا الجنوبية، وصيانة كرامة أبنائها، والدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد، بنفس روح الالتزام والتضحية، التي ميزت المسيرة الخضراء". إن خطاب مدينة العيون و احتفالاتها، و الأوراش التي أعطيت لها الانطلاقة منها، كلها تؤكد انطلاقة مسيرة جديدة، بعد مسيرة التحرير والتوحيد والتنمية، هي "مسيرة الحزم و الحسم".