المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكومة العدالة والتنمية والتحالف مع اللوبي الاقتصادي والمالي
نشر في هسبريس يوم 21 - 07 - 2019

قالت الصحافية الكندية نعومي كلين إن المطلوب من الديمقراطية أن تنجز لنا انتقالا ديمقراطيا وليس انقلابا للشركات متعددة الجنسيات.
قالت مارغريت تاتشر: "في السابق كانت الناس تجتهد من أجل تحقيق شيئا ما، ولكنها الآن تفكر فقط في أن تصبح شخصا ما".
لم يكن التعنيف الذي تعرض له وزير الصحة في عهد حكومة بنكيران، داخل قبة البرلمان من طرف لوبي الأدوية، ولا الهجوم الذي تعرض له الكاتب العام لوزارة المالية من طرف لوبي المصحات، ولا العجز الذي أبانت عنه الحكومة في مواجهة لوبي المحروقات، ولا خضوعها أمام ابتزاز الباطرونا في قانون المالية 2019، من خلال منحها إعفاءات ضريبية ضخمة، ولا رفض كبار التجار التعامل بالفاتورة، حدثا عابرا في تاريخ المغرب ما بعد الدستور الجديد، بل كان إعلانا قويا عن البداية الفعلية لعصر الرأسمال بالمغرب .
وحيث إن الاقتصاد لا يعترف بالطعام المجاني، فإنه كلما استفادت أطراف داخل المجتمع (سواء تعلق الأمر بالرأسمال أو بالعمل) من الكعكة، فإن إطراف أخرى تؤدي الفاتورة (عندما يستفيد الرأسمال يؤدي العمل الفاتورة كاملة). الأحداث السابق ذكرها توضح أن عصر الرأسمال فرض شروطه، وبالتالي فإن الزمن السياسي ما بعد دستور 2011 هو زمن المساهمين والبنكيين، وزمن رجال الأعمال ولوبي المصحات ولوبي المحروقات ولوبي الصناعات الدوائية... هذه الاستفادة كانت على حساب الأجراء والعاطلين والشباب والموظفين. عصر الرأسمال في المغرب جاء ليثبت أن اليد الخفية للسوق (ليست اليد التي تعيد التوازن كما تصورها الاقتصادي آدم سميت، بل يد السوق ولوبيات السوق التي تلتهم كل شيء أمامها) تحرق الأخضر واليابس في طريقها، ضدا على دستور جديد حمل معه الأمل في مغرب جديد، دستور كان يبشر المغاربة بأن اليد الواضحة والجلية والقوية للمؤسسات السياسية القادمة قادرة (مقولة للباحث ميشيل بوفيي طبقناها على التجربة المغربية) على كنس اليد الخفية للسوق، ولكن الواقع أثبت أن الأحداث جاءت معاكسة للأحلام؛ وبالتالي يطرح السؤال: لماذا وقعت الانتكاسة وما هو السبب؟
أولا: غياب الطبقة السياسية عن المشهد الديمقراطي في البلد فتح الباب على مصراعيه أمام اللوبيات الاقتصادية والمالية للحكم الفعلي.
المتتبع للشأن العام في المغرب ما بعد دستور 2011 سيلاحظ غياب الطبقة السياسية عن المشهد الديمقراطي في البلد، غياب البرلمان وغياب الحكومة وغياب رئيس الحكومة وغياب الأحزاب (الأحزاب باعتبارها حاملة مشاريع)؛ وبالتالي فإن هذا الغياب جعل الديمقراطية المغربية عاجزة عن احتلال المساحة المحجوزة لها في المشهد العام .
ورغم أن الدستور الجديد استهدف تعزيز الاختصاصات والمهام الموكولة للطبقة السياسية، إلا هذا التعزيز كان يتطلب مجيبا سياسيا قويا من الطبقة السياسية المغربية، مجيبا يمتلك نخب، مجيبا يمتلك أفكار، مجيبا يمتلك خيالا، يمتلك مشروعا، ولكن الطبقة السياسية كانت عاجزة عن تأثيث المجال المخصص لها في المشهد السياسي.
يؤكد السياسي اليساري الكندي روميو بوشار أن الأحزاب السياسية صارت الوسيلة المميزة التي يعتمد عليها اللوبي الاقتصادي من أجل مراقبة القرارات المتخذة من طرف النواب. الأحزاب السياسية ونخبها صارت تبحث عن السلطة، من أجل البحث عن الجاه والمال الذي يوفره لها الرأسمال (بعد أن عجز السياسي عن خلق الثروة)؛ وبالتالي يؤكد هذا السياسي على التغييرات التي مهدت الطريق للانتقال من دولة المواطنين إلى دولة الرأسمال واللوبي الاقتصادي والمالي.
عدم قدرة البرلمان على القيام بالمهام الموكلة له في التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية، وخصوصا المهام الرقابية والتقييمية (والتي تتطلب مستوى تعليميا جامعيا وتخصصا وخبرة والإرادة والتكوين السياسي واختيار التحالف واختيار القضية والارتباط بالشأن العام)، وعجزه كذلك عن لعب دور التمثيلية الوطنية، بما تتطلبه من نقاش ونقاش مضاد والطرح والطرح المضاد، لأن الديمقراطية تتطلب صراع التصورات السياسية المختلفة. هذه المهمة الصعبة والشاقة هي الوحيدة التي تثبت أن البرلمان قادر على تمثيل الشعب السيد، ولكن البرلمان المغربي عجز عن القيام بدوره الدستوري ورسخ صورة الجهاز الذي يبحث عن تحسين الظروف المادية لأعضائه.
كما أن الأغلبية والحكومة ومؤسسة رئاسة الحكومة عجزت عن أداء المهام الموكولة لها، والمحددة في النص الدستوري. هذا العجز كان في حقيقة الأمر دليل على عدم قدرة الطبقة السياسية المغربية على صنع الخيَال الجماعي وعجزها كذلك عن صنع العاطفة السياسية، لأن السياسة ليست فقط تقنية وقوانين ومراسيم، بل تتطلب الديمقراطية العمل على اختراع نوع جديد للسلطة الديمقراطية، مبنية على خطاب يحمل معنى ومغزى وإرادة مستمرة لتوقع المستقبل، وهو ما سبق وأكده السياسي وينستون تشرشل، عندما قال "إن السياسي يجب أن يمتلك القدرة على قول ما يمكن أن يحدث غدا، والأسبوع القادم والشهر القادم، والقدرة بعد ذلك على امتلاك الشجاعة على التوضيح لماذا لم يحصل ذلك".
كان المطلوب من مؤسسة رئاسة الحكومة أن تمارس مهام رئاسة الحكومة، بما يضمن قيادة البلد من خلال الفعل ومن خلال إعطاء مغزى واضح للنهج المراد اتباعه؛ فالتاريخ يعلمنا أنه عند الوصول إلى السلطة لا يجب الاعتماد فقط على الحظ، ولكن يجب الاستناد إلى العمل اليومي من خلال الاعتماد على فريق والبحث عن الدعم، لأنه لا وجود للناس المحظوظين. ويجب من أجل ذلك أن نكون منظمين، وأن نتصرف كمحترفين وليس كهواة، وبالتالي لم يكن مقبولا من رئيس الحكومة بعد دستور 2011 (وهو القادم من الحزب الأغلبي) أن يكون في واقع الأمر فقط ذلك الشخص العادي، بل كان المطلوب اختراع شكل جديد للسلطة الديمقراطية، شكل يتطلب من رئيس الحكومة أن يثبت للمجتمع أنه ليس فقط موظفا عاديا في منصب رئيس الحكومة؛ بل كان المطلوب منه أن يثبت أنه مسؤول سياسي يحلق بجناحين؛ يعتمد الجناح الأول على التمثيلية السياسية، ويعتمد الجناح الثاني على الكفاءة والخبرة. ولكن حزب العدالة والتنمية عجز عن إفراز قادة بحجم المنصب الذي ينتظرهم، وأقصى ما قدمه لمنصب رئاسة الحكومة هو نموذج للقادة العاديين والقادة المتوسطين (قادة عاجزون عن قيادة الأغلبية، ولا يمتلكون أفكارا تساعد البلد على الخروج من النفق، وعاجزون عن تقديم الحلول-وعاجزون عن إنجاز المشاريع بالسرعة المطلوبة والشكل الأفضل-ما سهل احتوائهم من طرف اللوبي المالي والاقتصادي).
استقالة البرلمان والحكومة شكل في واقع الأمر عائقا كبيرا أمام حضور فعلي للطبقة السياسية في المشهد السياسي المغربي. هذا الغياب جعل الديمقراطية التي بشر بها دستور 2011 غير قابلة للتطبيق في غياب مؤسسات سياسية تمتلك عقلا وإرادة وتمارس اختصاصاتها الموكلة لها دستوريا، وقادرة على احتلال المكانة المخصصة للسياسية في المشهد الديمقراطي للدستور الجديد.. هذا الغياب كان من نتائجه الفعلية فتح المجال أمام قوى المال والأغنياء لفرض شريعتهم.
ثانيا: حزب العدالة والتنمية وغياب المشروع المجتمعي
في المغرب عملت الأزمة السوسيو اقتصادية على تفتيت المشروع المجتمعي إلى مجموعة من الميكرو-مشاريع، محليين وهامشيين؛ وبالتالي كان المطلوب من القوى السياسية القادمة من صناديق الاقتراع ما بعد دستور 2011 أن تعمل على تجميع المجتمع وراء مشروع مجتمعي فعلي وحقيقي قابل للتطبيق.
المشروع هو فكرة عما نود فعله وتحقيقه، هو هدف نتوخاه ونقترح تحقيقه، ونعمل بالتالي على توضيح خطوطه العريضة، مع تقدير الإمكانات المطلوبة لتنفيذه، المشروع هو صناعة الذكاء الجماعي؛ كما أنه هو الذي يمنح القوة للمواطن من أجل الوقوف على رجليه، وبالتالي يمثل من جهة هوية جماعية، ومن جهة أخرى وهذا هو المهم يمنح القدرة على الفعل؛ لأنه وحده المشروع يعتبر حجر الزاوية في المغامرة الفعلية، لأن ما يصنع التكاثف الجماعي ليس هو القيادة التراتبية فقط، بل وكذلك الثقافة المشتركة والرؤية المشتركة للمشروع.
المشروع المجتمعي هو نظرة شمولية أو قطاعية لتنظيم وتدبير المجتمع، خصوصا أن شروط الحياة في المجتمع تتطلب التوفيق بين التطلعات والمصالح الفردية مع متطلبات الحياة الجماعية؛ وبالتالي من المفروض على كل مجتمع وكل حضارة العمل بشكل مضن من أجل البحث عن التوازن ما بين حقوق الفرد ومتطلبات الجماعة، وكل مجتمع يبحث عن توازن خاص به ومنسجم مع خاصياته وثقافته وقيمه .
أمام غياب الخطاب السياسي باعتباره الوحيد الذي يحمل نظرة للمجتمع وكيفية تغييره، وبغياب الإيديولوجية التي تمنح القوة التي تمكن من التغلب على صداع الرأس التقني، وفي غياب النقاش الأيديولوجي الذي يمكن السياسي من تأسيس سؤال الغايات، وفي غياب الأيديولوجية التي تعتبر شرطا أساسيا لاقتراح عالم آخر ولتحديث الفعل العمومي في أي نظام ديمقراطي وتداولي، غاب المشروع المجتمعي، وفتح الباب على مصراعيه أمام الأحداث لتفرض نفسها على العجز والسلبية التي يعيشها المجتمع نتيجة لغياب المشروع. كما أن الأزمة السوسيو اقتصادية وغياب المشروع المجتمعي جعلا من الطموح في بناء التعاقد الماكرو-اجتماعي أمرا شبه مستحيل (الباحث باريل، مجتمع الفراغ).
في غياب المشروع وغياب الخطاب السياسي، حضرت الإجراءات التقنية، وفي غياب النظرة الإستراتيجية يحضر التدبير اليومي وتتحول الحكومة إلى الإطفائي المكلف بإطفاء الحرائق التي يشعلها بنفسه (مشكل التعاقد-مشكل المتصرفين-مشكل الدكاترة-مشكل التقنيين...).
في ظل هذه الظروف وفي غياب ما يخلق التآزر بين الجميع، وفي غياب الثقافة الواحدة للمشروع حضرت التوجيهات الرئاسية كشكل أساسي لقيادة المجتمع. كما أن غياب المشروع المجتمعي جعل هذه التوجيهات الرئاسية العمودية رهينة للمشاريع الخاصة للتمثيليات الوسطية والشخصية ولمصالح اللوبيات والرأسمال.
وحيث إن المشروع السياسي المتفق عليه بين مختلف القوى هو الوحيد الكفيل ببث روح التضامن وفتح باب الأمل في المستقبل، وعلى اعتبار أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فإن غياب وتراجع المشروع المجتمعي فتح المجال أمام القوى الوحيدة المستفيدة من التشرذم السياسي وغياب تحديد المصلحة العامة، وهي قوى السوق والرأسمال المتوحش .
وفي الأخير، وكما قال الفيلسوف الاشتراكي بيير لروكس، "في غياب المشروع المجتمعي يتحول المجتمع إلى فوضى للأنانية، ولا يمثل المجتمع ذلك الجسد الواحد، بل يتحول إلى مجموعة من الأعضاء المتفرقة لجثة هامدة".
ثالثا: عجز حكومة العدالة والتنمية عن تحديد المصلحة العامة فتح المجال أمام اللوبيات والرأسمال للتحرك.
منذ القرن الثامن عشر ترسخ مفهوم المصلحة العامة باعتباره مبدأ أساسيا يؤسس لمشروعية الدولة، مفهوم المصلحة العامة شكل الحجر الأساس للفعل العمومي، ما جعله يحجز مكانة مهمة في الفكر السياسي والقانوني، باعتباره كذلك الوحيد القادر على تحديد غايات وأساس ومشروعية هذا الفعل.
جون جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي عمل على التفريق بين مصلحة الكل والمصلحة العامة. التفريق بين إرادة الكل والإرادة العامة ينطلق من كون إرادة الكل تبقى مرتبطة بالمصلحة الخاصة، بينما الإرادة العامة تبقى مرتبطة بالمصلحة العامة.
وكما سبق وأكد بنطام فإن الاستعمال المشروع للسلطة يفترض أن الدولة والسلطة متوجهان نحو هدف واحد هو المصلحة العامة. وفي هذا السياق يؤكد الباحث ستغلز أن الدولة ليست عقلانية لأنها خاضعة لمجموعات الضغط، وبالتالي هي دائما متهمة بتفضيل المصالح السياسية لبعض الأفراد والمجموعات. وعلى اعتبار أن الدولة ليست واحدة بل متنوعة وعلى اعتبار كذلك أن المجتمع هو كذلك متنوعا، فإن تنوع الدولة وتنوع المجتمع يفترض الحوار والحوار من أجل البحث عن الإرادة العامة، وبالتالي تحديد المصلحة العامة. غياب تحديد الأهداف الحكومية، وغياب النقاش الديمقراطي حول هذه الأهداف، خلق ضبابية كبيرة حول طبيعة وكنه الإرادة العامة والمصلحة العامة، هذه الضبابية عملت على فتح الطريق على مصراعيه أمام الإرادات الخاصة والمصالح الخاصة لتجسد حضورها القوي في عهد حكومة العدالة والتنمية .
الباحثان بيير ميللر وبرينو جوبير، في كتابهما المشترك حول السياسات العمومية، أكدا أن القطاعية والفئوية وتجزئة مجموعات المصالح ومجموعات الضغط، وحضور اللوبيات بشكل قوي يفسر بعجز وعدم قدرة الأغلبية البرلمانية والحكومة ورئاسة الحكومة، على تهيئ الشروط الضرورية لإنجاز سيناريو شامل للحوار الجماعي داخل الدولة وداخل المجتمع .
غياب القدرة على إنجاز شروط نجاح عقد شامل داخل الدولة والمجتمع جعل الدولة بكل مؤسساتها رهينة للمصالح الفئوية المعبر عنها من طرف اللوبيات والمجموعات الصغيرة المعبرة عن مصالح فئوية لمجموعات الضغط أو مجموعات مصالح.
في غياب تحديد المصلحة العامة تبقى الدولة رهينة للمصلحة الشخصية والمصلحة الوسطية، وتبقى كذلك رهينة للوبيات المال والاقتصاد. العجز عن تحديد المصلحة العامة هو في حقيقة الأمر تفتيت للمجتمع وتفتيت للإرادة العامة والمصلحة العامة؛ كما أن هذا التفتيت يعمل على خدمة المصالح الخاصة للوبيات المال والاقتصاد .
رابعا: حكومة العدالة والتنمية وإستراتيجية تفكيك الدولة الاجتماعية.
قال جون ماينر كينز "كل رجال السياسة ينفذون توصيات اقتصاديين لا يعرفونهم ولا يعرفون أسماءهم وفي غالبيتهم رحلوا منذ القدم، دون معرفة ذلك". هذا الجهل يحرم رجال السياسة من القدرة على الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الأساسية المرتبطة بالحكم وبالتدبير الاقتصادي بالأساس.. ما المطلوب من الدولة؟ هل المطلوب منها أن تفعل كل شيء، أم أن تفعل بشكل أقل، وبالتالي أن تترك المجال للقطاع الخاص؟ أم المطلوب منها أن تفعل بشكل مشترك؟ لماذا تطبيق سياسة اقتصادية دون أخرى؟ ما هي الأولويات وكيف ترتب؟.
رغم التشاؤم الذي عبر عنه الاقتصادي الكبير كينز بخصوص مسألة معرفة السياسيين بعلم الاقتصاد، إلا أن شريحة واسعة من المجتمع المغربي، والتي صوتت على حزب العدالة والتنمية لقيادة الحكومة بعد دخول دستور 2011 حيز التنفيذ، كانت تتوقع من هذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية أن ينهل من الإطار العام للحكامة من خلال النص القرآني الذي عمل على عقلنة الحكامة، عبر التفسير الذي قدمه النبي يوسف لرؤيا فرعون مصر (سورة يوسف)، إذ نصح يوسف فرعون، ومن خلال فرعون المؤسسة الملكية، بانتهاج سياسة التوقع، وسياسة الاقتطاع، وسياسة التخزين، وسياسة التوزيع، من خلال العمل على توفير شروط المشروعية والعدالة والشفافية حتى تجعل المجتمع ككل يستفيد من الخيرات ويقبل بالاقتطاع بشكل متساو لنتائج الظروف الصعبة.
ولكن وبعد مرور ثماني سنوات على تحمل الحزب لمسؤولية تدبير الشأن العام، اتضح أنه لا يتوفر على مشروع مجتمعي وغير قادر على فتح النقاش المتعلق بتحديد المصلحة العامة، كما أنه لا يتوفر على برنامج اقتصادي. هذا العجز مهد الطريق أمام الحزب الأغلبي وأغلبيته للخضوع للحلول السهلة المرتبطة بالرأسمال الوطني والدولي .
الرأسمال المحلي والدولي لا يصعب الأمور على الأحزاب والحكومات التي لا تمتلك برامج، بل يطلب منها فقط العمل على تفكيك القطاع العام والبرامج الاجتماعية وخدمة مصالح اللوبي المالي والاقتصادي. هذا البرنامج أطلق عليه الباحث دينيس كيسلر وداعا 1945 (أي وداعا برامج أحزاب التحرر والاستقلال والوطنية والعمل السياسي الحقيقي والفعلي)، لنجعل بلدنا يتشبث بالعالم، أي بالرأسمال .
في المغرب كان الأمر يتطلب تفكيك المكتسبات التي انتزعت في مرحلة ما بعد الاستقلال (1956-1977)، وخصوصا تفكيك أدوات الدولة الحامية (قانون الوظيفة العمومية والمساواة أمام المنصب العمومي –قانون التقاعد-صندوق المقاصة ...).
إستراتيجية التشبث بالعالم لم تعتمد فقط على تفكيك البرامج الاجتماعية، بل اعتمدت كذلك على تطبيق نهج الكينزيانيزم العشوائي كما سماه الاقتصادي الفرنسي اللامع فيتوسي؛ وذلك لكون الكينزيانيزم العشوائي هو النهج المفضل للقيادات السياسية التي تفعل دون أن تعرف، أو تفضل ألا تفعل عندما تعرف. هذه الإستراتيجية جعلت الأغلبية البرلمانية والحكومة رهينة لمتطلبات التحالف مع قوى المال والأغنياء.
خامسا: حكومة العدالة والتنمية والتحالف بين التكنوقراطية المتحولة واللوبي الاقتصادي والمالي.
كان دستور المساواة يفرض على مؤسسة رئاسة الحكومة العمل بجد من اجل مجتمع يفتح الآفاق أمام مواطنيه من خلال الاعتماد على الكفاءات والمجهود والاستحقاق، بدل الاعتماد على ظروف الولادة والحظ والشبكات.
غياب مؤسسة رئاسة الحكومة كان في الحقيقة غيابا للديمقراطية واختيار المواطنين، وغياب الوجهة والموقع، وبالتالي تستسلم الحكومة السياسية للاختيارات الفعلية للنخب التكنوقراطية داخل الإدارة. اختيارات النخب التكنوقراطية خطرها الكبير يتمثل في كونها توهم المجتمع بأنه لا يوجد إلا جواب وحيد علمي وجيد لكل الأسئلة السياسية الشائكة، بالإضافة إلى أن هذه النخب تتعامل بشكل ميكانيكي مع الأولويات، إذ بالنسبة لها فإن مجال السياسات العمومية يحتاج فقط إلى ميزانية، بالإضافة إلى مجموعة من المراسيم (يكفي الاطلاع كل يوم خميس على جدول أعمال الحكومة لتأكد من ذلك)؛ وبالتالي تحاول إيهام الجميع بعدم جدوى الديمقراطية والتناوب والسياسة والحلول المتعددة.
الخطر الكبير لتفويض أمور تدبير الدولة للتكنقراط لا يتمثل كما في السابق في إزاحة السياسي والحل الوحيد فقط، بل يتمثل في كون التكنقراط الجدد يختلفون بشكل جوهري عن التكنقراط القدامى، خصوصا أن التكنوقراط القدامى كما أكد التكنقراطي الفرنسي الكبير سيمون نورا (مدير المدرسة الوطنية الفرنسية السابق وصاحب التقرير الشهري حول إصلاح المؤسسات العمومية، والذي يحمل اسمه)، هم في غالبيتهم مرتبطون بالمصلحة العامة ولهم ميولات نحو خدمة الطبقات المسحوقة، وهَواهم كنيزي أخلاقي، والذي يعتمد على التصرف من خلال المعرفة ومن خلال الواقع (حديث بير روزنفلون عن سيمون نورا في كتابه حياتنا الثقافية والسياسية من سنة 1968-2018).
التكنقراط الجدد وبعد أن تعرضوا لعملية تدجين وإعادة بناء وتكوين من طرف المؤسسات الدولية والمؤسسات الخاصة الوطنية والدولية، الممولة من طرف اللوبي الاقتصادي والمالي، فإن ولاءهم تحول راديكاليا نحو الوفاء المطلق لإستراتيجية مرحبا بالعالم ومرحبا باللوبي الاقتصادي والمالي؛ وبالتالي فإن التكنوقراط الجدد يتمتعون بشكل أقل بروح الصالح العام، وهَواهم نيولبيرالي متوحش، ويملكون تعاطفا واستعدادا لخدمة الطبقات الميسورة وأصحاب رؤوس الأموال واللوبيات وخدمة الفئات وخدمة الأشخاص، وإستراتيجيتهم الأساسية هي خدمة دولة الأغنياء. والخطير في الأمر كذلك أن التكنوقراط الجدد والمشكلين في الغالب من موظفي بعض المكاتب ومحرري المشاريع هم من يحررون مشاريع القوانين ومشاريع المراسيم والقرارات. كما أن التكنوقراط الجدد يفضلون تطبيق الكينزيانيزم العشوائي بدل الكينزيانيزم الأخلاقي.
الإستراتيجية المطبقة من طرف هذه النخب كان المستفيد الوحيد منها هم الأغنياء؛ أما الخاسر الكبير فهم الطبقات المسحوقة والطبقة المتوسطة، وبالتالي ضاعت حقوق الطبقات المسحوقة والطبقة المتوسطة، وضاع معها مفهوم المصلحة العامة، وبالتالي يجد المغرب نفسه تحت رحمة التحالف بين التكنوقراطية المتحولة والأوليغارشية المالية.
سادسا-العلاقة الجدلية بين طبيعة النفقات ومستوى الديمقراطية.
المصادقة على دستور 2011 كانت تفرض نهج طريق الحداثة الديمقراطية. نهج هذا الطريق كان يتطلب أن تشهد قوانين المالية ما بعد العقد السياسي الجديد ارتفاع ما يطلق عليها بالنفقات المخصصة للاختيارات التي تستهدف بناء المجتمع الأقل فوارق، وبالتالي الاهتمام بإستراتيجية إعادة اقتسام الثروة وإعادة التوزيع، والاهتمام كذلك بالنفقات المرتبطة ببناء دولة القانون بكل ما يتطلبه ذلك من تخصيص نفقات لحل الخلافات المجتمعية المتوقعة (الباحث داني رودريك) والناتجة بالأساس عن توسيع الفوارق داخل المجتمع.
عمل مجموعة من الاقتصاديين على تقسيم النفقات العمومية إلى ثلاثة أنواع؛ النوع الأول يخص النفقات العمومية الوجودية (الدفاع-الأمن-العدل-الخارجية المؤسسات)، أما النوع الثاني فيخص النفقات العمومية المخصصة للنمو (التجهيز-التعليم-البحث-البيئة...)، والنوع الثالث من النفقات العمومية هو المخصص للتغطية الاجتماعية، ربط هذا التقسيم بالدستور الجديد، كان يعني أن قوانين المالية ما بعد سنة 2011، كان من المفروض أن تعزز النفقات العمومية المخصصة للنمو والنفقات العمومية المخصصة للتغطية الاجتماعية.
النقاش العلمي عمل على تحديد العلاقة القائمة بين النمو والديمقراطية، إذ خلص إلى أن الدولة الضريبية التي أعقبت دولة الأملاك أنتجت الديمقراطية، وهذه الأخيرة أنتجت النمو الاقتصادي والاجتماعي. هذه التغييرات تدفع إلى التطور في اتجاه الدولة الاجتماعية .
الدستور الجديد والتنزيل الديمقراطي والحراك الاجتماعي كان من المفروض أن يدفع المغرب إلى تعزيز النفقات المخصصة للنمو والرفع من النفقات المخصصة للتغطية الاجتماعية، وتخصيص جزء من النفقات لتقليص الفوارق وترسيخ دولة المساواة.
ولكن الملاحظة الأساسية أن مرحلة ما بعد دستور 2011، وخلافا لما كان متوقعا، شهدت تعزيز ورفع النفقات المتعلقة بالنفقات العمومية الوجودية. هذا الرفع كان له تأثير كبير على المخصصات المتعلقة بالنمو والتغطية الصحية، وكان لها بالمقابل تأثير كبير على نوعية الديمقراطية؛ وبالتالي يتضح أن حزب العدالة والتنمية وأغلبيته السياسية اختار طريق التقليدانية المخزنية لتنزيل الدستور الجديد، بدل نهج طريق الحداثة الديمقراطية .
الخلاصة:
غياب البرلمان وغياب مؤسسة رئاسة الحكومة وغياب الحكومة وغياب الأغلبية كان في حقيقة الأمر تعبيرا ضمنيا عن غياب الطبقة السياسية عن المشهد السياسي، وتعبيرا واضحا عن غياب القضية والهدف والشرائح المفروض العمل لصالحها. وبالتالي بقيت الأسئلة المفروض على كل التشكيلات السياسية في الديمقراطيات الحديثة بدون جواب: ما العمل بعد الوصول إلى السلطة؟ ما هو برنامج اليوم الثاني (بعد يوم الوصول إلى السلطة)؟ باسم من نحكم؟ ومن أجل من من المفروض أن نتحرك؟ وفي أي اتجاه نريد أن نقود الحكومة والأغلبية؟... وفي غياب الجواب يفتح الباب على مصراعيه أمام عصر الرأسمال وعصر اللوبي الاقتصادي والمالي.
*باحث في المالية العامة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.