هل تملك الأحزاب السياسية المغربية برنامجا انتخابيا حقيقيا يلخص نظرتها للتطور المجتمعي وللتنمية المندمجة؟ هذا هو السؤال العريض الذي ضاع في متاهة الصراع بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية حول تفاصيل الانتخابات القادمة التي تعد مصيرية في مغرب ما بعد دستور 2011، فالجدل حول هذه الانتخابات وأسسها وقواعدها الديمقراطية يعد ذات أهمية وحساسية خاصة، لكن هذه الأهمية لا يجب أن تنسينا الأهم وهو المشروع التنموي والمجتمعي للأحزاب السياسية. فهذه الأحزاب التي ستتنافس على مقاعد البرلمان وتقدم مرشحيها لتسيير دفة الحكم بالمغرب يجب أن تتوفر على تصور واضح لآليات تدبير الشأن الحكومي وتحقيق التنمية المرجوة وإصلاح شؤون البلاد ورفع مستوى عيش المواطنين. كما أن المؤسسات الحزبية يُفترض أن تمثل مجالا للإنتاج السياسي ووعاءً لتصريف المواقف السياسية والإيديولوجية المرتبطة برؤيتها وبمرجعيتها، وهو ما يتطلب منها تقديم مشروعها التنموي والمجتمعي الذي تحدده انطلاقا من أدبياتها وأوراقها. فهل تتوفر الأحزاب السياسية المغربية أصلا على مشروع أو برنامج تنموي ينبع من قناعاتها الإيديولوجية أو المرجعية؟ بل هل تمتلك هذه الأحزاب أصلا رؤية تنموية حقيقية للبلد؟ إن المتتبع لخطابات جل الأحزاب السياسية المغربية يتوه بين الشعارات الكبرى المتشابهة بين غالبية البرامج، مع غياب أية معطيات تفيد بامتلاكها لمشاريع تنموية تكون نابعة من مرجعيتها السياسية التي تركز عليها في خطاباتها ووثائقها وبرامجها السياسية. وإذا كانت بعض الأحزاب السياسية ذات العمق الشعبي (وبصفة خاصة العدالة والتنمية) لا تزال تحاول وضع تصور تنموي متكامل للمجمتع وللدولة، فإن غالبية الأحزاب التقليدية (من اليسار إلى اليمين، ومن المحافظ إلى الليبرالي) تحاول البحث عن نفسها نتيجة التيه المطلق الذي تعيشه نتيجة تخليها عن إيديولوجياتها، ونتيجة اتكاليتها عبر تبني الأوراش المعلنة من قبل المؤسسة الملكية ضدا على قناعاتها الإيديولوجية التي أصبحت متجاوزة. أزمة البرامج الانتخابية لدى الأحزاب: على الرغم من تعدد البرامج السياسية والانتخابية لدى الأحزاب السياسية بالمغرب، لا نكاد نجد برنامجا تنمويا حقيقيا، يستند إلى قواعد واضحة إيديولوجية أو مرجعية، ويسطر نموذجا تنمويا منشودا يناضل الحزب سياسيا من أجل تحقيقه في حالة تسييره للشأن العام ورئاسته للحكومة القادمة، وهو ما يُفترض أن يكون أساس التنافس السياسي والانتخابي في الاستحقاقات القادمة ليوم 25 يونيو 2011. فالأحزاب السياسية المغربية لا تدافع عن طبقة اقتصادية أو اجتماعية بعينها، ولا تحرص على مصالح فاعلين اقتصاديين أو مهنيين بشكل محدد، وإنما نجد في غالبية البرامج الحزبية (السياسية والانتخابية) مزيجا من كل النظريات الاقتصادية والنماذج التنموية الكبرى بالعالم، وهو ما يؤدي للتشابه الكبير حد التطابق بين مختلف هذه البرامج. فجميع الأحزاب تؤكد في وثائقها المرجعية أنها تهدف لتحقيق التنمية الاقتصادية بنفس الآليات، وأصبحت كلها تدافع خلال السنوات الأخيرة عن الطبقة الوسطى لمجرد أن الدولة أصبحت مقتنعة بأهمية هذه الطبقة في تحقيق الاستقرار الاجتماعي، في حين أن الهوِيات الإيديولوجية للعديد من هذه الأحزاب لا تنسجم مع هذا الطرح، فمنها ما تُعتبر ذات ميولات بورجوازية (أحزاب اليمين مثل الأحرار والاتحاد الدستوري)، ومنها ذات أصول بروليتارية (خاصة اليسار)، ومنها ما نشأ للدفاع عن البادية والفلاحين فقط (الحركة الشعبية والأحزاب المنشقة عنها)... وهذا مثال حي على انعدام أي مشروع أو نموذج تنموي لدى هذه الأحزاب السياسية ينبثق من مرجعيتها الأساسية التي تقوم عليها. وبالموازاة مع ذلك لم تعد التناقضات تظهر بين الأحزاب بناء على خلفياتها المرجعية أو الإيديولوجية، فالاتحاد الاشتراكي مثلا أصبح قريبا من الأحزاب ذات الأساس الرأسمالي مثل الأحرار والاتحاد الدستوري (وليس أساسها الليبرالي الذي يتناقض مع توجهاتها العامة) ولم تعد مبادئه تتناقض معها. وعلى الرغم من النقاش السياسي الدائر حول الحداثة والديمقراطية، فإننا لا نكاد نجد حزبا ليبراليا بالمعنى الدقيق للكلمة، فأحزاب اليسار واضحة التوجهات رغم طابعها التقدمي ولا يمكن أن تكون ليبرالية بالمفهوم الاقتصادي أو الفلسفي للكلمة، وأحزاب اليمين (الأحرار والدستوري والاستقلال) أبعد ما تكون عن الليبرالية التي لا تتطابق بالضرورة مع النظام الرأسمالي الذي تدافع عنه، لأنها تعتبر محافظة أكثر من الأحزاب الأخرى نظرا لحرصها على الحفاظ على نموذج اقتصاد السوق كما تراه دون تحديث أو تطوير. وهذا الوضع إنما يؤكد الخلط الكبير بين ما تطالب به هذه الأحزاب وبين ما تدعيه وما تعتقده وما تحاول تطبيقه بناء على برامجها ووثائقها المرجعية، وإذا كانت البرامج السياسية للأحزاب في مجملها لا تحدد مفهوما واضحا لتصورها المجتمعي والتنموي خارج ما هو متداول في عمومه، فإنها بالتالي لم تستطع أن تُبَلْور تصورات واضحة تقدمها كبرامج انتخابية تحدد بها برنامج عمل واضح. غياب النموذج التنموي لدى الأحزاب السياسية إذا كان المشروع التنموي يتأسس إيديولوجيا على النظريات السائدة بخصوصه، فإن أزمة الهوية لدى الأحزاب السياسية أدى إلى تشابه برامجها وافتقارها إلى آليات واضحة وبرامج محددة لتسيير الشأن العام وفق البرنامج التنموي العام للحزب، وأصبحت أحزاب الأغلبية منخرطة في برنامج واحد يمليه التدبير السياسي الاستراتيجي الذي تنهجه الدولة والذي يأتي بمشاريع تنموية كبرى جاهزة، وتبدأ الحكومة بتنفيذها دون أن تكون لها علاقة ببرامجها ولا تكون أصلا قد ساهمت في إعدادها. وهذا الوضع يعني تغييبا مطلقا للدور السياسي للأحزاب على مستوى اعتماد نموذج تنموي تدافع عنه وتجعله أساس صراعها السياسي والانتخابي، ويجعل العملية الانتخابية برمتها عبارة عن سباق بين الأحزاب لمن يستطيع أولا أن يحظى بشرف تنفيذ بعض البرامج التنموية الجاهزة، أو الإشراف على الوكالات والمؤسسات العمومية التي أصبحت الفاعل التنموي الأساسي بالمغرب عوض الحكومة والأحزاب المشكلة لائتلافها. من هذا المنطلق، وتأسيسا على غياب الأسس الإيديولوجية وتماهي الأحزاب السياسية في الدفاع عن برامج متشابهة إلى حد التطابق، لا نكاد نجد حاليا مشروعا تنمويا لدى حزب سياسي مغربي، فلا نجد مثلا من يحدد موقفه المبدئي من الخوصصة أو التأميم، ولا نجد حزبا سياسيا واحدا يقدم وصفته لحل مشكل التقاعد في المغرب. ولم يقدم أي حزب تصوره للإصلاح الضريبي بالمغرب، ورغم بعض التفاصيل الجزئية والهامشية التي نجدها لدى بعض الأحزاب، فإن ذلك يبقى للمزايدة السياسية فقط دون أي تفصيل لرؤية الحزب لتدبير المالية العمومية ولموارد الدولة وطرق إصلاحها. كما أن غالبية الأحزاب تتحدث عن تقليص الفقر والبطالة ورفع نسبة النمو والاستثمار ومحاربة الفساد... لكننا لا نجد برنامجا واحدا يبين لنا كيف سيتم ذلك وبأية آليات وما هي المؤشرات والضوابط المعتمدة. وبالمقابل تتطرق جميع البرامج للتحديث وعقلنة التدبير العمومي والحكامة... دون أن نجد أي معنى حقيقي لهذه الأوراش الكبرى ولا لتفاصيلها، بل إن وضعية جل الأحزاب السياسية تتناقض كلية مع ما تتعهد بفعله وتحقيقه عند تدبيرها للشأن العام. إن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة تعد محطة حاسمة في البناء الديمقراطي للمغرب وفي سياق تنزيل الإصلاح السياسي والدستوري، ولا يمكن تصور فعل ديمقراطي بدون أحزاب قوية وذات عمق مجتمعي، كما لا يمكن تصور انتخابات حقيقية دون برامج تنموية تنبع من تصور الأحزاب ومواقفها ومرجعياتها السياسية. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد حاول منذ سنوات صياغة تصور شمولي لرؤيته لبناء الدولة الديمقراطية وإصلاح شؤون المجتمع وتنمية البلد، فإنه يحتاج بدوره لكثير جهد لوضعه لهذه التصورات الأولية على أرض الواقع وصياغة برنامج تنموي حقيقي ينطلق من قواعد النموذج التنموي الذي ينشده ووصولا للنموذج المجتمعي الذي يسعى لإقناع الناخبين به. أما الأحزاب التقليدية فيبدو أنها نسيت مواقفها الإيديولوجية وانساقت وراء المقاعد الانتخابية عوض أن تطبق ما كانت تتعهد به عندما شكلت الحكومة، وهو ما جعلها تعيش تناقضا بيِّناً بين مبادئها الإيديولوجية وواقع تدبيرها للشأن العام. في حين تبقى الأحزاب اليمينية (وليست الليبرالية) من قبيل الأحرار والاتحاد الدستوري حبيسة الهدف العام من إحداثها وهو تطبيق ما تسطره السلطات العمومية بالدولة كيفما كانت ملامح ذلك دون أن تكون لديها أية نية لبلورة رؤيتها الإيديولوجية أو تصورها للنموذج التنموي. فالمطلوب اليوم من الأحزاب السياسية إعادة فتح النقاش بعمق داخلها لإعادة صياغة برامجها السياسية أولا ثم تقديم برامجها الانتخابية للمواطنين حتى يستطيع الناخب الإدلاء بصوته لهذا المشروع التنموي أو ذاك. دكتور في القانون [email protected]