يعتبر الحديث عن الإصلاح السياسي والدستوري مناسبة لمناقشة دور الأحزاب السياسية واسقراء مواقفها السياسية والمرجعية لعملية الإصلاح، فالمؤسسات الحزبية تعتبر مجالا للإنتاج السياسي ووعاءً لتصريف المواقف السياسية والإيديولوجية المرتبطة برؤيتها وبمرجعيتها، كما يرتبط هذا الأمر وجوبا بمشروعها التنموي الذي تحدده انطلاقا من أدبياتها وأوراقها. فهل تتوفر الأحزاب السياسية المغربية أصلا على مشروع سياسي يكون أساس صياغتها لمقترحاتها بناء على رؤيتها التنموية، بل هل تمتلك هذه الأحزاب أصلا رؤية تنموية حقيقية للبلد؟ إن المتتبع لخطابات جل الأحزاب السياسية المغربية يتوه بين الشعارات الكبرى المتشابهة بين جميع البرامج، مع غياب أية معطيات تفيد بامتلاكها لمشاريع تنموية تكون مقابلا لمرجعيتها السياسية والإيديولوجية التي تركز عليها في خطاباتها ووثائقها وبرامجها السياسية والانتخابية. وإذا كانت بعض الأحزاب السياسية (خاصة العدالة والتنمية) لا زالت تحاول وضع تصور تنموي للدولة ولوظائف مؤسساتها السياسية والدستورية، فإن هذا التصور يتعين أن ينعكس على المقترحات المتعلقة بالمراجعة الدستورية والتي يُفترض أن تشكل مناسبة تنزيل هذا التصور. وإذا كانت الأحزاب التقليدية بالمغرب (اليسار واليمين والليبراليين) تحاول بدورها إيجاد موقع قدم في هذا الموضوع، فإنها بدورها لا تركز على المقومات الإيديولوجية التي تحكمها لتقديم مقترحات الإصلاح الدستوري، وعوض ذلك فإن أغلبها تحاول مسايرة الأوراش المعلنة من قبل المؤسسة الملكية، بغض النظر عن قناعاتها الإيديولوجية التي أصبحت متجاوزة. أزمة البرامج السياسية الحزبية: فعلى الرغم من تعدد البرامج السياسية والانتخابية للأحزاب السياسية بالمغرب، لا نكاد نجد برنامجا تنمويا حقيقيا، يستند إلى قواعد واضحة إيديولوجية أو مرجعية، ويسطر نموذجا تنمويا منشودا يناضل الحزب سياسيا من أجل تحقيقه، وهو ما يُفترض أن يكون أساس التنافس السياسي والانتخابي. فالأحزاب السياسية المغربية لا تدافع عن طبقة اقتصادية أو اجتماعية بعينها، ولا تحرص على مصالح فاعلين اقتصاديين أو مهنيين بشكل حصري، وإنما نجد في البرامج الحزبية (السياسية والانتخابية) مزيجا من كل الطبقات والقوى الاقتصادية داخل التصورات العامة المطروحة، بشكل يؤدي للتشابه الكبير حد التطابق بين هذه البرامج. فالأحزاب المغربية تهدف لتحقيق التنمية الاقتصادية بنفس الآليات، بل إنها أصبحت تدافع خلال السنوات الأخيرة عن الطبقة الوسطى لمجرد أن الدولة أصبحت مقتنعة بأهمية هذه الطبقة في تحقيق الاستقرار الاجتماعي، في حين أن الهوِيات الإيديولوجية للعديد من هذه الأحزاب لا تنسجم مع هذا الطرح، فمنها ما تُعتبر ذات ميولات بورجوازية، ومنها ذات أصول بروليتارية، ومنها ما نشأ للدفاع عن البادية والفلاحين فقط... لكنها تماهت كلها مع الطرح القاضي بدعم الطبقة الوسطى وجعلها أساس التنمية المجتمعية، وهذا مثال حي على انعدام أي مشروع أو نموذج تنموي لدى هذه الأحزاب السياسية كلها في الوقت الراهن. وبالموازاة مع ذلك لم تعد التناقضات تبرز بين الخلفيات الإيديولوجية والخلفيات المرجعية للأحزاب السياسية المغربية. فالاتحاد الاشتراكي مثلا أصبح قريبا من الأحزاب الليبرالية مثل الأحرار والاتحاد الدستوري ولم تعد مبادئه تتناقض معها (على افتراض جدلي أنها تتبنى إيديولوجيتها التي تدَّعيها) ، كما أصبح قابلا للتعامل مع العدالة والتنمية الذي يستند على قاعدة مرجعية أُفُقية تسمح بالاختلاف الإيديولوجي داخل نفس المنظومة، أو على الأقل لا يمثل هذا الاختلاف عائقا أمامها. وهذا الوضع إنما يؤكد تراجع الإيديولوجية، كمحدد للبرنامج السياسي وللتحالفات، وقد شكلت مناسبة الحديث عن الإصلاح السياسي والدستوري الحالي أهم تجليات هذا التماهي وغياب التصور الخصوصي، فالجميع يطالب بنفس الشيء، ولا تختلف المواقف إلا في قضايا محدودة وبشكل محتشم تهم الهوية والثقافة. تشابه مطالب الإصلاح الدستوري: على إثر الخطاب الملكي لتاسع مارس الماضي، والذي تجاوز بكثير سقف مطالب لجميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين، بدأ نقاش واسع يطفو على السطح بين هؤلاء بخصوص المحاور الكبرى للإصلاح الدستوري وشروطه السياسية والعملية. وأول ما تم الوقوف عنده هو التشابه الكبير بين الأوراق المعتمدة من قبل غالبية الأحزاب السياسية بهذا الخصوص، فالجميع أصبح يطالب بدسترة الحقوق والحريات الأساسية وبدسترة الأمازيغية، وجل الأحزاب متفقة على نموذج الديمقراطية المبتغاة وشروطها الأساسية من تقوية البرلمان والحكومة والرقي بالقضاء ليصبح سلطة مستقلة... ولا نرى أية اختلافات حقيقية إلا في بعض التفاصيل الجزئية التي لا تخرج عن السياق العام، وأصبحنا نرى الجميع ينادي بضرورة توفير الشروط الضرورية لإنجاح الإصلاح عبر التركيز على المؤسسات الدستورية المقبلة وعلى دور وزارة الداخلية كطرف متحكم في العمليات الانتخابية، وهذا النقاش الذي فتحته الأحزاب السياسية تم وفق آليات متشابهة حد التطابق أحيانا، ورأينا الجميع يحث على إنجاح ورش الجهوية المتقدمة وجعله أساس ترسيخ النظام الديمقراطي. فالتمايز الإيديولوجي لم يعد يطبع المشهد السياسي المغربي، بحيث صرنا نجد أحزابا اشتراكية تتبنى مقاربات ليبرالية صرفة، مثل دفاع بعض أحزاب اليسار عن نتائج ومردودية خوصصة المنشآت العمومية، وتشابه دعوات ومواقف الأحزاب اليمينية واليسارية فيما يخص الحريات الفردية، مما يجعل مشاريعها المجتمعية متشابهة لحد المطابقة... وهذه الأمثلة تعتبر فاصلة فيما يخص التخلي عن الطرح الإيديولوجي كأساس للتمايز. ويظهر هذا "الانسجام" بشكل جلي فيما يخص المراجعة الدستورية المرتقبة، فالأحزاب الليبرالية بدورها تلح على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق النقابية والسلط الدستورية، واليسار يتماهى معها في حقوق المِلكية والمبادرة الحرة، والجميع يتبنى نفس المقاربة المتعلقة بمهام واختصاصات البرلمان والحكومة واستقلال القضاء. هل يتعلق الأمر بنهاية الإيديولوجية مقابل وحدة المقاربة الوطنية؟ أم أنها إعادة ترتيب الأوراق للمرور نحو اختلاف مرجعي جديد بين الأساس الهوياتي والأساس التنموي؟ وفي جميع الأحوال يعتبر هذا الإجماع الفكري والسياسي حول المحاور الكبرى للإصلاح الدستوري خطوة أولى وأساسية نحو توافق أكبر لاعتماد الدستور الجديد والتوافق على الخطوات السياسية والانتخابية التالية من أجندة انتخابية وتفاصيل لنظام الاقتراع والعتبة واللائحة الوطنية الموسعة... وهذا الوضع يُغيِّب الدور السياسي للأحزاب، ويجعل العملية السياسية برمتها عبارة عن سباق بين الأحزاب لمن يستطيع أولا أن يحظى بشرف المساهمة في تنزيل الإصلاح الدستوري على أرض الواقع والتأثير في القوانين والقرارات المتعلقة به. *دكتور في القانون [email protected]