250 بين قتيل وجريح هي حصيلة الاعتداء الذي استهدف مدنيين عزل في العاصمة بغداد. حصل هذا بعد يومين فقط من انسحاب آخر الجنود الأمريكيين لإسدال الستار على ثماني سنوات من الاحتلال. أيّا كانت الأسباب، فإن العمليات الأخيرة تحمل التصميم نفسه لما كان يجري قبل سنوات. وبالتأكيد إن سايرنا الدعاية القائلة بأن المستفيد من العملية السياسية هم هؤلاء، فمن هو الطرف الآخر الذي يضغط على العملية السياسية من داخل العراق أو الجوار الإقليمي من خلال قتل المدنيين؟! وإذا كانت المنطقة تأبى الفراغ، فإنّ انسحاب الجيش الأمريكي من العراق لن يحول دون محاولات التّدخّل الإقليمي في المنطقة. بما أن العراقيين يرفضون هذا التّدخّل، فسيكون للأعمال القذرة دورا كبيرا في الأيام والشهور الآتية قبل أن يتكيّف العراق الجديد مع شروط ما بعد الانسحاب الأمريكي. فما أن أعلن رسميا عن انتهاء الحرب في بغداد بعد أن تقرر خروج آخر القواعد والجنود الأمريكيين حتى تفجّر موضوع سياسي ينذر بعودة الأزمة إلى العملية السياسية، بعد صدور مذكرة من القضاء العراقي يمنع بموجبها نائب الرئيس: طارق الهاشمي من مغادرة البلاد فيما اعترف عدد من رجال حمايته بتورّطه في إصدار أوامر تفجير وقتل استهدفت مدنيين ورجالات دولة. هرب طارق الهاشمي إلى إقليم كردستان، وعبّر عن رفضه المثول أمام قضاء عراقي وصفه بعدم النزاهة مطالبا بمثوله أمام قضاء كردستان. حاول الهاشمي في مؤتمره الصّحفي تبرئة نفسه مما نسب إليه محاولا استدخال السياسة في قضية اعتبرها المالكي من جهته ذات صلة بالقضاء. كان الهاشمي في تصريحاته يسيّس الموضوع فيما المالكي يؤكّد على التزام الدستور واحترام القضاء. لكن يبدو أن المالكي يملك الكثير من المعطيات التي قد تفاجئ الهاشمي بوقائع حيّة. خروج المستور إلى السّطح يجعل وضعية طارق الهاشمي على محكّ دولة القانون، إذ لا رجعة في القضية سوى أن يبثّ فيها القضاء. لأنّ التراجع عنها حتى لو اتخذ بعدا سياسيا سيترك أثرا بالغا على العملية السياسية ونفسية ضحايا الإرهاب في العراق طيلة السنوات الأخيرة.من جهته حاول المالكي من خلال مؤتمر صحفي أن يؤكّد على أنّ القضاء كان هو من سارع لإصدار مذكرة إيقاف طارق الهاشمي. وأكّد على أنّ القضاء مستقل ولا سلطة لرئيس الوزراء على القضاء. فيما أكّد على أنه حال فشل التوافق سيستند إلى حقّ دستوري في الرجوع إلى الأغلبية. الأخطر بعد كلّ هذا أنّ بغداد غداة تفجّر قضية الهاشمي تعرضت لسلسلة اعتداءات إرهابية راح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين. هذا التوقيت يدلّنا على أنّ أطرافا كثيرة اعتادت على منطق الصفقات والابتزاز والحماية الأمريكية. ففي السنوات الأخيرة استطاع مسئولون عسكريون أمريكيون أن يحدّدوا المائز بين العمليات التي تقوم ضدّ قواتهم في العراق؛ أحدهم يعتبر أن العمليات التي تصل إلى المواقع الأمريكية في الصميم أو بمحاذاتها هي عمليات الكتائب والعصائب بينما تلك التي تستهدف المدنيين هي للقاعدة. بدا واضحا أنّ القادرين على قصف المنطقة الخضراء لا يريدون فعل ذلك ، بينما الذين يريدون ذلك لا يقدرون عليه. ليبق السؤال: من كان وراء أعمال القاعدة أو أشباهها في العراق؟ من المؤكّد أن هدف هذا الاعتداء هو محاولة الضّغط على المالكي كي يجد مخرجا سياسيا في ملف طارق الهاشمي بعيدا عن القضاء. ثمة موقفان على طرفي نقيض هاهنا: فالهاجس الذي يستحوذ على المالكي هو قيام دولة العراق مستقلة وذات سيادة كاملة ومنيعة عن التّدخّل الإقليمي والدّولي. وقد بدا ذلك واضحا من سيرته السياسية إزاء قرارات عديدة من هذا القبيل. بينما استغلت أطراف عديدة وضعية التوافق لتعطيل مشاريع الحكومة لحساب قوى أجنبية. يراهن الهاشمي كما المطلق على القوى الإقليمية والدولية في إرباك أداء الحكومة العراقية. فالعراق الذي لم يرضخ للّعبة الدولية في الانضمام إلى القرار الإقليمي في التّدخل في سوريا سيجعله هدفا لهذا النوع من الضغوط. إقليميا لن تقبل أطراف كثيرة أن يبني العراق دولته بعيدا عن هواجس منطقة الخليج. بينما هاجس العراقيين أن يعيدوا العراق إلى سيادته ونهج سياسة خارجية مختلفة قوامها البحث عن صداقات لا عن أحلاف. بعض الأطراف العراقية كما بعض الأطراف الإقليمية لم تتعوّد على عراق حرّ وتعددي وديمقراطي وقانوني يحتكم للمؤسسات ويبني سياساته الخارجية على قاعدة المصلحة والسيادة الوطنيتين بعيدا عن التّدخل والتّدخّل المضاد. فعراق الحارس للبوابة الشرقية أو عراق القادسية أو عراق احتلال الكويت أو عراق الكوبونات ومغامرات الحروب بما فيها القذرة ولّى بلا رجعة. والعراقيون متطلعون هذه المرحلة إلى بناء العراق واستعادة بنيته التحتية التي قضمتها الحروب. مئات بل ألوف الثكلى والأيتام ينتظرون من العدالة أن تقول كلمتها. وحقّ على القضاء أن يكون طرفا أساسيا في تنمية العراق وتقدّمه لإرساء الاستقرار الذي لا يتمّ إلاّ بقيام العدالة بدورها كاملا. فعوائل الشهداء يبحثون عن الجناة وعن من حرّض على قتل العراقيين لأهداف سياسية. يتّهم المطلق والهاشمي رئيس الوزراء المالكي بأنّه ديكتاتور وأنّه هرّب الحكم لصالحه، وهذه من الأساطير السياسية التي تهدف الإثارة وعدم التزام ملف التّهمة الموجهة لنائب الرئيس. ذلك لأنّ المالكي لا يملك أن يهرّب شيئا من الحكم لنفسه ولا يمكن أن يحدث هذا في العراق الجديد. فالذي يخيفه الحزم في تطبيق القوانين هم الذين ارتضوا التوافقات التي سيكون ضررها على العملية السياسية كبيرا في المستقبل المنظور. فالعراق ليس هو لبنان. وتقاليد الدّولة ضاربة الجذور في العراق. والحاجة إلى التوافقات إنما هي وليدة الاحتلال والتّدخل والابتزاز والضّغط. فالمالكي شخصية حازمة وله نصيب من العناد المستند إلى قوّة القانون. وهذا هو الجانب الذي يزعج الهاشمي والمطلق في المالكي. ولقد بدا ذلك واضحا منذ عمل هذا الأخير على متابعة برمجة خروج الاحتلال ورفض الكثير من التّدخلات الأمريكيةوالإقليمية في الشأن العراقي. مقاضاة طارق الهاشمي فصل أساسي من تسليط الضوء عن الجهات المسؤولة عن عدد من العمليات الإرهابية الغامضة وعن المتورطين في دماء العراقيين. ويستطيع طارق الهاشمي أن يدافع عن نسفه في قضاء عراقي شفّاف، لا يخافه إلاّ المتورّطون فعلا في أعمال قذرة. فيما يبدو أن لا رجعة في محاكمة الهاشمي بعد ظهور اعتراف حمايته بجرائم منسوبة إليه. فسيجد المالكي نفسه أمام ضغط عوائل الشهداء وأمام قضاء مستقل غير معني بسياسة التوافقات وأمام مسؤولية أخلاقية تتعلّق بدماء العراقيين وأيضا أمام استحقاقات الاستقرار، لأنّ محاكمة الهاشمي هي درس لأطراف عديدة داخل العراق ستحاول أن تستغل خروج الاحتلال لإدخال العراق في دورة الأزمات. يبدو أن حزم المالكي مهم في هذه المرحلة كما كان مهما في مرحلة برمجة خروج الاحتلال. والتراخي في تدبير عراق ما بعد الاحتلال في انتظار إخراجه الكامل من البند السابع وتحقيقه لقراره السيادي هو أمر لا يخدم مستقبل العراق. الاختبار المطروح اليوم على عراق ما بعد الاحتلال هو كيفية تدبيره لسياساته الداخلية فيما بين الكتل السياسية وكذا سياسته الخارجية إزاء دول المنطقة. سوف يتعرّض العراق إلى سلسلة اعتداءات لاختبار مدى قدرته على الاستقلال بسيادته خارج الاحتلال. وكثيرة هي الأطراف التي ستتورّط في هذا الامتحان. ومهما حمي الوطيس فإنّ ذلك لا يمنح أي أهمية لما سيحدث ما دام تصميم العراقيين اليوم على امتلاك أمورهم ولو اشتدّ الاعتداء. إن المراهنين على لعبة التوافقات يجدون أنفسهم الطرف الخاسر عند خروج القواة الأمريكية. ذلك لأنهم غير جاهزين للقبول بالديمقراطية الحقيقية القائمة على منطق الأغلبية. قد يعتقد البعض أن قرار إيقاف المالكي جاء في توقيت غير مناسب من الناحية السياسية، لكن أيضا يبدو أنه قرار استباقي جاء في توقيت حرج جدّا يتعلّق بالمعركة القادمة من أجل عراق قويّ مستقل ومتمتع بسيادة كاملة وعملية سياسية حقيقية والقضاء على ما بني على قاعدة الاحتلال: إذ المبني على باطل هو باطل. وفي تقدير السياسة ليس منطق الأغلبية هو الباطل، بل التوافقات التي فرضت على العملية السياسية ضربا من المحاصصة الطائفية هو الذي جعل حكومة المالكي حكومة معاقة. فحينما يقول هذا الأخير بالذهاب إلى الأغلبية يكون قد تمرّد على منطق المحاصصة الطائفية ونزع إلى دولة القانون التي هي عنوان حركته السياسية منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة. ما يبدو خطرا اليوم على العراق هو مخاض الولادة الصّحيحة، لأنّ لا أخطر على العراق من ديكتاتورية الماضي والاحتلال الذي استجلبته بمغامراتها وصفقاتها الخاسرة كما لا أخطر على عراق المستقبل من أولئك الذين ألفوا الحياة السياسية تحت رعاية الديكتاتور أو الاحتلال. إن الأخطر على عراق المستقبل هو التّعالي على القانون والقضاء والاستهانة بالعملية السياسية الوطنية والمراهنة على التّدخّّل الخارجي، كما يظهر من الجدل الجاري على هامش قضية طارق الهاشمي اليوم.سيواجه العراق إذن تحدّيات مضاعفة يكون الغرض منها الضّغط على حكومة المالكي للقبول باستدامة حالة التوافق بعيدا عن حكومة الأغلبية الديمقراطية. كما سيواصلون الضّغط من أجل تطويع الحكومة للقبول بمسألة الأقاليم وخضوع السياسة العراقية الجديدة لرهانات الخليج وتركيا. خلف المالكي والكتل العراقية التي تريد للعراق الاستقلال والمكانة المناسبة له في المنطقة الكثير من أوراق القوة. ومهما بلغت الأعمال القذرة فالملف الأمني بات اليوم في يد العراقيين. وربما أمكن الأعمال القذرة أن تزدهر تحت هيمنة الاحتلال على الملف الأمني العراقي. أما الآن، فيبدو أن كل هذه المحاولات ستواجه الفشل، لأنّ العراق اليوم بات أكبر من أن يعودوا به إلى الوراء !