لا ينكر أحد أن إقامة مجتمع حداثي ديمقراطي قد أضحى ضرورة واقعية و حضارية لكل من يريد الانتساب إلى هذا السياق التاريخي. وغدا من الأولويات التي تناضل من أجلها الشعوب المتطلعة إلى بناء كيانها الحضاري والراغبة في ركوب موجة التغيير وقطار التنمية.وكل أمة تختار السباحة ضد هذا التيار الجارف،فإنها معرضة حتما إلى الزوال الأبدي و إلى الانقراض الحضاري.و لذلك أصبح الدخول إلى العالم المعاصر لا يتم إلا من خلال بوابة التحديث و الديمقراطية.ولقد أصبح هذا الشعار المثير خطابا متداولا وعلى ألسنة الخاصة و العامة، ولافتة ترفعها كل الفعاليات السياسية و الثقافية ،وتدعي العمل من أجل تنزيل مضمونها على أرض الواقع وترجمته إلى ممارسة إجرائية وإلى سلوك يومي .وقد كثرت التفسيرات و التأويلات لهذا الشعار ، وتنوعت التحليلات و المقاربات لفك رموزه وقراءة واجهته الخلفية وبيان مدلولاته الخفية التي تتوارى وراء دواله وخلف جدار مصطلحاته. وقد اختار المغرب بكل مؤسساته السياسية و الثقافية و الاقتصادية هذا التوجه الاستراتيجي من أجل بناء الدولة المغربية العصرية ،فعمل على تغيير القوائم المتهالكة و البنيات الصدئة ووضع قطيعة مع بعض القيم البالية ونهج أساليب جديدة في إدارة شؤون البلاد بما يستجيب وحركة التحديث العالمية. وهكذا بدأت معالم التغيير تطل علينا بين الحين و الآخر لتعلن عن ميلاد سياق مغربي جديد ،ولتؤكد على انتساب المغرب إلى زمن الحداثة.وهو اختيار نعززه ونباركه ونحرص عليه وندعو إلى ترسيخه في ثقافة المجتمع و في بنيات مؤسساته، ولكن هذا الموقف لا يمنعنا من مراقبة حركية مسلسل التحديث ومن متابعة آليات اشتغاله ومن ملاحظة مستويات تقدم قيم الديمقراطية وتحولها إلى ثقافة عامة في المجتمع.لأن مشروع التغيير مسار حضاري عظيم يحتاج دائما إلى قوى دافعة لتعزيز إنجازاته وإلى قوى كابحة لتصحيح خطواته وتقويم أساليبه ومناهجه. إن المتتبع لواقع التغيير في المجتمع المغربي يستنتج بكل سهولة ويسر طابع الانتقاء و التجزيء في علاقة الدولة بفكرة التحديث.فحينما نقارن بين الخطابات المعلنة والواقع المعيش نلاحظ تلك الهوة الكبيرة التي تفصلنا عن بلوغ شاطئ التغيير، ونحس بتلك المسافة الطويلة التي تبعدنا عن الوصول إلى مراسي الحداثة. لأننا تعاملنا مع هذا الاختيار بشكل معوج وعقيم يكشف عن مستوى العجز في إرادتنا وعن درجة الانحراف في فهمنا لحقيقة الحداثة، حتى أصبحنا نعيش أوهاما كثيرة ونرسم أحلاما مفارقة تبعدنا عن الحداثة أكثر مما تقربنا منها.ولعل السبب في ذلك يعود بالأساس إلى الأسلوب المتخلف في إدارة مشروع الحداثة ،وإلى تعاملنا الانتهازي معها،وذلك باكتفائنا بقشورها ومساحيقها الخارجية، و إعراضنا عن جوهرها وروحها. حيث جعلنا لافتة الحداثة و التغيير شعارا موسميا وخطابا مناسباتيا تتم به دغدغة المشاعر و تسويق الأوهام واللعب بالمشاعر. لم يكن أدونيس مخطئا قط حينما تحدث عن أوهام الحداثة في الوطن العربي، وإن كانت الفترة التي كتب فيها عن هذا الموضوع مخالفة تماما عما تحياه الأمة الآن من تغيرات سياسية و اجتماعية و اقتصادية. فقد كانت ملاحظاته ترجمة صريحة وأمينة لواقع الأمة،حيث ركز على المفارقة الغريبة التي تشهدها البلاد العربية في تمثلها لقيم الحداثة. فقد لاحظ أن بلادنا قطعت أشواطا كبيرة في مجال التحرر القيمي،ووصلت مستوى متقدما فيما يتعلق بالحداثة الفنية، واستطاعت، بذلك، أن تضاهي البلاد الغربية وأن تتماثل معها بالانفتاح على المدارس والتيارات الحداثية والمشاركة في مختلف الإبداعات الفنية ،في حين ظلت هذه البلاد متخلفة فيما يتعلق بالحداثة العلمية و السياسية، ولم تستطع فرض وجودها من هذه الناحية ، وبقيت مشاركتها هامشية و محتشمة، بحيث لم يواكب هذا الجانب الإيقاع الذي سارت به الحداثة الفنية .والحقيقة أن كلام أدونيس آنذاك كان فيه نوع من استشراف للمستقبل،وتنبؤ بمآلات مسلسل التحديث الذي شرعت الدول العربية في إخراج أولى حلقاته .وإذا ما نحن أنزلنا مواقف أدونيس اليوم كمعيار لتقويم مظاهر التحديث في المجتمع ، فإنه ستتراءى لنا مواطن الخلل في تصوراتنا ،وسيظهر لنا حجم الإعاقة في تطبيقاتنا و سلوكاتنا و إنجازاتنا المحسوبة على الحداثة،لأن أخطر ما نعيشه اليوم هو فقدان التوازن وغياب التخطيط الاستراتيجي للمشروع الحداثي،واقتصارنا على مغازلة الحداثة من بعيد أو الاكتفاء بالنظر إليها بعين واحدة هي عين التحرر من القيم دون عين العلم والابتكار ، و دونما الاقتراب من حقيقتها أو جعلها ثقافة عامة في كل تفاصيل حياتنا فكرا و سلوكا ومشاريع. فالحداثة كل لا يتجزأ، وفلسفة لإدارة الأجهزة المحركة لقاطرة التنمية في المجتمع.وأنا هنا أتكلم عن الحداثة كقيم عالمية لتجديد العقليات والسلوكيات و المناهج ،و كإرادة إنسانية لتغيير كل ما ثبت عجزه عن مواكبة العصر، و لتجاوز كل ما يجر الإنسانية إلى الوراء و يعطل حركتها النهضوية و يبطئ دوران عجلة التغيير. إن الإنجازات السياسية و الاجتماعية و الحقوقية و الاقتصادية و الثقافية والرياضية التي تشهدها البلاد علامات دالة على الرغبة الأكيدة لدى كل الفاعلين في تنزيل مشروع المجتمع الحداثي الديمقراطي،وإشارات كاشفة عن نية المغاربة في الإصلاح و التغيير و استكمال مسلسل بناء الدولة العصرية واقتحام بوابة الألفية الثالثة برصيد مهم من المشاريع الناجحة في مختلف الميادين.ولكن من حقنا أن نتساءل عن موقع المشاريع العلمية في هذه الحركية.فما هي النسبة المخصصة للبحث العلمي في ميزانية الدولة؟ وما هي المعاهد العليا و المؤسسات التقنية والمختبرات العلمية التي تترجم الحداثة العلمية واقعيا؟و ما موقع العلماء و مكانتهم في المجتمع؟ وما هي المحفزات المادية و المعنوية التي تقدم لبناة النهضة ورجالها؟ صحيح أننا وصلنا القمة في تنظيم المباريات الرياضية و المهرجانات السينمائية و المعارض الفنية والسهرات الغنائية.وقدمنا الكثير من الهبات و المحفزات لأهل الرياضة و الفن و الطرب.وكنا كراما مع سفراء الأغنية والموسيقى والرقص.قدمنا الغالي لكل الأصوات مهما اختلفت الألسن و اللغات.كرمنا أهل الفن الأصيل والدخيل،بنينا المركبات الرياضية الحداثية ،وأنشأنا المؤسسات التجارية الحداثية، وجهزنا المراكز السياحية الحداثية. وحررنا القنوات الإعلامية الحداثية.صرفنا الأموال الطائلة من أجل استجداء رضا الغرب، وتملقنا كثيرا إليه لعله يقبلنا في حظيرة الحداثيين.ولكننا نسينا أن الحداثة في الغرب لم تبدأ من الفن و إنما من الفكر.لم تبدأ من الطرب والغناء والمساحيق والألوان البراقة ،وإنما بدأت الحداثة من قيمة تكريم الإنسان واستعادة حقوقه الطبيعية.بدأت من تحرير العقل من الخرافة و الدجل والأساطير. بدأت من الاعتراف بقيمة العقل و الحرية و الكرامة و المساواة وحقوق الإنسان.في الحداثة الغربية كان العالم سيد قومه،وكان الأديب حكيم زمانه،وكان رجال الفلسفة والمعرفة رواد الأمة وقادتها.ويشهد عصر الأنوار على مكانة العلم و العلماء، وعلى دورهم في رسم معالم المجتمع الحداثي الديمقراطي بالمفهوم الغربي. أما عندنا فقد سلكنا طريقا مغايرة- لعل ذلك ضربا من الخصوصية المغربية- تنكرنا للعلم و العلماء ،وعادينا الفلاسفة والأدباء والفقهاء، وأبعدناهم عن الواجهة،و حاصرناهم حصارا خطيرا حتى استهان بهم الناس وأعرضوا عنهم.قزمنا قاماتهم وجعلناهم في المواقع الخلفية.رسمنا لهم صورة كاريكاتورية كموضوع للسخرية و الترفيه و التسلية. سلكنا طريقا محفوفا بالمخاطر مزروعا بالألغام حينما جعلنا أهل المال و الجاه و الفن و الرياضة هم أهل الصدارة والواجهة و الكلمة المسموعة و الشأن الرفيع.جعلنا منهم نجوما عالية يتعلق بها الصغير و الكبير،ويحرص الجميع على التملي بطلعتها ونيل حظوة السلام عليها .أما العلماء و رجال الفكر فيكاد لا يعرفهم أحد، لا احترام لهم بين الناس، ولا تقدير لهم عند الدوائر و الأجهزة .لا يفسح لهم في المجالس ولا تطاردهم عدسات الصحافة ، ولا تستضيفهم القنوات إلا في المواسم و المناسبات.أين رجال المغرب الذين نحتاجهم اليوم لبناء هذا البلد ؟أين الدكتورالمهدي المنجرة؟ أين الدكتور عبد الله العروي؟أين الدكتور مصطفى بن حمزة؟ أين الدكتور عبد الرحيم الهاروشي؟أين الدكتور إدريس الخرشاف؟هذه أسماء و غيرها لا يعرفها أبناؤنا لأن السياسة العامة في الإعلام و التعليم لم تدرج هؤلاء الأعلام ضمن لائحة الرجال المنوه بهم أو المكرمين أو ضمن النجوم أو المشاهير.لأنهم ببساطة أناس يحركون العقول ويبنون الأذواق ويلقحون القيم و ينيرون عتمات الواقع، ولم يركضوا صاغرين خلف الماديات، ولم يتزلفوا للحكام، ولم يبيعوا ضمائرهم من أجل نيل حظوة أو منصب. هذه تهمتهم التي حكمت عليهم بالتهميش، و هذه خطيئتهم التي أبعدتهم عن الواجهة.لم تغرهم الكراسي الناعمة في الحكومة و البرلمان، ولم يستدرجهم لهيب الامتيازات والمصالح كما استدرج الفئة الانتهازية.لم يغيروا أقلامهم ولم يخونوا ضمائرهم، ظلوا قمما عالية في العفة و الكرامة و الوفاء للمبدأ وما بدلوا تبديلا. إن استعارة الحداثة من الغرب تتطلب انتهاج سبيله في تقديس العقل و احترام الفكر ومراعاة حقوق الإنسان .تتطلب اتباع منهجه في بناء المجتمع على أساس العلم و المعرفة والتكنولوجيا وجعل القراءة سلوكا اجتماعيا .تتطلب تحفيز العلماء و النبغاء وتشجيعهم وتعظيم شأنهم.تتطلب حرية التفكير وحرية التعبير .تتطلب المساواة بين أهل الفن وأهل المال وأهل العلم والفكر.تتطلب مشاريع حقيقية للنهوض بمستوى البحث العلمي.تتطلب إخراج البحوث العلمية من رفوف الجامعات وترجمتها إلى تجارب عملية وإلى مشاريع تنموية.فقبل تحرير الأجساد نحن في حاجة إلى تحرير العقل. وقبل دغدغة خلايا القلب نحن في حاجة إلى دغدغة خلايا الدماغ.و إذا كان لابد أن ننفتح على الحداثة كما أنتجها الغرب فإن الانفتاح وحده لا يكفي، بل نحتاج إلى وضع بصماتنا و ترك آثارنا بمنجزاتنا الحضارية الأصيلة .لأن المجتمع الحداثي الديموقراطي هو ثقافة قبل أن يكون مؤسسات، وهو سلوك اجتماعي و سياسي قبل أن يكون شعارات، وهو إبداعات خالصة بدون نقول أو ترجمات.