بسم الله الرحمن الرحيم لن أجعل من بحثي هذا بحثا تاريخيا فأطرح سيرة (شارل بودلير) الفرنسي (1821 / 1867) الذي يعتبر عند بعض الباحثين المبشر الأول للحداثة، لكن لا بأس أن أقول بأن (شارل بودلير) هذا دعا بكل قوة إلى التسيب الخلقي والتمرد الكلي على القيم ومعاقرة كل رذيلة بتلذذ سادي. كما لن أطرح سيرة مواطنه الفرنسي أيضا (غوستاف فلوبير 1821 - 1880 ) ولا بأس أن أشير إلى رأس الحداثيين المدعو (أدونيس، علي أحمد سعيد ) من سورية أول داعية إلى الحداثة في العالم العربي. ( أدونيس، علي أحمد سعيد ) نصيري سوري ويعد المروج الأول لمذهب الحداثة في البلاد العربية، وقد كتب رسالته الجامعية التي تقدم بها لنيل درجة الدكتوراة في جامعة ( القديس يوسف) في لبنان بعنوان [الثابت والمتحول] رسالة دعا فيها إلى محاربة الله تعالى؟ ومن بلادنا المغربية هناك من لا يزال ينسج على نفس المنوال كعبد الله العروي مثلا، وآخرون من دونه ممن لا فكر لهم ولا علم وإنما هم مقلدة كالببغاوات والقردة... جعلوا لأنفسهم تأطيرات جمعوية فراحوا يهذون بالطامات التي يجرحون بها مشاعرنا وكراماتنا من غير خجل ولا وجل، حتى إذا قال لهم قائل اتقوا الله رموه بالنفاق الاجتماعي... والإرهاب الفكري... وأشياء أخرى. ليس المقصود من هذا المقال هو الغوص في تاريخ (الحداثة) بشكلها التفصيلي لتسليط الضوء على أسباب ظهورها وكيفية انتشارها والمراحل التاريخية التي قطعتها حتى وصلت إلينا بغثها وسمينها، حتى ظنها بعضهم بحبوحة السعادة وواحة الرقي والتقدم والازدهار وعنوان التنوير والإبداع والتحرر من قيود الاستعباد والإرهاب الفكري... في إشارة إلى الإسلام وعلماء الإسلام في الجملة.. إنما المقصود من هذا البحث المختصر هو التعريف بهذا الكائن (الحداثة) التي يرددها كثير من الناس عن علم وعن غير علم. وأنا أجزم أن الكثير من المغاربة الداعين إلى الحداثة لا يقصدون محاربة الله تعالى ولا محاربة دينه الإسلام. بل كم من الدعاة إلى هذه الحداثة يحافظون على صلواتهم ويؤدون واجباتهم الدينية بكل اعتزاز وافتخار ولا يدور في خلدهم طرفة عين أنهم يحاربون الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وإذن هؤلاء مثلي تماما... فأنا أيضا مسلم والحمد لله... وأنا من الدعاة إلى الحداثة. بل أمارسها يوميا باستعمال أرقى ما وصلت إليه التكنولوجيا المعاصرة: شبكة الإنترنيت، وما أدراك ما الشبكة. وهذا يعني أنني وكل المغاربة الذين يدينون بدين الحق مع كونهم حداثيين لا يفهمون الحداثة على طريقة أدونيس أو شارل بودلير ولا حتى العروي... غير أن هناك من بني جلدتنا من يدعو إلى الحداثة كما دعا إليها المتفسخون قديما وحديثا مثل حداثة محمد أركون الجزائري، والعراقي الماركسي عبد الوهاب البياتي. والشاعر الفلسطيني محمود درويش وهو عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي أثناء إقامته بفلسطين المحتله، ونصر أبو زيد الذي كفره علماء الأزهر وحكموا بتطليق زوجته بسبب دعوته للحداثة بكل تنكرها للإسلام والقيم السماوية... فما كان إلا أن فر وإياها إلى حيث يستقبل المرتدون عن دينهم استقبال الأبطال الفاتحين، مثله مثل سلمان رشدي وتسليمة نسرين... وآخرين. وإذن ما هي الحداثة في أصلها؟ وماذا نقبل منها وماذا نرد؟ الحداثة في أصلها تعني التمرد على كل ما هو قديم، والإعراض عن كل القيم المتوارثة... ويدخل في هذا الدين والعقائد والعادات والأخلاق والشعر واللغة... وغير ذلك. من هنا عمد المبشرون الأوائل بالحداثة إلى التفسخ الخلقي ونشر الإباحية والدعوة إلى الفوضى الجنسية وتزيين التعاطي للخمور والمخدرات باعتبارها داعما قويا لكل إباحية وشذوذ... وتكلم من تكلم عن الحداثة في السياسة والحكم، والحداثة في الاقتصاد، وفي الزراعة والتجارة والتعليم... إلخ، كما تكلم غيرهم في الحداثة في جانبها المؤسستي والتنظيمي في الإدارة والحكم وفي الجانب العلمي التجريبي ولا سيما في مجالات استعمال الآلات والتقنيات والتكنولوجيا. ومن المعلوم أن اليسار في العالم العربي والإسلامي عموما جريا على سيرة اليسار الغربي الذي استطاع محاصرة الديانات في دور العبادة، لا تبرحها، هو من يرفع راية الحداثة أكثر من غيره، حتى إنه ليجعل منها برنامجه الانتخابي ومرجعيته الفكرية وأنها رمز الدولة العصرية وأنها ترمي إلى التعددية والانفتاح على العالم واحترام الرأي المخالف وحرية المرأة... دون أن يتطرق للتفاصيل التي تضعه في مواجهة الأمة غير المستعدة للتخلي عن تاريخها وتقاليدها فضلا عن دينها وقيمها ولغتها... ولئن كان هناك يساريون يدعون إلى الحداثة لكن ليس على أساس محاربة الإسلام والقيم واللغة ، وأن كل ما يقصدونه هو الحداثة في جانبها التقني والآلي والعلمي حتى يتم تحديث الدولة في مؤسساتها وعمرانها وبنياتها التحتية وفي تحديث جيشها وأمنها ومجالات البحث العلمي فيها واستعمال التكنولوجيا لصالح الإنسان ونفعه... وأن الحرية سواء للمرأة أم للرجل تنضبط بقيم الدين الحنيف إلخ فلا فرق بيننا _ أنا ومن على شاكلتي _ في هذا التوجه وبينهم. لذا لا ضير أن أعلن على رؤوس الأشهاد بأنه إذا كان هذا هو المقصود بالحداثة فأنا حداثي وألف مرة حداثي وإن كنت أعتقد أن هذه المسائل كلها لا تخرج عن مجالات التشريع الإسلامي، فبعضها منصوص عليها بالنص، وبعضها يدخل في المباح والمندوب، وبعضها يمكن اعتباره من المصالح المرسلة، وهكذا... لكن شخصيا لا يضيرني أن يقول شخص ما هو حداثي بهذا الاعتبار. والضير والضرر هو الالتزام الحرفي بالحداثة وفق ما دعا إليها من سميتهم آنفا ثم التهجم على المعتصمين بدينهم وقيمهم ولغتهم بأنهم ظلاميون ومتخلفون ورجعيون ومتزمتون... إلى آخر ما في جعبتهم من قاموس التعيير وخسيس التعبير. إن ما أحب الإشارة إليه هو أن المسلم لم يكن في يوم من الأيام خصما أو حاجزا أمام تحديث المجتمع في هيكلته الإدارية والتنظيمية... ولا في عصرنة المجتمع بالتقنيات والتكنولوجيا ولا ما يرد عليه من الغرب والشرق من صناعات وأدوات وأجهزة وغير ذلك مما وفر على الناس الطاقات والأوقات وكثيرا من الأتعاب والمجهودات. بل إن المسلم الحق يعتبر ذلك من ضروريات العصر ومتطلبات الحياة الكريمة. وها هم المتدينون والملتزمون بدينهم أو من نسميهم بالإسلاميين أولئك الذين يوصفون ظلما وبغيا بالظلاميين... لا يختلفون في شيء في تسلقهم الدرجات العلى في مجالات العلم والظفر بالشواهد العليا في كل الفنون العلمية من طب وصيدلة وهندسة وتخصصات علمية مختلفة... كما لا يختلفون في شيء عن استعمال التقنيات العصرية في حياتهم اليومية... مع من ينعتون أنفسهم بالحداثيين... بل ربما وجدت من (الإسلاميين) من لا يجارى في هذا المجال. تبقى الحداثة في الدين والقيم والأخلاق واللغة على فهم ملاحدة فرنسا وروسيا وغيرهم منذ منتصف القرن التاسع عشر فما بعده لا قيمة لها عندنا نحن أهل القبلة مهما نعتنا المخالف بالنعوت القبيحة ولن يزيدنا ذلك إلا تشبثا بديننا واعتصاما بهويتنا وإصرارا على عرضنا وكرامتنا. والجدير بالذكر أن الحداثة فيما يرجع إلى عمقها الفلسفي والتاريخي وإلى الأهداف الحقيقية المتوخاة من اعتناقها ونشرها تبقى مهمة النخبة الضيقة ولا سبيل إلى تعميم ذلك بين أفراد الشعب الذي له من الحصانة الدينية والإيمانية ما يجعل الحداثي المنحل يفكر ألف مرة قبل أن يعرض تصوره الفلسفي والتاريخي عرضا واضحا على الشعوب... وإن كان للأسف قد تسرب إلى بعضنا من مظاهر الإباحية والمعصية ما قد تسرب، لكن ليس على أساس اعتناق مذهب (أدونيس) أو غيره، ولكن ضعفا أمام شهوة أو خضوعا لنزوة... مع استغفار الله تعالى... وكم هناك من فرق بين من يعاقر خمرا أو دعارة أو مجونا وهو موقن بمعصيته لربه لا يستنكف بين حين وآخر أن يطلب التوبة والغفران من خالقه... ومن يقترف ذلك باسم الحداثة بكل فخر واعتزاز... كما نرى هذه الأيام من أناس جعلوا من مؤخرتهم برنامجهم السياسي وعنوانا لحداثتهم القذرة. وهذا عبد الحميد أمين أحد رموز حركة 20 فبراير الحداثي جدا يقول بالحرف في شريط مصور له نشر على جريدة هسبريس الإلكترونية قبل أيام: [أين هو الضرر بالنسبة لشاب يمارس الجنس مع شابة ؟ لا نرى الضرر في ذلك.] (انظر ردي عليه في هسبريس وعلى موقعي الخاص وصفحتي على الفايسبوك). لماذا جعلنا الحداثة بضاعة يسارية في مقابل الجمود والمحافظة (وهذا في أحسن الأحوال) بضاعة إسلامية؟ حتى إذا ما قال أحدهم هذا حداثي فهم على الفور أن المقصود هو اليساري؟ إنها مغالطة. إذن هناك حداثة وحداثة، فعن أي حداثة نتحدث؟ أما حداثة الإطاحة بكل ما هو قديم، والانقلاب على كل ما هو تاريخي من دين وقيم وأخلاق وأنماط حياة وشعر وأدب ولغة... وحداثة بعثة الفوضى الجنسية ونشر الإباحية والشذوذ الجنسي وتعاطي الخمور والمخدرات... وحداثة استغلال المرأة في أنوثتها وجمالها واستغلال حسنها لتكديس الأموال على حسابها... فهذه حداثة سلبية وحضارة إبليسية لا تستهوينا ولا نمكن لها في مجتمعنا إلا في غفلة من أمرنا، حداثة من هذا القبيل مرفوضة وموضوعة تحت أقدامنا ولا كرامة. وأما حداثة تطوير المجتمع والسعي إلى عصرنته بتمكينه من استعمال كافة التقنيات والتكنولوجيا... لتزدهر فلاحته، وينمو اقتصاده، ويتكاثر عمرانه وتتحسن معيشته، في السكن والتعليم والإعلام والتغطية الصحية وبناء البنية التحتية...إلخ، فهذه حداثة نحن أحق الناس بها وأهلها، دعوة وممارسة، لا يزايد علينا فيها أحد. وهذا ما يجب أن يعلمه الناس بما فيهم الحداثيون أنفسهم ليعلموا فيما إذا كان فهمنا لهذه الحداثة فهما موحدا بيننا وبينهم أم لا. الموقع الرسمي: www.elfazazi.com البريد الإلكتروني: [email protected]