(1) (أدونيس) هو لقب الأديب السوري المعروف(علي أحمد سعيد)، الذي تجاوز الثمانين من عمره(ولد سنة1930)، والذي يقيم في باريس بفرنسا منذ 1986. الوجهُ المشهور لأدونيس أنه من شعراء الحداثة العربية الكبار، ومفكرٌ وناقد يمتاز بمواقفه وأطروحاته المتطرفة في رفض الماضي، في كل تجلياته، ورفضِ القواعد والأصول، في الإبداع خاصةً، كما يمتاز بتحيّزه السافر وتعصّبِه الشديد ودفاعِه عن كل ما يعارض الدينَ، وينقضُ أصولَه، ويتجاوز شرائعَه وأحكامَه وآدابَه وأخلاقَه. هذه، في اختصار شديد، أبرزُ ملامح وجه أدونيس الحداثي المتمرد الرافض الهّدّام؛ وصِفاتُ "الرافض" و"الهدّام" وما شابهَها ليست من عندي، فهذا أدونيس نفسُه يصرح في حديث كان معه منذ سنوات أن أمنيتَه هي أن يكون "الهدّام الرافض"، لا أن يكون رافضا هدّاما من بين هدّامين رافضين. وهذا يعني أن الرجلَ كان يطمح ألا يكون له شريكٌ في الرفض والهدم. ولا أشك أن هذا الطموحَ ما يزال يصاحب الرجلَ، وهو في خريف العمر. والذي يقرأ السطورَ وما تحتَ السطور لا يفوته أن يحس بروح الرجل الرافض الهدّام تشيع في الرسالة المفتوحة التي كتبَها مؤخرا إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وأيضا في رسالته المفتوحة إلى المعارضة السورية. (2) "الإلحادُ كان أولَ شكل للحداثة" في التاريخ العربي الإسلامي. هذا حكمٌ لأدونيس أوردَه في كتابه "الثابت والمتحول"، وله، في معنى هذا الحكم، كلامٌ لا يُعَدُّ ولا يُحصى، في كتاباته ومقالاته وحواراته واستجواباته وغيرها من أنشطته المكتوبة والمسموعة والمرئية. هذا الحُكْمُ الأدونيسي يُؤسّسُ ما أعتبره (المُسَلَّمَةَ الحداثيّةَ الأدونيسيةَ)، التي انبنَتْ عليها كلُّ آرائه ومواقفه وقراءاته وأطروحاته ونظراته، في التاريخ والأدب والسياسة والنقد وغيرها من مجالات الفكر والمعرفة والتحليل والتقويم. ومن أمثلة استنتاجات أدونيس العديدةِ الظالمة الشاذّة، التي بناها على مُسَلّمَته هاته، أن جميعَ شعراء العربية الكبار، كالمتنبي، وأبي تمام، وأبي نواس، وأبي العلاء المعري، كانوا مُلحدين، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. هذا المثالُ، في رأيي، كافٍ لنتبيّنَ مدى الغرابة والتعسف ، إلى حدّ التجنّي والإسفاف، الذي وصله أدونيس في آرائه، التي التزمَ فيها مُسلَّمَتَه الإلحاديةَ حرفيا، لم يحِدْ عنها قيد أنملة طَوال حياته. باختصار، عند أدونيس، لا حداثةَ مع إيمان، ولا مع إسلام. (3) أن يكون أدونيس ملحدا، وأن يملكَ الجرأةَ لإعلان ذلك على الملأ بلا لفّ ولا دوران، فذلك شأنُه، وليس في هذا ما يُعطيه مزيّةً بين الناس، أو يرفعُه درجةً فوق البشر، لأن الإلحادَ موجود في الدنيا منذ كان في الدنيا إيمان، وسيظل الاثنان موجودين متناقضين متدافعين متنافيين أبدَ الدهر. ومُسْلمٌ مثلي لا يملك، في هذه الحالة، إلا أن يتلوَ قولَ الله تعالى، من سورة الإسراء: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، فَرَبُّكُم أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا). صدق الله العظيم. ولكن، حينما يصبح هذا الاختيارُ الإلحاديُّ مشروعَ حياة ونضال، ويتحولُ من اعتقاد شخصي إلى مرجع "متعال"، ومعيارٍ مطلق للحكم على الناس ومعتقداتِهم واختياراتهم وسلوكاتهم، فإن الأمر يفرض علينا أن نقف موقفا غيْرَ الموقفِ الذي نقفه بإزاء شخص شاءَ أن يكفرَ، واختار ألا يُؤمنَ بدين، لكنه لم يتخذ اختيارَه هذا أساسا للطعن على مخالفيه، وتجريحِ معتقداتهم، والعملِ من أجل فرض اختياره "دِينا" جديدا يتوجّب اعتناقُه والتسليمُ به. بعبارة أوضح، لا شأن لنا بأدونيس الملحدِ ما دام محتفظا بإلحاده لنفسه. أما حينما يصبح هذا الإلحادُ إديولوجيةً مَرجعيةً مُعْلَنةً للنظر إلى الإنسان والحياة، ونقدِ المعتقدات والأفكار، ونقضِ النظريات والاجتهادات، فإننا عندئذ نكون معنيّين بالرّد والنقد والتوضيح، ليعرفَ الناس أن أدونيس، الذي اشتهر، عندهم، بأنه أديب شاعر حداثيٌّ متمرد، هو نفسُه أدونيس الملحدُ المحاربُ للإسلام، دينِ الغالبية من الشعوب العربية، والداعي إلى رفض هذا الدين وتجاوزه، بل والمجتهدُ في نقض أصوله والتشكيك في قطعيّاته والاستهزاء بسننه وأخلاقه. وفي ما يلي أمثلة توضيحية. سأقتصر، فيما سأورده من كلام أدونيس في هذه الأمثلة، على ثلاثة كتب صدرت بالفرنسية، وهي على التوالي: "Identité inachevée"(هويّة ناقصة (أو غير مكتملة)، ط1، 2004. وهذا الكتاب في أصله أحاديثُ لأدونيس سجّلها وصاغها وأخرجها (شنتال شواف). والكتاب الثاني" Conversations avec Adonis mon père" (محادثات مع أدونيس أبي) ل(نينار إسبر)، وهي ابنةُ أدونيس. ظهر في طبعته الفرنسية الأولى في شهر مارس 2006. والكتاب يضمّ محادثات دارت بين البنت وأبيها في عدة جلسات امتدت من نونبر2003 إلى شتنبر2004. والكتاب الثالث "Le regard d'Orphée"(نظرة أورفي)، وهو عبارة عن حوارات مطولة، في الدين والفلسفة والسياسة والأدب وغيرها من مجالات الفكر والمعرفة، أجرتها الباحثةُ (حورية عبد الواحد)، الأستاذة المحاضرة في جامعة (باريس7)، مع أدونيس. وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2009. و"Orphée"(أورفي) هو اسمٌ لأحد الأبطال الخالدين في الأساطير الإغريقية القديمة. وقد اشتهر بالشعر والموسيقي، وكان لعزْفه قوة السحر الخارقة، التي مكّنته من بسط سيادته على كثير من المخلوقات، وإخضاعها لإرادته. وزعموا أنه هو المؤسس الأسطوري لحركة دينية تُدعى "الأورفيّة"، بصيغة المصدر الصناعي في العربية، التي تقابل صيغة "Orphisme" الأجنبية، التي تفيد فيها اللاحِقةُ"isme" معنى المذهبية. (4) قد لا نلتفت إلى قول أدونيس عن نفسه إنه "صوفي وثني"(هويّة ناقصة، ص30)، وأن صوفيتَه "مُفْرَغةٌ من المضمون الديني...وأن كلَّ مبدِع هو نبيٌّ...وأنه لا فرقَ، في صوفيَّتِه الخاصّة، بين الإنسان وبين ما نسميه اللهَ"(نفسه، ص11). وقد لا نلتفت إلى دفاعه عن الإلحاد بأنه "هو أيضا عقيدة"، وأنه، أي الإلحاد، "يحرر الإنسان من الحواجز الميتافيزيقية التي تمثلها الديانات التوحيدية"(نظرة أورفي،102). وقد لا يهمّنا كثيرا اعترافُه بأنه تلميذ نجيب ومخلص لفلسفة أستاذه (نيتشه) الإلحادية، وأنه "انجذب إليه بسبب فكره الثوري الرافض للدين"، ومنه تعلمَ "رفضَ ثبات المبادئ الدينية وثبات الفكر العربي"(نفسه،99)، وأنه "سار على خطاه في محاولة انتقاد الإسلام من أجل بناء التاريخ العربي الإسلامي بأفق جديد"(نفسه،103). وقد لا نُعير أدنى اهتمامٍ لحكمه الجازم بأنه "إن كان هناك من شعور روحي عميق، فلن يكون إلا خارج الدين..."(نفسه، 274). يمكنُ أن نُعرض عن مثلِ هذه الجهالات والادعاءات والدفاعات، وهي كثيرة في كتابات أدونيس، ونحْمِلُها على أنها شطحاتٌ من شطحات الملحدين، لا ينوء بوزرها إلا صاحبُها، ونمرُّ غيرَ مستَفَزّين، ولا جاهِلِين، ولا ناقِمين. لكن "المؤمنين" يصبحون مَعنيّين حينما يتجرأ أدونيس، ومَنْ على شاكلته من الملحدين المُناضلين "المُحَارِبِين"، ويتناولُ دينَهم مباشرةً بالطعن والتجريح والتشكيك، وليس له من دليل ولا حجة إلا هواه ونفسُه ودينُه "الوثني". ومن أمثلة ذلك قولُه، في (هوية ناقصة)، ص38: "لا يُرجَى من الدّين اليومَ نفعٌ...فهو رمزٌ لتخريب المجتمع، لأنه يجعل المجتمعَ يُشبه قبيلةً بدائيةً"، واعتقادُه "أن الدين ارتكاسٌ على عدة مستويات...وأنه كان جوابا على مرحلة أصبحت من الماضي..."(نظرة أورفي، ص279-280). ومن ذلك ادعاؤه، على طريقة الملحدين الراسخين في الكفر والجحود، أن "فكرة الله[لاحظ؛ اللهُ، تعالى وتقدّس، مجرد فكرة] هي من اختراع الإنسان للتصدي لإشكالية الغيب والموت..."(محادثات مع أدونيس أبي، ص163). الدينُ، بمنظار أدونيس الملحد المُناضِل، ارتكاسٌ وتقهقر وتخلفٌ، لأنه، في زعمه، أضْعفَ التجربةَ الإنسانية بجعلها تحت وصاية النظرة الدينية، وشكَّك في قدرات العقل وقوته وأهميته، وحوّل الإنسان إلى قطيع يحكمه التقليدُ والقواعد الجامدة(نفسه، ص279). فعقيدةُ التوحيد، في زعم أدونيس الملحد، تُضادّ روحَ الفكر والحرية والإبداع، وتُناقض التقدّمَ والحداثة والمستقبل. أما عقائدُ الشّرك والوثنية، فقد كانت، في زعمه، "أكثر حريةً وأكثر إنسانيةً، وكانت أخصبَ خيالا وإبداعا"(نفسه،273). عقيدةُ التوحيد، في زعم أدونيس الصوفي الوثني، كما وَصَفَ نفسه، "لا تحجبُ المعرفةَ فقط، بل تحجب المخلوقَ البشري أيضا. ولا يمكن للإنسان أن يتقدّم في تفكّره في العالم والوجود إلا إذا تحرّر من هذا الحجاب الذي يفرضه النص الديني، قرآنيا كان أم إنجيليا"(نفسه). المؤمنون معنيّون بهذا الخطاب الإلحادي الأدونيسي، لأنه خطاب "قتالي"، ينتصرُ للشرك والوثنية على التوحيد، وللإلحاد على التديّن، وللفكر المنطلق بلا قيود ولا حدود على الوحْي المقدّس وتوجيهاته وأحكامه وآدابه. بل يصبح المسلمون مضطرين للتدخل والاعتراض والردّ والرفض والإدانة، حينما يتم التهجمُ على الإسلام بعبارات غاية في الإسفاف والحقد والكراهية واللاموضوعية، وحينما يتقدم الملحدُ إلينا في صورة مُصلح ناصحٍ أمين، يُعلمنا كيف نخرج من تخلّفنا، وكيف نتحرر من قيودنا، وكيف نعانق المستقبل وأفقَ الحرية والحداثة والإبداع. يتقدم إلينا الملحدُ داعيا ومُوجّها، وذلك من طريق الطعن في ديننا، والاستهزاء بمقدساتنا، بل وتصوير الإسلام على أنه دينٌ لا يعتنقه إلا الفاشلون اجتماعيا وجنسيا، والعاجزون عن التواصل مع الآخرين، والذين لا يستطيعون أن يبدعوا، وليس لديهم شيء يقولونه(محادثات مع أدونيس أبي، ص185). ولم يكتفِ الخطابُ الإلحاديّ الأدونيسيّ بالطعن والتجريح في ظواهر الناس، بل تعدّى ذلك إلى بواطنهم وسرائر قلوبهم. ف"الإسلام[في زعمه] أصبح اليوم دينا أو مذهبا مفروضا بالقوة، وجزءٌ كبيرٌ من المسلمين أنفسهم لا يؤمنون به، لكنهم مضطرون لادّعاء العكس والخضوعِ لقواعد هذا الدين"(نفسه، ص168-169). المسلمُ الذي يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ليس مسلما، وإنما هو مدّع ومضطر!! من قال هذا البهتان؟ قاله أدونيس الملحدُ، لأنه شقَّ على صدور الناس، وعَلِم بعلمه الحداثي الخارق العجيب المُحيط بالظواهر والبواطن، أنَّ نُطقَ المسلم بالشهادتين ما هو إلا ادعاء يناقض حقيقة إيمانه، التي هي إلحادٌ وكفرٌ وتمرد ورفض. ويَلِجُّ أدونيس في التطاول على سرائر الناس، ويتمادى في هرطقاته العبثية واستنتاجاته الغارقة في اللامعقول، فيرى "أن جميع العباقرة العرب الذين نبغوا في الإسلام، من أبي نواس إلى المعري، وجميعَ كبار الشعراء والفلاسفة، كانوا لادينيين. ولم تَخرُجْ من الدّين مباشرةً ولا فكرةٌ واحدةٌ، مثلما يخرج العطرُ من الوردة. فالمفكرون والشعراءُ خلقُوا ورودا جديدة للحصول على عطر آخر"(نفسه، ص146-147). "كبارُ الشعراء رفضوا الإسلام بصورة قاطعة"(نظرة أورفي، ص150). و"الشعر، على طول تاريخه، كان معاديا للدين"(نفسه،151). أليس في هذه الأحكام الأدونيسية العامة الجازمة جنايةٌ فاضحةٌ على حقائق التاريخ الساطعة، التي لا سبيل إلى إنكارها والتدليس على الناس في شأنها؟ أليست هذه الجرأة من أدونيس، التي ما بعدها جرأة، على تزوير الوقائع والأحداث الثابتة من عدّة طرق، وفي أكثرَ من مصدر، وعلى الكذب الصُّرِاح على المسلمين، والطعنِ في عقائدهم، وتجاوزِ هذا الطعن إلى نِسبَتهم إلى الإلحاد وهم مسلمون، تشهد بإسلامهم المصادرُ المتعددة، كما يشهد به تراثُهم النثريّ والشعريّ- أليست هذه الجرأة من أدونيس كافيةً للحكم على ما صدرَ عن أدونيس، في شأن تراثنا العربي الإسلامي، بأنه عملٌ لا يتمتع بأدنى مصداقية، وأنه بعيدٌ كلَّ البعد عن الموضوعية والعلمية والإنصاف واحترام قواعد البحث الرزين؟ كيف يجرؤ هذا الرجلُ، مثلا، على إخراج أبي نواس من زمرة المسلمين وحَشْرِه قسْرا في زمرة الملحدين، وهذا شعرُ أبي نواس بين أيدينا، يشهد بأن الرجلَ ما خرج يوما من دائرة الإسلام رغم ما اشتهر به من مجون وولَع بالخمرة ومجالسها، وتخصيصِ جزء كبير من شعره للاحتفاء بها ووصفِ شدّة تعلقه بها. في ديوان أبي نواس قصائدُ يُعبر فيها الرجل عن توبته وعن طمعه في عفو الله، وهي قصائدُ تصوّر لنا بصدق ووضوح رجلا مسلما كان منه، في حياته، ما كان من غفلة ولهو وعبث، ثم هو في النهاية تائب يرجو العفو من خالقه لا من سواه. ومن شِعْر أبي نواس المشهورِ في هذا الباب قولُه: يا ربّ، إن عظُمت ذنوبيَ كثرةً***فلقد علمت بأن عفوَك أعظمُ إن كان لا يدعوك إلا محسنٌ***فبمَنْ يلوذ ويستجير المجرمُ؟ أدعوك، ربِّ، كما أمرت تضرّعا***فإذا ردَدْت يدي،فمَنْ ذا يرحم؟ ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا***وجميلُ عفوك، ثمَّ إنيَ مسلمُ وقُلِ الشيءَ نفسَه عن أبي تمام، وعن المتنبي، وعن المعري، وغيرهم من شعراء العربية العظام، الذين أخرجهم أدونيس الملحدُ من دائرة الإسلام قسْرا وتعسفا وظلما وتزويرا وبهتانا، وسَلَكهم في عصابة الملحدين الجاحدين الرافضين المتمردين على الله ورسوله وقرآنه وشرائعه، ليصنعَ بذلك مصداقيةً تاريخيةً لمُسَلَّمَته الإلحادية، التي تقول إنه لا إبداعَ، ولا حداثة، ولا فكر، ولا عبقرية، إلا خارج الدين وتعاليمه وآدابه. تتمة الحديث في المقالة القادمة، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين. مراكش: 17 يوليوز 2011